كنت قد كتبت هذه المقالة عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن بنود "صفقة القرن"، وما رافق ذلك من دعوات وتوقعات بأن يخرج الشعب الفلسطيني في احتجاجات عارمة لإسقاط تلك الصفقة. وذلك "لأبشّر" بأنه لن تكون هناك ثورة ولا انتفاضة ولا احتجاجات عارمة ضد الصفقة، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث إنما هو حفنة مظاهرات غير عفوية خجولة من حيث العدد والأثر. وهذا ما حصل وقتها.
ولأن عملية "الضم" الإسرائيلية للأغوار والمستوطنات في الضفة الغربية باتت أمراً وارداً بشدة، وأنها قد لا تعدو أن تكون مسألة وقت فقط، فإن النداءات للوقوف في وجه المخطط الإسرائيلي والتحذيرات من رد فعل الشعب الفلسطيني؛ قد بدأت بالظهور والتنامي مجدداً. ونظراً إلى أن الظروف منذ الإعلان عن الصفقة وحتى اليوم لم تتغير، فإن احتمالية أن نشهد احتجاجات أو ثورة فلسطينية تبقى احتمالية ضعيفة أو شبه معدومة. فالمراقب والمحتك بالشارع الفلسطيني يستيطع أن يرى حالة من اللامبالاة تعتري عموم الفلسطينيين وتجعلهم غير مكترثين لا بصفقة القرن ولا بعملية الضم، كأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد. فلماذا هذه اللامبالاة الشعبية إزاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من خطط تستهدف وجوده وكينونته؟
والحقيقة أن هذه اللامبالاة الشعبية ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكم سنوات طويلة، أسهمت السلطة الوطنية الفلسطينية في جزء كبير منها، فما الذي حدث؟
بداية، لقد عاش الشعب الفلسطيني بأجياله المختلفة تاريخاً نضالياً حافلاً منذ بداية المشروع الصهيوني، على شكل ثورات وانتفاضات متتالية. أي إن الشعب الفلسطيني مازال منذ أكثر من مئة عام منخرطاً في حالة من النضال والتضحية المتواصلة، ولكن معظم تضحياته -إن لم يكن كلها- قد ذهبت سدى، وهذا ما تخبرنا به تحديثات الخريطة الفلسطينية على مر السنين.
فلم تستطع الثورة الفلسطينية ولا الانتفاضتان الأولى والثانية إرجاع أي جزء من الحقوق الفلسطينية، ولم تستطع إزالة الاحتلال وآثاره وأدوات تأثيره عن أراضي عام 1967 كحد أدنى. بل عكس ذلك، فعقب كل انتفاضة أو حركة احتجاجية نرى أن الاستيطان والحواجز الاسرائيلية والتهويد وغيرها من سياسات الاحتلال آخذة في الاتساع.
قد يختلف البعض في أسباب هذا التراجع المستمر للقضية الفلسطينية، وقد يلقي باللائمة على الانقسام السياسي أو اتفاقية أوسلو ومسيرة السلام برمتها، ولكن ليس هذا المهم، فالمهم أن التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني من دون أي إنجاز يُذكر، قد أنهكت الشعب الفلسطيني وحطمت معنوياته، وعملت عملها في ترسيخ فكرة "عبيثة" المقاومة أو الثورة.
أريد هنا أن أقارن الشعب الفلسطيني، مع غيره من الشعوب العربية، فعندما نشبت الثورات العربية عام 2011، تأخرت دول عربية عن اللحاق بركبها، وهي الجزائر والسودان بشكل خاص، اللتان لم تشهدا احتجاجات تُذكر، مع أن ظروفهما لا تختلف كلية عن ظروف الدول العربية الأخرى التي نشبت فيها الثورات. وهذا، في تقديري، ناتج عن الاضطرابات التي عانت منها كل منهما في المرحلة السابقة، فالجزائر شهدت حرباً أهلية خلال تسعينيات القرن الماضي أرهقت الشعب الجزائري كثيراً وكلفته ضحايا ودماراً كبيراً. وشهد السودان بدوره حروباً أهلية طويلة الأمد مع الجنوب المنفصل ودارفور وغيرها. وهذا ما يدفعني إلى اعتقاد أن التجارب المؤلمة والمرهقة التي تمر بها الشعوب تجعلها تعزف عن الانخراط في أي حركة احتجاجية أو ثورية قد تكلفها ضحايا ودماراً جديداً، في ظل أن احتمالية نجاح الثورة أو الاحتجاج قد تكون معدومة، أو هكذا يخيل للشعوب نتيجة فشلها السابق، وذلك بشكل خاص إذا أُريد للثورة أن تنشب في عهد الجيل نفسه الذي عايش الثورات أو الحراكات السابقة. ولذلك فنحن نرى أن الثورات في الجزائر والسودان اندلعت بعد أعوام من بداية الثورات العربية 2011، لأن الجيل الشاب الذي خرج للشوارع هذه المرة هو غير الجيل الذي عاصر العشرية السوداء في الجزائر، وغير ذلك الجيل الذي عاصر حروب الجنوب ودارفور في السودان. وعلى أية حال، فإن هذا الأمر جزء من الأسباب وليس كلها، ولكن من وجهة نظري هو من أهم العوامل التي تدفع الشعوب إلى العزوف عن التحرك في لحظات تارخية معينة.
وبالعودة إلى الشعب الفلسطيني، فمسألة العلاقة بين التضحية والفشل أعمق بشدة. فقد تمخضت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، على سبيل المثال، عن اتفاقية "أوسلو"، التي أصبحت تُعزى إليها كل مشاكل الشعب الفلسطيني. أما الانتفاضة الثانية فقد أعقبها الانقسام الفلسطيني، وتراجع القضية الفلسطينية بشكل عام. ومع ذلك، فهذا السبب يشكل أحد أعمدة البناء الذي أنتج حالة اللامبالاة لدى الشارع الفلسطيني، وليس كل البناء. فمسألة الإحباط الناتج عن الفشل المتكرر ليست السبب الوحيد الذي لن يجعل الثورة ممكنة.
فبعد الانتفاضة الثانية، والدخول في دوامة الانتخابات والانقسام، وهو من بحد ذاته من أبرز حالات الفشل التي مُني بها الشعب الفلسطيني، دخل هذا الشعب في مرحلة جديدة مختلفة عن المرحلة السابقة.
كان أول مظاهر هذه المرحلة "التغول الأمني" للسلطة الوطنية الفلسطينية على حياة المواطنين، ذلك التغول الذي بدأ ضد حركة حماس، تحت ذريعة الانقسام، ثم امتد ليشمل الفلسطينيين كافة حتى الذين ينتمون إلى حركة فتح!
دفع هذا التغول الأمني عموم الشعب الفلسطيني إلى الانكفاء على الذات والانشغال بالقضايا الشخصية، والعزوف عن الشأن العام؛ حتى لا يكون الواحد عرضة للملاحقة الأمنية التي لا تشمل الاعتقال فقط، وإنما التضييق على الأفراد في مصادر رزقهم وحياتهم الاجتماعية، من خلال الفصل من العمل في كثير من الحالات، أو إحجام أرباب العمل عن توظيف وتشغيل الأشخاص الذين لديهم نشاط سياسي معين؛ خشية أن يؤثر ذلك على أعمالهم. هذا فضلاً عن أن السلطة الفلسطينية نفسها تحجم عن توظيف من لا يدينون لها بالولاء أو لا يحصلون عن "حسن السيرة والسلوك" من أجهزتها الأمنية في مؤسساتها المختلفة.
إذن فالتغول الأمني، الذي جاء مباشرة بعد الانتفاضة الثانية، أدى إلى تعميق حالة الإحباط والعزوف عن الشأن العام التي يعيشها الفلسطينيون.
ولكن من الملاحظ أن القبضة الأمنية في الضفة الغربية قد تراخت حالياً عما كانت عليه في السابق. حيث إن هناك هامشاً من حرية التعبير مكّن الأفراد والجماعات على مختلف توجهاتها من انتقاد السلطة الفلسطينية علانية والخروج في احتجاجات ضدها. ولكن ذلك لا يعني أن التغول الأمني برمته قد تلاشى، فما زالت الحالة قائمة، وإن بوتيرة مختلفة.
وقد ترافقت سياسة التغول الأمني مع السياسات الاقتصادية "النيوليبرالية" التي تبنتها حكومة رئيس الوزراء السابق سلام فياض. وتعد هذه السياسات بمثابة ثالث أعمدة حالة اللامبالاة هذه. ولا أقصد هنا بـ"النيوليبرالية" سياسات الخصخصة وتحرير الاقتصاد بالتحديد، وإنما عملية تحويل الأولويات لدى عموم الشعب الفلسطيني، من القضايا الوطنية العامة، إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية الخاصة. وأشير هنا إلى أن هناك منهجاً في إطار حل النزاعات والصراعات يسمى "تحويل الصراع"، وأساس هذا المنهج هو قيام أحد الأطراف بالعمل على تحويل أولويات الطرف الآخر، أي تحويل قضايا الصراع ذاته. فبدلاً من الصراع على الحقوق السياسية والقومية العامة، يصبح الصراع على المسائل الاقتصادية الشخصية للأفراد. ويتطابق هذا المنهج في الوضع الفلسطيني مع نظرية "السلام الاقتصادي" التي ينظر إلى ها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو. وتشير المعطيات إلى أن السلطات الإسرائيلية قد بدأت بتنفيذ هذه السياسة بشكل أحادي يتجاوز السلطة الفلسطينية، من خلال جعل العلاقة مباشرة بين الأفراد والإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، للحصول على تسهيلات معيشية، ومباشرة تلك الإدارة في تنفيذ خطوات اقتصادية تستهدف مختلف الشرائح الفلسطينية.
وإلى ذلك، فبعد استتباب الأمر للسلطة الفلسطينية وحكومة فياض في الضفة الغربية، أصبحت أهداف الحكومة هي بناء مؤسسات الدولة والاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز قيم الاستهلاك الفردي، التي ترافقت مع طفرة القروض والشيكات البنكية التي أغرقت عموم الشعب الفلسطيني وأصبحت قيداً على حرية الأفراد، حيث أصبح الفرد الفلسطيني ملزماً نهاية كل شهر بتأمين الدفعات التي عليه للبنوك وغيرها من مؤسسات الإقراض، ولذلك فهو مجبر على التمسك بعمله الذي يستطيع من خلاله سداد قروضه. وعليه فإن كل أمر قد يؤدي إلى فقدان الواحد منا لعمله يعد خطراً يهدد مستقبله الشخصي كله.
لقد أتاحت القروض والشيكات إمكانية امتلاك الفلسطيني سيارة فارهة وشقة مريحة. وهنا لا بد من الملاحظة أنه ليس عبثاً أن أسعار الشقق والسيارات لدينا هي الأغلى عالمياً، فرغم أن هناك عوامل تقنية تؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع الاستهلاكية، فإن هناك بُعداً سياسياً لهذه المسألة أيضاً، من وجهة نظري. فالشاب الفلسطيني العازف عن الانخراط في الشأن العام، المتفرغ لحياته ومشاكلها ومتطلباتها، ليس يسيراً بالنسبة له أن يمتلك سيارة ومنزلاً، وأن يتزوج فوق ذلك، وكل هذه الأمور إنجازات عظيمة لدى الشاب الفلسطيني، ليس مستساغاً لديه أن يفقدها. وعليه فإنه سينأى بنفسه عن كل ما قد يعرضه لخطر فقد أي من إنجازاته الشخصية.
هذا القيد الذي لبسناه طواعية، لم يكن حدثاً اعتباطياً، بل هو نتيجة سياسات كانت السلطة الفلسطينية أبرز المساهمين في تطبيقها. وربما كانت مسألة الوضع الطبيعي الذي نشأ مع قدوم السلطة من العوامل المساهمة في نأي معظم الشعب الفلسطيني عن الشأن العام، حيث إن هناك نخبة سياسية اقتصادية فلسطينية ضيقة تحتكر السلطة ورأس المال، وتبدو عليها مظاهر البذخ والترف، بينما عموم الشعب الفلسطيني يصارع لتسديد قروضه وشيكاته، وتأمين قوت يومه. وهذا ما يجعل الواحد منا يتساءل في قرارة نفسه: "لماذا أنا الذي أضحي، وفلان وأبناء فلان جالسون في بيوتهم ويتنعمون بخيرات هذا الوطن!".
وكما أسلفنا، فإن إسرائيل تمارس على الجانب الآخر عدداً من السياسات الاقتصادية والأمنية، لتحييد الشعب الفلسطيني عن الصراع، ومنها تصاريح العمل في إسرائيل للفلسطينيين، حيث تشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني قانوني في سوق العمل الإسرائيلية، وهؤلاء العمال ملزمون بالابتعاد هم وأفراد أسرهم حتى الأبعدون منهم، عن السياسة المناهضة للاحتلال؛ حتى لا يفقدوا تصاريح العمل.
وفي المحصلة، فإن الحالة التي يعيشها عموم الشعب الفلسطيني هي حالة السعي الدؤوب لإشباع الحاجات البيولوجية؛ من غذاء ومسكن ولباس وغيرها، والتي ترافقت مع النزعة الاستهلاكية التي جعلتنا مرهونين للرواتب ودافعيها. علماً أن معظم مصدر دخلنا تتحكم فيه إسرائيل من خلال تحكمها في أموال المقاصة التي تمول خزينة السلطة الفلسطينية، أو من خلال ما يحصل عليه العمال الفلسطينيون في إسرائيل ومستوطناتها.
وبناء على ما سبق، فإن هناك عوامل اجتمعت معاً وأنتجت الفلسطيني اللامبالي، وهي حالة الإحباط وفقدان الإيمان بإمكانية إحداث التغيير، بسبب الفشل المتكرر للانتفاضات والثورات الفلسطينية على مر التاريخ. بالإضافة إلى قضية التغول الأمني التي لعبت دورها في تحييد الفلسطينيين عن الشأن السياسي. وأيضاً السياسات الاقتصادية "النيوليبرالية" التي انتهجتها السلطة الفلسطينية، وأسهم الاحتلال الإسرائيلي فيها أيضاً بطرق مختلفة.
ولا شك في أن هناك عوامل أخرى يمكن أن يشير إليها المرء لتفسير حالة اللامبالاة هذه، ولكن في وجهة نظري فهذه العوامل السابقة مجتمعةً تشكل مثلث الأزمة الذي خلق حالة اللامبالاة لدى الشارع الفلسطيني. وإلى ذلك، فباستطاعتنا أن نُسقط هذه الاعتبارات على الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، خصوصا\ً في قطاع غزة، فالوضع هناك لا يختلف كثيراً عنه في الضفة الغربية.
ولكن السؤال الذي يثور هنا، هو: لماذا حدثت وتحدث بعض الاحتجاجات والهبّات الشعبية الفلسطينية بين الحين والآخر، والتي كان أهمها هبّة عام 2015؟ ولماذا يستمر بعض الأفراد في القيام بعمليات ضد أهداف إسرائيلية بين الحين والآخر؟
والإجابة هنا هي أن سياسات الاحتلال اليومية تشكل عامل تفجير للوضع الفلسطيني، فعوامل الضغط الناتجة عن الأوضاع الاقتصادية المتردية تعود جذورها لوجود الاحتلال الإسرائيلي بشكل أساسي، بالإضافة إلى أن ممارسات الاحتلال ومستوطنيه الإجرامية تؤدي إلى استفزاز مشاعر الفلسطينيين؛ مما يؤدي إلى هبّة شعبية قصيرة المدى والأثر لتنفيس الغضب الشعبي، كردّ فعل على ممارسات معينة. فمثلاً، إن الاعتداءات على المقدسات، خصوصاً المسجد الأقصى، تشكل حالة استفزاز بالغة لمشاعر الفلسطينيين. كما أن الدماء تشكل عاملاً مُفجِّراً للغضب الشعبي أيضاً، فاستشهاد عدد كبير من الفلسطينيين، كما يحدث في الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، أو استشهاد فلسطيني واحد، ولكن بطريقة إجرامية شنيعة، كاستشهاد الطفل المقدسي "محمد أبو خضير"، يؤدي إلى موجة من الغضب الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن هذه الهبّات سرعان ما تخمد ذاتياً، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. والملاحظ خلال تلك الهبّات أن جزءاً صغيراً من الشعب الفلسطيني هو من يشارك فيها، إذ إنك ترى مجموعات من الشباب على نقاط التماس في مواجهة مع جنود الاحتلال، ولكن ما إن تبتعد قليلاً عن تلك النقاط حتى ترى الحياة تسير بشكل طبيعي وعموم الشعب في أعمالهم وأشغالهم الاعتيادية. وهذا الأمر يخبرنا بأن الشعب الفلسطيني أبعد ما يكون عن الانخراط في ثورة شعبية ضد الاحتلال، إلا جزءاً صغيراً منه، وكردّ فعل مؤقت فقط.
وبالحديث عن صفقة القرن وعملية الضم، فإن هذه القضايا لم تشكل حالة استفزاز لمشاعر الشعب الفلسطيني، لأن ما تمخضت عنه هو واقع يعايشه الفلسطيني يومياً وقد تأقلم معه بشكل من الأشكال. ولذلك فلن تجدي نداءات الرئيس محمود عباس وغيره من القادة والساسة للشعب الفلسطيني في تحريكه للانتفاض في وجه الاحتلال. فهناك مسيرة شاقة لإصلاح الحالة الفلسطينية قبل التوجه نحو الانتفاضة الشعبية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.