فشلت الأعمال التي بدأها بايمورات، وكان يعيل زوجة وطفلين. لذا، فعندما عرضت عليه السلطات في منطقة شينجيانغ، بأقصى غربي البلاد، وظيفة في الشرطة المساعدة، رحب بالأجر الجيد والمزايا.
ولشهور، كان يقف في نقاط التفتيش على جوانب الطرقات بحثاً عن الأشخاص في القائمة السوداء للحكومة، الذين عادة ما يكونون من أقليات عرقية مسلمة. ولما كان هو نفسه من المسلمين القازاق، فقد كان يشعر أحياناً بعدم الارتياح تجاه عمله، لكنه كان بحاجة إلى المال.
حسب تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية، طُلب منه أن يساعد في جلب 600 شخص مكبلي الأيدي إلى منشأة جديدة، فأذهله ما رآه. أطلق المسؤولون على هذه المنشأة اسم مركز للتدريب المهني، لكنها كانت في حقيقة الأمر سجناً، مع مراحيض وأسرّة خلف القضبان. وكان أحد أولئك المعتقلين من معارفه، لكنه تعرف عليه بالكاد بعد أن فقد كثيراً من الوزن.
ومع ذلك، فقد قمع بايمورات (39 عاماً) مشاعره.
كاميرات في كل مكان
وقال بايمورات: "ثمة كاميرات في كل مكان. وإذا رأوك تبدو غير سعيد، فسوف تكون في ورطة".
كانت الحكومة الصينية قد اعتقلت ما يصل إلى مليون من الأويغور والقازاق وأقليات مسلمة أخرى بشبكة من معسكرات التلقين في شينجيانغ، وهو ما أثار استنكاراً دولياً. وكذا، فقد وسعت الصين بشكل كبير، جهازها الأمني في هذه المنطقة الممتدة ذات الأهمية الاستراتيجية على الحدود الغربية للصين.
يعتمد هذا البناء السريع في جزء كبير منه على تجنيد ضباط من الأقليات نفسها التي تستهدفها السلطات، لتقسم المجتمعات والأُسر في الوقت الذي تجبر فيه أشخاصاً مثل بايمورات على مواجهة خيارات صعبة.
وعرض بايمورات، في سلسلة من المقابلات الصحفية الأخيرة في كازاخستان، حيث فرَّ هو وأسرته العام الماضي (2018)، لمحة نادرة ومباشرة عن أعمال قوات الأمن في شينجيانغ، والمعضلات التي يصارعها كثير من الموظفين فيها يومياً.
شملت مهماته فحص مركبات المسافرين وبطاقات هوياتهم في نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية
وقال بايمورات، الذي ينادى باسمٍ واحدٍ، إنه قرر الحديث علناً، لأنه شعر بالندم لعمله في الشرطة في مقاطعة تشيتاي، خارج مدينة أورومتشي، العاصمة الإقليمية. ووصف أيضاً كيف اقترب هو نفسه من أن يتعرض للسجن في واحد من المعسكرات.
قال بايمورات: "أشعر بالالتزام، لأنني رأيت عدداً كبيراً جداً من الناس يعانون في المعسكرات".
أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون يينغ، أنَّ بايمورات قد عمل بالأمن في تشيتاي بالشهور التي حددها. لكنها قالت إنه كان يعمل في مركز للتسوق، لا بالشرطة، واتهمته "بكل هذه الأكاذيب".
مع ذلك، فقد بقي وصف بايمورات لتجربته متسقاً، في المقابلات الكثيرة التي أجراها، مع وجود تفاصيل تتفق مع تلك الواردة في إشعارات تجنيد الشرطة وروايات المعتقلين السابقين يالمعسكرات. وأحياناً ما يجري توظيف الشرطة المساعدة في الصين من خلال متعاقدين خصوصيين يمنحون وكالات الشرطة مزيداً من المرونة في إضافة الموظفين وخفضهم.
وقال سريكهان بيلاش، الناشط الذي يساعد القازاق من شينجيانغ، إنَّ بايمورات، منذ أن خرج إلى العلن الشهر الماضي (فبراير/شباط 2019)، تلقَّى مكالمات هاتفية مجهولة المصدر تحذر من أنَّ أقاربه بالصين سوف يوضعون في معسكرات إذا لم يرجع عن أقواله.
وقد هاجر بايمورات إلى كازاخستان عام 2009، لكنه عاد إلى شينجيانغ بعد بضع سنوات، ليكون أقرب من عائلته. وقال إنه بعد فشل الأعمال التي افتتحها لبيع الفاكهة ولحوم الأحصنة، وهو تخصص كازاخستاني، انضم إلى الشرطة عام 2017، ليتقاضى رابتاً جيداً -نحو 700دولار شهرياً- ومزايا جيدة.
مهمات قام بها
وشملت مهماته فحص مركبات المسافرين وبطاقات هوياتهم في نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية. وكان يركز على الأشخاص الموضوعين على قوائم المراقبة الحكومية، مفتشاً في هواتفهم المحمولة؛ بحثاً عن محتوى يعتبر تخريبياً.
وقال بايمورات إنَّ الضباط قد طُلب منهم على وجه الخصوص، أن يبحثوا عن صور لأعمال الشغب العرقية المميتة في أورومتشي عام 2009.
وردَّت السلطات على أعمال الشغب هذه بحملة أمنية، زادت حدتها بعد أن ألقي باللوم على الأويغور الانفصاليين الذين يعتنقون الإسلام الراديكالي بتنفيذ هجمات قاتلة عامي 2013 و2014. وعينت الحكومة زعيماً إقليمياً جديداً عام 2016، أحكم السيطرة على شينجيانغ وأخضعها للرقابة الشاملة.
وفي هذا الوقت بدأ تعيين ضباط مساعدين مثل بايمورات، وذلك بحسب جيمس ليبولد من جامعة لاتروب بأستراليا، وأدريان زنز من المدرسة الأوروبية للثقافة واللاهوت في ألمانيا.
وبحسب ورقة بحثية تصدر قريباً لزنز وليبولد، فإن قوة شرطة شينجيانغ أصبحت، بحلول عام 2017، أكبر بـ5 مرات من الحجم الذي كانت عليه قبل عقد من ذلك. وجندت السلطات الأقليات العرقية على وجه الخصوص، بوصفها جزءاً من الجهود الرامية إلى معالجة المظالم المضطربة من خلال توفير الوظائف.
وقد أدت عقود من هجرة قومية الـ "هان"، وهي المجموعة العرقية المهيمنة في الصين، إلى تحويل شينجيانغ، وهو ما غذى مخاوف الأويغور. وبحسب تقديرات الحكومة، فإنَّ الأويغور، الذين كانوا الأغلبية فيما مضى، يشكلون 46% من سكان المنطقة البالغ عددهم 22 مليون نسمة، في حين يشكل الهان 40%، والكازاخ 7%.
وكانت الحكومة الصينية تأمل أن تؤدي التنمية الاقتصادية في هذه المنطقة الغنية بالموارد إلى تخفيف التوترات. لكنَّ كثيراً من الأويغور والقازاق يشتكون من أنهم حُرموا من هذا النمو، وأنهم يواجهون تمييزاً في التوظيف، إلى جانب القيود الخانقة المفروضة على ممارستهم للإسلام وثقافاتهم ولغاتهم.
الخونة وأصحاب ضمائر
وقد أشاد المسؤولون الصينيون في وسائل الإعلام الحكومية بمساهمات ضباط الشرطة من الأقليات. لكنَّ أولئك المنضمين إلى القوات الأمنية عادة ما تنظر إليهم بعين الريبة من قِبل السلطات ومجتمعاتهم على حد سواء.
وقال ديلكسات راكسيت، وهو ناشط أويغوري في ألمانيا: "بعض أولئك الأشخاص مجرد منحطين نموذجيين يخونون مجموعتهم العرقية. وبعضهم من أصحاب الضمائر، لكنهم يرتدون الزي الرسمي من أجل سلامتهم وسلامة أسرهم".
وقال طاهر أمين، وهو ناشط أويغوري في واشنطن، إنَّ 4 من أقربائه عملوا ضباط أمن في شينجيانغ، فقط بسبب عدم توافر فرص عمل جيدة للأويغور.
وأضاف أمين: "هناك مشكلات كبيرة بين شرطة الأويغور والناس العاديين. الناس يكرهونهم ويعتبرونهم خونة ويسمونهم كلاب الصينيين".
وقال بيلاش، الناشط القازاقي، إنَّ القازاق الذين فروا من شينجيانغ لا يحملون ضغينة ضد بايمورات بسبب عمله مع الشرطة.
وأضاف بيلاش: "لا أحد يلومه لأنه لم يكن لديه خيار". وقال بايمورات إنَّ الضباط على شاكلته كانوا يتعرضون لفحص داخل الشرطة؛ بحثاً عن علامات عدم الولاء السياسي.
وقال بايمورات إنه كان مطلوباً منه حضور اجتماعات منتظمة للتلقين السياسي وحفظ اقتباسات للرئيس الصيني شي جين بينغ. وأضاف أنه كان محظوراً على الضباط من الأقليات الحديث بأية لغة غير الصينية فيما بينهم، وكانوا يعاقبون لو أفلتت كلمة من الكازاخية أو الأويغورية.
أسوأ تجربة عاشها
وقال إنَّ أسوأ تجربة كانت جلب الناس إلى معسكر الاعتقال.
وتعرض الحكومة هذه المعسكرات بوصفها جزءاً من حملة تدريب مهني تبعد المسلمين عن التطرف الديني، وأنها قد أوقفت العنف. ومع ذلك، فإنَّ المعتقلين السابقين يقولون إنَّ السلطات تحتجز الناس بلا تهمة، وتجبرهم على التخلي عن معتقداتهم الدينية.
وظهرت أدلة أيضاً على أنَّ هذه المعسكرات تعمل بنظام السخرة.
وقال بايمورات: "لقد أصبحت نادماً على عودتي إلى الصين. لقد دفعني هذا الخيار إلى ارتكاب مثل هذه الأفعال الشنيعة".
ولبايمورات سبب آخر للأسف على عودته: فالسلطات اكتشفت أنه عاش في كازاخستان وأنه حاز جنسية هناك. ذلك أنَّ الشرطة، في السنوات الأخيرة، أصبحت تعتبر العلاقات الخارجية سبباً للاشتباه وإرسال شخص ما إلى معسكر اعتقال.
قرر بايمورات أنه ينبغي له الخروج. لكنه وأسرته كانوا قد سلموا جوازات سفرهم القازاقية عندما عادوا إلى الصين عام 2013. وكذا فقد أصبحوا محاصَرين.
وقال بايمورات: "كنت خائفاً للغاية إلى درجة أنَّ قدميَّ كانتا ترتعدان".
وأشار إلى إنَّ أحد المعارف في جزء آخر من الصين، ممن كانوا يستطيعون الاتصال بكازاخستان دون جذب الانتباه، استطاع في نهاية المطاف أن يجعل المسؤولين الكازاخستانيين يوفرون وثائق سفر مؤقتة.
استجوبت الشرطة أسرته على الحدود، وضمن ذلك أطفاله الصغار، على مدى ساعات، قبل السماح لهم بالمرور. ولما عاد بايمورات إلى الأراضي الكازاخستانية سجد شكراً.
قال بايمورات: "كنا سعداء للغاية. كان الأمر كما لو أننا خرجنا من الجحيم".