أثار نفيُ جمهوريّة جنوب السودان، نيّتَها تخصيص قطعة أرض حدوديّة لمصر بغرض إقامة قاعدة عسكريّة، على مقربة من سدّ النهضة الإثيوبي تساؤلاتٍ كثيرةً بخصوص رغبة مصر من عدمها في الحصول على قواعد عسكريّة خارجيّة بشكل عام، وفي جنوب السودان بشكل خاصّ، وحقيقة ارتباط إثيوبيا بالأمر فعلاً، ودوافع إثارة هذه المسألة، ثم نفيها.
ولعلّ نظرةً تحليليّة وتاريخيّة على هذا الملفّ قد تساعدنا في الإجابة عن كثير من هذه التساؤلات، بدايةً من بيان الخارجيّة السودانيّة نفسه، الّذي لم ينفِ، للمفارقة، طلبَ مصر بناء قاعدة عسكريّة في هذه المنطقة، مشيراً إلى أنّ الوجود المصريّ في ''باجاك'' ذو أغراض تنمويّة بحتة.
مع الأخذ في الاعتبار أنّ الصحيفة التي نشرت الخبر للمرة الأولى، والّتي نقل عنها الجميع لاحقاً، بما فيها المواقع السودانيّة، لم تتحدّث عن بناء قاعدة بشكل عام، وإنما أشارت إلى الموقع، وعدد الجنود، والسبب، والموافقة؛ وذلك في مقابل غياب النفي المصريّ على لسان المتحدّث العسكريّ، الذي كان بوسعه -كما عوَّدَنا- أن يخرج في بيان منشور على صفحاته، يقول فيه ما معناه: إن مصر لم تطلب، ولا تتطلع لإنشاء قواعد عسكرية خارجية. ولكن ذلك لم يحدث.
ليست الأولى
عطفاً على ما سبق، فإنَّ ما ينبغي لنا معرفته أنَّ هناك شواهد متضافرة على وجود رغبةٍ مصريّة قديمة، منذ عهد مبارك، جرى توارثها فيما يبدو، لطرح الحلّ العسكري في مشكلة سدّ النهضة، عبر إقامة قاعدة عسكريّة خارجيّة في إحدى الدول المجاورة لإثيوبيا.
فبحسب ما ذكره معهد ''ستراتفور'' الأمني، ونقلته عنه ''بيزنس إنسايدر'' في وقت لاحق، فقد اتفقت القاهرة والخرطوم، في مايو/أيار 2010، على إنشاء قاعدة جويّة صغيرة في مدينة ''كاوتسي'' السودانيّة، بغرض إيواء وتدريب بعض عناصر القوات الخاصة المصريّة التي قد توكَل إليها مَهمة التعامل العسكري مع مشروع السدّ.
وفي مطلع أبريل/نيسان 2017، قالت بعض الجماعات المعارضة في إريتريا، إن حكومة بلادها قد وافقت على منح القاهرة الحقَّ في إقامة قاعدة عسكريّة على أراضي جزيرة ''نورا''، التي تبلغ مساحتها 105كم²، وتعتبر ثاني أكبر الجزر في أرخبيل ''دهلك''، ومن المقرر أن تؤوي عدداً كبيراً من الجنود المصريين، يصل إلى 3 آلاف جندي. وهو ما سنجدُ صداهُ لاحقاً في الأوساط الأمنيّة ''الإسرائيليّة'' نفسها.
كما أُشيع قبل ذلك، وبعد ذلك، دون تحديد، أنَّ مصر قد تكون لديها رغبةٌ في إنشاء قاعدةٍ عسكريّة في دولة جيبوتي، مستفيدةً من التسهيلات التي تقدّمها هذه الدولة إلى البلاد الراغبة في بناء قواعد على أراضيها، وعلى رأسها رخص أسعار تأجير هذه القواعد.
وفي أكتوبر/تشرين الأوّل من العام الماضي، سرى في الأرجاء خبرٌ يقول إنّ القاهرة، الّتي منحت الرياض جزيرتين استراتيجيتين ضمن ترتيبات إقليميّة في سياق إعادة رسم الجغرافيا السياسيّة للمنطقة، سوف تحصل في المقابل على إحدى الجزر الواقعة ضمن أرخبيل ''فرسان''، بغرض إقامة قاعدة عسكريّة تشرف على هذه المنطقة.
هذه الشواهد المتتالية تُعزز فرضيّة طلب القاهرة من جوبا فعلياً إنشاءَ قاعدة عسكريّة صغيرة على أراضيها، وبالقرب من سدّ النهضة، ولكن هذه الرغبة، في الوقت الحالي، تطرح مزيداً من التساؤلات، وعلى رأسها: لماذا يريد النظام المصريّ ذلك؟
تغيير العقيدة العسكرية
واحدة من أبرز الإشارات الواضحة في الخطاب السياسي لممثل دولة الثالث من يوليو (تموز)، عبدالفتاح السيسي، أن الحقبة السابقة (حقبة مبارك) قد تقاعست في إدارة البلاد على النحو المطلوب، داخلياً وخارجياً، مخلّفةً فجوةً زمنيّة هائلة بين ما ينبغي وما هو قائم، ما تسبَّب في خسائر فادحة لمنظومة الأمن القومي المصري.
ومن منظور عسكريّ بحت، يبدو واضحاً أن السيسي يعمل، منذ وصوله إلى السلطة، على تغيير العقيدة العسكرية للجيش المصري، ومن ثمّ إعادة هيكلته داخلياً، بحيث يصبح مؤسسةً ''غير نمطيّة''، قادرةً على تنفيذ الكثير من المهمات ''المختلفة'' داخلياً وخارجياً، ما إن يطلب منها ذلك. ويدخل في تعريف هذه المهمات بطبيعة الحال التهديدات الفعليّة الّتي ورثها عن مبارك، مثل ملف المياه وأعالي النيل، والتهديدات المستحدثة، مثل ملف الإرهاب والأعداء الإقليميين الجدد.
لذلك، عمل السيسي على ''إعادة توزيع الانتشار العسكريّ المصريّ بالداخل'' لكي يحقق منه الاستفادة القصوى في التعامل مع هذه التهديدات، وهو ما تجلّى في تدشين/ إعادة إحياء عدد من القلاع العسكريّة الضخمة، مثل قاعدة محمد نجيب البريّة، الّتي تبلغ مساحتها 18 ألف فدان على الاتجاه الشمال الغربي، وتعدّ الأكبر في إفريقيا، وقاعدة برنيس الجو/ بحريّة، على الاتجاه الجنوبي الشرقي، الّتي تعد ثاني أكبر قاعدة عسكريّة في العالم، وقيادة قوّات شرق القناة الّتي تشرف على عمل أكثر من 40 ألف عسكري في سيناء.
كما يخطط السيسي لتطوير معظم القواعد الجويّة العاملة في البلاد حالياً، وتدشين ثلاث قواعد بحريّة جديدة في: شرق بورسعيد (المدخل الشمالي للقناة وصولاً إلى العريش)، وراس بناس في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، وجرجوب، غرب مطروح.
ومما يستشفّ من الصفقات العسكريّة الجديدة، مع الإقرار بالشق السياسيّ فيها، أنها تنطوي على استعداد وتشي باحتماليّة العمل العسكري خارج الحدود، دفاعاً أو هجوماً، حيث نجد اهتماماً جديداً لم يُعهد في السابق عند العسكريّة المصريّة برادارات ما وراء الأفق، والطائرات ذات المديات البعيدة، وأقمار التصوير فائقة الجودة، والصواريخ الجوّالة، والذخائر الخارقة للتحصينات بعيدة المدى، وسفن الإنزال الضخمة، وطائرات النقل العملاقة.
احتياجات قائمة
ورغم كلّ ما سبق، فإن هناك عدداً من ''المشكلات الفنيّة'' القائمة في التعامل مع التهديدات الجنوبيّة، وبالأخصّ ملف سدّ النهضة، والذي فرض على القاهرة السعي الحثيث للحصول على قاعدة عسكريّة خارجيّة.
فقاعدة برنيس الجويّة العملاقة، رغم أهميتها الاستراتيجيّة التي لا يمكن الاختلاف عليها في تأمين المدخل الجنوبي لقناة السويس، وإعطاء ميزات إضافيّة في سرعة الانتقال إلى الخليج العربي حال الحاجة إلى ذلك؛ فإنها تبعد عن سدّ النهضة، إذا ما سلكتِ الطائرات مسار البحر الأحمر نحو ألفي كيلومتر، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الطريق ذهابٌ وعودة.
ويمكن تقليل هذه المسافة نسبياً إذا ما سلكتِ الطائراتُ المصريّة المجال الجويّ السودانيّ نظريّاً، ولكن بشكل عمليّ يصعب تصور موافقة الخرطوم، الّتي رفضت دعم القاهرة في ملف سد النهضة بالجامعة العربيّة، ورفضت التوقيع بالأحرف الأولى على مخرجات مفاوضات واشنطن رغم التوقيع المصريّ، على مرور الطائرات المصريّة من سمائها.
وبالمثل، فإن طائرات الرافال، وبالرغم من مساهمتها الهائلة في تعزيز مديات طيران سلاح الجو المصري بشكل يفوق قدرات طائرات ''الإف 16'' نظرياً، سوف تضطرّ عملياً إلى تقليص حمولتها التسليحيّة إلى النصف تقريباً لتصبح ''5 أطنان من الذخيرة'' فقط على كل مقاتلة (بدلاً من 10) في حال لجأت إلى تفعيل الطيران على أقصى مدى ممكن باستخدام الـ3 خزانات الإضافيّة من الوقود، لتصل إلى مدى 3500 كم طيران فعلياً، ما قد يُضعف قدرتها على التعامل مع بناء ضخم بحجم سد النهضة. وينخفض هذا المدى إلى النصف تقريباً إذا قررت استخدام حمولتها كاملة، وهذا يعني أنها بالكاد ستصل إلى الهدف، وقد لا تصل، فضلاً عن أن تعود.
نستبعد ''التايفون''، و''السوخوي'' في الوقت الحالي، نظراً لأن القاهرة لم تتسلمهما بعد، كما سيتطلب الأمر مزيداً من الوقت لاكتساب الخبرات الملائمة لهما. كما نستبعد ''ميج 29'' لأنها مُصمَّمة في الأساس كمقاتلة دفاع جوي/مضادة للسفن. بالإضافة إلى أن القاهرة رغم كل هذه الصفقات لم تحصل على طائرات تزود بالوقود جواً، وتعتمد على أساليب بديلة مثل ''الإرضاع الجوي، مقاتلة إلى مقاتلة''.
لذلك، كان أقصر الطرق على القاهرة حال التحرك العسكري ضدّ السدّ، أو التلويح بذلك، أو من أجل تأمين نفوذ حيوي خارجي باتجاه الجنوب، في ظلّ أسبقيّة كلّ الفاعلين الإقليميين في هذا المضمار، مثل تركيا وإيران وإسرائيل الذين يملكون قواعد رسمية أو غير رسمية في منطقة القرن الإفريقي، أن تبحث عن أي قاعدة جويّة أو بحريّة هناك.. ولو في جنوب السودان.
لماذا جنوب السودان؟
من الواضح أن إثيوبيا، خاصة في عهد آبي أحمد، فطِنت لهذه الرغبة المصريّة في الخروج من مجالها التقليدي إلى منطقة القرن الإفريقي، والّتي ستسفر عن تهديد سد النهضة بالضرورة فراحت تقطع الطريق مستغلةً سلاح ''الجغرافيا السياسيّة- الاقتصاديّة'' لتحييد القاهرة، وضم حلفائها المستهدفين إلى أصدقائها.
فأبرمت أديس أبابا اتفاق سلام مع عدوتها التاريخيّة ''إريتريا'' من خلال الزيارات الثنائية المتبادلة، يوليو/تموز 2018، والتي أسهمت في حصول ''آبي أحمد'' على ''نوبل'' في السلام لاحقاً.
كما أعلنت نهاية العام الماضي إعادة تموضع بحريّتها بالتّماس مع سواحل جيبوتي، بالإضافة إلى دورها المعروف في احتواء السودان عبر رعاية اتفاق إدارة المرحلة الانتقالية بين الجيش والمدنيين. بالتأكيد لم يكن تحييد مصر هو الهدف الوحيد في هذه التحركات، ولكنه كان بلا شك أحد الأهداف الرئيسية منها.
فلم يعد أمام مصر، بعد استبعاد الصومال الواقعة تحت النفوذ التركي، إلا أن تلجأ لحليفها التاريخي من قبائل الدنكا ''سلفا كير''، وحتى ندرك النفوذ المصري في جوبا تاريخياً ينبغي لنا معرفة اتهام القاهرة بقصف مواقع خصمه التقليدي ''رياك مشار'' في الحرب الأهليّة الممتدة من 2013 إلى 2018، وإشراف القاهرة في الوقت الحالي على عدد كبير من مشروعات البنية التحتيّة، والتعليم والصحة والطاقة والصناعة، في جوبا العاصمة وولايات بحر الغزال والوحدة وغرب الاستوائية.
وبالإضافة إلى امتلاك القاهرة النصيب الأكبر في قوة حفظ السلام الأممية بجنوب السودان، فإن الجسور الجويّة ''العسكريّة''، المحملة بالمساعدات الإنسانية، لا تكاد تنقطع بين البلدين، بدايةً من عام 2017 وليس انتهاءً بأزمة كورونا. وللمفارقة فقد رجّح أحد الخبراء الاستراتيجيين أن يلي الجسر الجويّ الأخير إعلانٌ ''عسكري'' مهم، وهو ما حدث بإعلان موقع ''الاستخبارات الإفريقية'' خبر القاعدة العسكريّة الأخير فعلاً.
لماذا رفضت جوبا؟
ما يمكن قراءته من مضمون حديث الصحافة الجنوب سودانيّة، والصمت المصريّ، وتسلسل الأحداث، وموقع القاعدة، هو أن جوبا قد أعطت القاهرة موافقةً مبدئيّة، هي موافقة ''المُضطرّ'' المَدين بالكثير للطالب، بينما كان من المستحيل تحققها عملياً.
فالموقع الّذي منحته لمصر باعتباره أرضاً قريبةً لسدّ النهضة نسبياً، فضلاً عن كونه ''ليس الأقرب'' يعتبر محلّ تنازع بين سلطة الدولة (الدنقا) والمتمردين (النوير)، إن لم يكن خارجاً عن سيطرة الدولة بالكليّة، وخاضعاً لحسابات قَبليّة وإقليميّة معقدة، كما أكد كثيرٌ من الخبراء، ومن ثمّ كان طبيعياً أن تؤول الأمور لما آلت إليه في بيان الخارجية، الّذي أغلق ملف حصول مصر على موضع عسكريّ هناك للأبد.
والسبب في خذلان جنوب السودان مصرَ في هذا الملف، علاوةً على الاتفاق العسكريّ بينها وبين إثيوبيا، يرجع إلى اختلاف طبيعة الدعم المقدّم للدولة من كلّ من القاهرة وأديس أبابا؛ فإذا كانتِ الأولى تدعم جوبا في ''الْيَومي'' بفضل خبرات كوادرها البشريّة وشركات المقاولات بكفاءة؛ فإن الأخيرة، وهي الأقدر سياسياً في هذه المنطقة، تُبشِّر جوبا، الغنيّة بالنفط، بكسر قيود الجغرافيا، نظراً لافتقادها للبنية التحتيّة العابرة الحدود، بالإضافة إلى كونها دولة بلا سواحل (حبيسة).
بشكل عمليّ، ينخرّط كل من إثيوبيا وجنوب السودان في حزمة هائلة من مشروعات ''الرّبط البرّي، والتسهيلات الجمركيّة، والتصدير عبر الغير'' ضمن إطار ثنائيّ أو سياقات مشتركة مع دول الجوار مثل كينيا وجيبوتي، وللمفارقة فإن أحد أبرز مشروعات الربط البرّي بين أديس أبابا وجوبا، وهو مشروع ربط بين محورين حدوديين، يصل إلى ''باجاك'' نفسها، موقع القاعدة المصريّة المنشودة. بالنسبة لجنوب السودان، فإن ما يقدّمه الجيران الإثيوبيّون لهم سيكون فارقاً إيجابياً في مستقبل هذه الدولة الوليد على المدى البعيد. أي أن أديس أبابا ''حليف استراتيجي'' لجوبا.
مستقبل طموحات القاهرة
وفق هذه المعادلة، فإن فرص مصر في الحصول على قاعدة خارجيّة في هذه المنطقة لتحقيق الأهداف السابق ذكرها، وعلى رأسها حجز مقعد في رقعة النفوذ بمنطقة القرن الإفريقي، قد تقلّصت إلى حدودها الدُّنيا، إن لم تكن انتهت بالفعل، ما لم يكن هنالك دعم ''خليجي'' لهذه الخطوة مستقبلاً.
ولكن لا يزال أمام مصر فرصٌ كثيرة ''متوازية'' للعمل الفعَّال في ملف سدّ النهضة، سواء كان ضغطا سياسياً بعد نجاح القاهرة في إحراج أديس أبابا أمام المجتمع الدولي، مرة عند انسحابها من مفاوضات واشنطن، التي رعتها إحدى أبرز الجهات الممولة للسد، البنك الدولي، في الجولة الأخيرة، ومرّة أخرى عند إعلان رئيس الوزراء السوداني رفضه عرضاً من نظيره الإثيوبي لتوقيع اتفاق ''ثنائي يستبعد مصر'' قبل ملء الخزان.
كذلك في المجال العسكري، فإنّ خيار قاعدة ''برنيس''، رغم صعوبته النسبيّة، لا يزال قائماً، وهو ما لوّح به العقيد ياسر وهبة، الذي يعده كثيرون المتحدث الرسمي الحقيقي باسم القوات المسلحة، والرجل المقرب من السيسي، خلال افتتاح هذه القاعدة، مطلع هذا العام.
هذا، فضلاً عن الدعم العسكري والمالي الذي بات معروفاً عن القاهرة توجيهُه إلى الجماعات المناوئة لأديس أبابا في الصومال وإريتريا والسودان، والذي ظهرت بوادره بوضوح في مناسبات كثيرة مؤخراً، اعترفت بها إثيوبيا، منها محاولات استهداف سدّ النهضة نفسه بشكل تخريبيّ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.