سلَّطت مجلة The Atlantic الأمريكية في تقرير لها، الضوء على التركيز الروسي على نشر نموذجٍ من الإسلام يكون "سلمياً" أو "مهادناً" من الناحية السياسية، وهو ما تزامن مع دفعة قوية من جانب بعض الدول العربية لمحاربة "الإسلاموية" أو "الإسلام السياسي".
وقالت الصحيفة إن الوجود الروسي في الشرق الأوسط يخضع للنقاش في العموم من الناحية العسكرية والاقتصادية. إذ وسَّع تدخل موسكو في سوريا عام 2015، دعماً لنظام بشار الأسد، دائرة نفوذها لدى إيران، ومكَّنها من دق إسفينٍ بين تركيا والولايات المتحدة. وشهدت السنوات الأخيرة تقارباً بين موسكو وحلفاء واشنطن التقليديين في الخليج، في صورة مبيعات أسلحة واستثمارات.
لكنَّ أحد الاتجاهات التي لم يُسلَّط عليها الضوء كما ينبغي يتمثَّل في تركيز موسكو على نشر نموذجٍ جديد من الإسلام "المهادن".
وأضافت المجلة، كان رمضان قديروف، رئيس جمهورية الشيشان، مبعوث روسيا من أجل هذه الجهود. وهو الذي يعتبر نفسه معارضاً لـ "التطرف الإسلامي" الممتد منذ الحرب في الشيشان، التي قاتل فيها نيابةً عن موسكو ضد الحركة الشيشانية الانفصالية.
السعودية الجديدة
ويُعَد قديروف، أحد الأمثلة المبكرة على "التحالف الديني" العربي الروسي، من خلال ما يعرف بـ "المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين"، الذي عقده قديروف في سبتمبر/أيلول 2016، بالعاصمة الشيشانية غروزني.
إذ شارك في تنظيم المؤتمر قادة دينيون ذوو علاقات وثيقة مع الحكومتين المصرية والإماراتية، وهما بلدان يسود اعتقادٌ بأنَّهما يضمران عداوة شديدة للإسلام السياسي. واستضاف المؤتمر أيضاً رجال دين من سوريا. وتجاهل الحضور المنهج الأصولي من الإسلام، الذي يُعرف بالمنهج السلفي، وهو الفكر الذي تتبناه السعودية رسمياً. ولهذا السبب اعتُبِرَت هذه الفعالية ضمن الجهود الرامية لعزل السعودية، لكنَّ موسكو أقامت منذ ذلك الحين علاقات أكثر دفئاً مع القيادة السعودية.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2017، أشارت تقارير إلى أنَّ الملك سلمان بن عبدالعزيز ناقش مسألة "الدعوة الإسلامية" في روسيا، خلال لقاءٍ عُقِد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو.
وأخبر مسؤولون روس وسعوديون ثيودور كاراسيك، وهو خبير في الشؤون الروسية بواشنطن، أنَّ الملك سلمان وافق على وقف تمويل المساجد والدعوة. وفي فبراير/شباط الماضي، اتخذت الرياض خطوة مماثلة، عندما تخلّت عن سيطرتها على أكبر مسجد في بلجيكا، الذي يحظى بسُمعة "سيئة"، تتمثَّل في أنَّه يُشكِّل أرضاً خصبة للتطرف.
استُقبِل قديروف، الصيف الماضي، استقبالاً ملكياً في السعودية. وسمحت له السلطات السعودية بالدخول إلى الحجرة النبوية الشريفة، التي لا تُفتَح إلا من أجل الخاصة من الضيوف.
وبالرغم من أنَّ قديروف من أتباع المنهج الصوفي، الذي يعتبره مشايخ السلفية السعوديون منهجاً دينياً منحرفاً، سُمِح له بأداء وتسجيل طقوس صوفية داخل الغرفة. تُظهِر هذه الواقعة أنَّه في حين لا تزال الاختلافات الدينية كبيرة بين منهج قديروف ومنهج مضيفيه السعوديين، فإنَّ العلاقات السعودية الروسية تبقى قوية.
وصار قديروف صديقاً شخصياً للعديد من القادة العرب، بمن فيهم اثنان من حلفاء أمريكا المقربين، وهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
تقود العديد من العوامل جهود روسيا لنشر نموذجها الخاص من الإسلام، وتأتي المخاوف الداخلية على رأس هذه العوامل. فالمسلمون يشكلون ما يقرب من 15% من سكان روسيا، وقد خاضت روسيا معارك ضد تمردٍ ديني وتمردٍ قومي في منطقة شمال القوقاز، ذات الغالبية المسلمة. وأدّى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتنظيم القاعدة في سوريا إلى زيادة مخاوف روسيا من تهديدات التطرف، لاسيما في ظل الدور الكبير الذي اضطلع به الجهاديون القادمون من شمال القوقاز في صفوف التنظيمين.
وبعد ثلاثة أسابيع من بداية التدخل الروسي في سوريا، في سبتمبر/أيلول 2015، حثَّ بوتين القادة الإسلاميين الروس على الوقوف ضد التطرف. فقال بوتين: "إنَّ أيديولوجيتهم مبنيّة على الأكاذيب، وعلى انحرافٍ واضح عن الإسلام. إنَّهم يحاولون تجنيد أتباعٍ في بلادنا أيضاً".
وربما تحاول روسيا أيضاً مكافحة التصور السائد بأنَّ موسكو تعادي الإسلام (بسبب الإرث الطويل للغزو السوفييتي لأفغانستان)، أو الإسلام السُّنّي على وجه الخصوص (بسبب ارتباط البلاد بإيران ووكلائها).
الشيشانيون يعيدون بناء الجامع الأموي الكبير في حلب
يقول يوري بارمين، وهو محلل سياسي متخصص في السياسات الروسية بالشرق الأوسط: "على الصعيد الدولي، تستخدم موسكو العامل الشيشاني لموازنة الانتقادات التي تشير إلى أنَّ روسيا تُشكِّل جزءاً من التحالف الشيعي، وتُعَد الشرطة العسكرية الشيشانية في سوريا مثالاً على ذلك.
ويعيد الشيشانيون بناء الجامع الأموي الكبير في حلب أيضاً، وهو ما قد يُنظَر إليه على أنَّه محاولة ليصبحوا أكثر جاذبية للسكان السُّنَّة في سوريا".
لكنَّ عاملاً مُحفِّزاً آخر يتعلّق برغبة موسكو في تمييز نفسها عن الولايات المتحدة. وقد صارت جهود روسيا لنشر نموذجها من الإسلام أوضح -على الأقل في الشرق الأوسط- في عام 2016، وتحديداً عندما برزت المشاعر المعادية للإسلام في البلدان الغربية، وكان متصيدو روبوتات الإنترنت الروس ينشرون خطاباً معادياً للإسلام في المنتديات السياسية الأمريكية.
يقول محللٌ سياسي من أصولٍ شيشانية: "تستثمر روسيا عامةً في فكرة أنَّها ليست أمريكا، وليست ضد الإسلام، وأنَّها تُقدِّم بديلاً معتدلاً، وأداتها في هذا رمضان قديروف والنموذج الشيشاني. فالشيشان معروفة للشعوب في المنطقة".
منهج ينسجم مع الأنظمة العربية المعادية للإسلام السياسي
على الجانب العربي، تعتزم الحكومات الدخول في شراكاتٍ مع روسيا، ويُعزى جزءٌ من أسباب هذا إلى أنَّهم يجدون أهمية من وراء قديروف.
يقول نيل هاور، وهو محلل سياسي مقيم في جورجيا ومتخصص في شؤون سوريا وروسيا والقوقاز: "جعل رمضان قديروف أحد أولوياته العليا في الأعوام الأخيرة بناء صداقات في أنحاء الشرق الأوسط، لاسيما في الخليج. يُصوِّر قديروف الشيشان على أنَّها في الأساس دولة إسلامية مستقلة. ويقدم قديروف كذلك إلى القادة العرب والخليجيين… خبرته في سحق تمردٍ إسلامي داخلي في بلاده".
بات نطاق الحملة ضد الإسلام السياسي والسلفي غير مسبوق في العالم العربي، إذ تعمل عديدٌ من البلاد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معاً، وبصورة أكثر تقارباً من ذي قبل، بهدف قمع التطرُّف وتوجيه السكان المحليين نحو فَهمٍ جديد للاحتجاجات التي تجوب الشوارع، معتبرينها "أداةً" يستخدمها "الجهاديون" وعائقاً في وجه السلام الاجتماعي.
بل ويمكن لسوريا نفسها، وهي حليفٌ وثيق الصلة بروسيا كانت معزولةً عن أغلب جيرانها حتى فترة قريبة، أن تُشكِّل جزءاً من هذه الجهود. إذ سنَّت دمشق مؤخراً قانوناً من شأنه مطالبة السلطات بالمكافحة "المنهجية" للإسلام السياسي و"الوهابية" -وهو الاسم الذي يُطلَق على نطاقٍ واسع على النسخة السعودية من السلفيّة- في مختلف القطاعات بالدولة والمجتمع.
وقد لا تقبل الولايات المتحدة والبلدان الغربية الأخرى بالمبدأ القائل بأنَّ الإسلاميين والسلفيين على نفس درجة خطورة الجهاديين المسلحين. أمّا روسيا، فيمكنها أن تُرسِّخ موقعها في المنطقة، من خلال نشر منهجٍ خاص من الاعتدال الإسلامي ينسجم مع القوى العربية، ترسيخاً أعمق مما يمكن أن تنجزه الوسائل الاقتصادية والعسكرية وحدها.