ينظر نصيف المُر إلى مبنى صغير متداعٍ على يساره، الزهور البرية آخذة في التفتح بين الكتل الإسمنتية المتهدّمة والصخور المتكسرة. وعبارات مبتذلة كُتبت على الحوائط الداخلية المتبقية من المبنى: طارق كان هنا، نور تحب أحمد… إلخ
يقول المُر: "كان هذا هو المبنى الإداري، وكان للمدير مكتب في الطابق الثاني".
وفيما كان يسير عبر محطة القطار المتهدمة الآن في مدينة طرابلس شمالي لبنان، سار المر في كبسولةٍ زمنية إلى لبنانٍ آخر، حيث كانت البضائع تنتقل عبر السكك الحديدية خلال الحربين العالميتين، وكان قطار الشرق السريع الفاخر ينقل الركاب بين أوروبا وآسيا.
الوضع الحالي هو: محطات عفى عليها الزمن، وقضبان حديدية مغطاة بالأعشاب، وعربات وقاطرات متناثرة في أنحاء البلاد، كل هذا يشكل شبح سكة حديد قديمة لا تزال آثارها موجودة بيننا.
يتذكر المُر تلك الأيام ويقول: "كل شيء كان مختلفاً حينها، لا يمكنك مقارنته باليوم".
ولد المُر في مدينة رياق شرقي لبنان عام 1927، ونشأ بالفعل في بلدٍ مختلف كلياً، في ذلك الوقت، لم يكن لبنان قد حصل على استقلاله بعد، إذ كان خاضعاً للانتداب الفرنسي، وكان والد المُر أول شخص في العائلة يعمل في السكك الحديدية.
عمل في البداية في محطة قطار مدينة حمص بسوريا، التي كانت تخضع أيضاً للانتداب الفرنسي في ذلك الوقت، ثم عاد ليعمل في محطة طرابلس بلبنان.
يقول المُر: "بدأت العمل في السكك الحديدية مثل والدي عام 1945. في السنوات القليلة الأولى، عملت مساعداً في صيانة القطارات وإصلاحها. لاحقاً أصبحت سائق قطار، وقدت قطارات نقل بضائع حتى اضطررنا في نهاية المطاف إلى إغلاق السكك الحديدية خلال الحرب الأهلية".
بينما تعود ملكية بقايا السكك الحديدية فعلياً للدولة، تخضع بعض المحطات للحراسة، أو يُحيطها سياج. وفي ظل غياب محاولات حقيقية لإغلاق هذه المحطات لمنع وصول عامة الناس إليها، بات العديد منها ساحات يلعب بها المراهقون، وهواة التاريخ، والمارة الفضوليون مع عدم وجود أي عائقٍ للوصول إلى آثارٍ تعود للقرن العشرين.
بعد السير مع المُر لعدة دقائق، وصل عروسان يافعان للمكان مع مصور.
تاريخٌ لا يزال محفوظاً بما تبقى من السكك الحديدية
وفقاً لإدي شويري، وهو باحث ومؤلف كتاب "Liban Sur Rail"، أي "لبنان على السكة"، فقد انتهى بناء أول خط سكة حديد في لبنان عام 1895 تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. وكان خط السكة الحديد العثماني الاقتصادي الذي يربط بيروت، ودمشق، وحمص، يمر عبر أراضي لبنان وسوريا ناقلاً البضائع.
يقول شويري لموقع The Daily Beast الأمريكي: "أرادوا ربط دمشق ببيروت، لأنَّ بيروت كانت ميناءً مهماً حينها، وكانت سوريا خزانةً للقمح، والبذور، والمؤن".
وتابع: "كان الطريق البري من دمشق إلى الدول الأخرى الموجودة على البحر المتوسط صعباً، وكانت الطرق تعج بقطاع الطرق، لذا أُنشئت سكة حديد أخيراً".
بحلول عام 1942، كان خط السكة الحديد الرابع والأخير قد اكتمل ودخل في الخدمة، رابطاً لبنان بسوريا وفلسطين.
اليوم، لا تزال بصمة العثمانيين محفوظة عبر عمارة السكك الحديدية. وتُعتبر محطة رياق شرقي لبنان أكبر محطات السكة الحديد في البلاد، ولا يزال الطراز العثماني بادياً بوضوح على معمارها رغم عقود الإهمال.
المحطة الأخيرة لقطار الشرق السريع الشهير كانت مدينة طرابلس الساحلية شمالي لبنان، وكان يحمل الركاب من لندن وباريس وإسطنبول، ويقطع بهم مسافةً طويلة وصولاً إلى طرابلس.
يتذكر المُر هذا القطار قائلاً: "كان يقف في طرابلس مرةً كل أسبوع. كان هناك العديد من الأوروبيين الذين يأتون على متن قطار الشرق السريع. كان هناك نساء، وأطفال، وعائلات على متن القطار القادم إلى طرابلس قاصدين بيروت".
ورغم أنَّ المُر لم يقد يوماً قطار الشرق السريع، يتذكر الفرش الداخلي الفاخر للقطار والمطاعم الموجودة على متنه التي كانت تخدم الركاب.
سقوط السكة الحديدية
في لبنان، سقطت السكك الحديدية ضحية لعنف الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد في الفترة من 1975 إلى 1990.
تحاربت الجماعات الدينية الرئيسية (السنة، والشيعة، والمسيحيون، والدروز) ضد بعضها البعض، في ظل تنامي حالة من عدم الاستقرار، إذ بدأ اللاجئون الفلسطينيون في التسلح بعد انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان.
يقول المُر: "استُخدمَّت عدة قطارات في طرابلس لنقل النفط من مصفاة تكرير على بعد بضع كيلومترات من المحطة.
لكن وبحلول عام 1983، أصبحت القطارات هدفاً للميليشيات المختلفة. أُطلقت النيران على القطارات، وتوجب علينا التوقف عن العمل".
توقفت مصفاة طرابلس، التي كانت تجلب النفط من العراق عبر خط أنابيب عن العمل في بداية ثمانينات القرن الماضي. لا يتذكر المُر يومه الأخير في السكة الحديد، لكنه يتذكر عندما بدأت القوات السورية في السيطرة على محطات القطار عبر البلاد شيئاً فشيئاً.
يقول المُر مشيراً إلى القطع المفقودة في القاطرات المختلفة: "عندما غادرنا المحطات، جاءوا وبدأوا في نهب القطارات للحصول على الحديد الخردة وبعض القطع لبيعها".
في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية، دخلت القوات السورية لبنان باعتبارها "قوات لحفظ السلام" واشتبكت مع الفلسطينيين واللبنانيين على حدٍّ سواء. ورغم ذلك، لم يكن قدومهم محل ترحيب من الجميع، وسرعان ما اتخذ وجودهم شكلاً من أشكال الاحتلال العسكري والاقتصادي لمدة 30 عاماً تقريباً.
يقول نبيل دوماني، نائب رئيس جمعية "Train/Train Lebanon" الأهلية، لموقع The Daily Beast: "بنهاية الاحتلال تُركت السكك الحديدية غير صالحة للعمل".
نادت الجمعية الأهلية لوقتٍ طويل بإعادة تأهيل السكك الحديد والحفاظ على تراثها الثقافي.
وتابع دوماني: "الأكثر من هذا، أنَّ كل الوثائق الأرشيفية الموجودة في المحطات تعرضت للتدمير. عندما غادر السوريون، أحرقوا كل الملفات. ولا يُعرف السبب وراء هذا".
آمال إعادة إحياء السكة الحديد
لدى دوماني، الذي يعمل عن كثب مع وزارة الأشغال العامة والنقل، وهيئة السكك الحديدية والنقل العام، إيمانٌ بأنَّ سكة حديد لبنان سيُعاد تأهيلها قريباً.
يُعتبر الاختناق المروري اليومي أحد مسببات القلق الرئيسية لسكان البلاد، إذ قد يستغرق التنقل من أقصى غرب بيروت إلى أقصى شرقها، وهي مسافةٌ تبلغ حوالي 5.5 ميل، حوالي ساعة خلال وقت الذروة.
بالنسبة للسكان، تُعتبر الأزمة المرورية عائقاً رئيسياً لجودة الحياة. وبالنسبة للسائحين، يعد المرور عائقاً أمام استكشاف البلاد.
الفرصة المثالية لإحياء السكك الحديدية، كانت منذ ما يزيد عن عام، وذلك عندما استضافت الحكومة الفرنسية مؤتمراً اقتصادياً دولياً مخصصاً لدعم خطط إصلاح وتطوير لبنان، ثالث أكبر دول العالم من حيث نسبة الدين إلى ناتجها المحلي الإجمالي. وتعهد المشاركون في المؤتمر بدفع حوالي 11 مليار دولار للبنان في صورة منح وقروض إذا التزمت الحكومة بشروطٍ محددة.
أحد هذه الشروط هو إصلاح قطاع النقل عبر تقديم وسائل نقل عامة ملائمة وإعادة تأهيل البنية التحتية.
تُعتبر هذه الفرصة المثالية لإحياء السكك الحديدية بالنسبة لدوماني، الذي عبر عن آماله بصوتٍ مسموع قائلاً إنَّه يتمنى إعادة ربط لبنان بأوروبا يوماً ما، عبر توفير وسيلة نقل بديلة من وإلى بلاد الشام.
في تعليق مقتضب لموقع The Daily Beast، قال زياد ناصر، رئيس هيئة السكة الحديد والنقل العام في لبنان، إنَّ رئيس الوزراء سعد الحريري تعهد بمراجعة مخصصات الموازنة لمشروع إعادة تأهيل السكك الحديدية.
وقال ناصر: "هدفنا أن نخصص المال على نحوٍ ملائم. نعلم أنَّ هناك اهتماماً بإعادة فتح الحدود مع سوريا للتجارة، لذا نأمل أن نولي اهتماماً كافياً لفتح خط سكة حديد من بيروت إلى طرابلس، ومنه إلى سوريا".
لكنَّ آخرين لا يُبدون تفاؤلاً مماثلاً بشأن حدوث أي تغيرات مهمة
يقول شويري: "أستطيع أن أؤكد هذا. نفذنا العديد من المشروعات لدفع لبنان لاستخدام السكة الحديد لسنوات".
ويتابع: "في لبنان، يجب أن تجعل الجميع يوافق على شيء كي يحدث: الرئيس، رئيس الوزراء، رئيس مجلس النواب. تكمن المشكلة في أنَّه ليس لدينا إرادةٌ سياسية كافية. هناك العديد من المشروعات، والعديد من الوعود، والكثير من النوايا الحسنة، لكن كل هذا ليس كافياً".