انتهى هذا العام بانتصار نظام بشار الأسد ، وأعلن دونالد ترامب سحب قواته من سوريا، وكانت مفاجأة للجميع، بما في ذلك الجنرالات والدبلوماسيون الأميركيون أنفسهم. وفي الأسبوع الماضي، أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، بعد أن أغلقتها في إطار حملةٍ متعددة الجنسيات للضغط على النظام السوري في عام 2011.
وحذت البحرين حذوها، ومن المتوقع أن تعيد دول أخرى، من بينها الكويت، العلاقات مع النظام في العام القادم 2019. وتفيد تقارير بأنَّ جامعة الدول العربية تستعد لإعادة الاعتراف بسوريا، بعد سبع سنوات من طردها.
بداية انتصارات نظام بشار الأسد كانت مع سقوط درعا
وحسب تقرير للكاتب الأميركي من أصول سورية، حسَّان حسَّان، في صحيفة The Guardian البريطانية، جاءت هذه التطورات بعد خمسة أشهر من الانتصار الذي يُزعم أنه الانتصار الأكبر للنظام على المعارضة منذ اندلاع التمرد في سوريا، عندما سيطر النظام على محافظة درعا في الجنوب الغربي.
إذ كانت درعا -مهد المعارضة ضد نظام بشار الأسد – المعقل الأخير للمعارضة غير الجهادية، وباستسلامها، لم يعد هناك أي تهديد حقيقي سياسي أو عسكري على النظام بالقرب من العاصمة.
وبالنظر إلى التطورات العسكرية والدبلوماسية في الأشهر الستة الأخيرة، لم يعد هناك مجالٌ للشك في أنَّ الأسد حسم الانتصار في هذا الصراع. فحتى من دعموا المعارضة في الماضي، لم يكتفوا بالتوقف عن مجابهة نظام الأسد، بل يريدون مساندته، سواءٌ سراً أو علانية.
وداخلياً، سحق النظام أي معارضة قوية أو شرعية. ومن المستبعد أن يجد الجهاديون النشطون في المناطق الشمالية الغربية الواقعة تحت النفوذ التركي دعماً أجنبياً. وعلى عكس الرياح الجيوسياسية التي عصفت بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين في عام 1990 بعد حرب الخليج الأولى، أتت كل الرياح هذه المرة بما تشتهيه سفن الأسد.
قرار ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا مؤثرٌ جداً في مجريات الأمور
فبعد استسلام المعارضة في الجنوب، كانت هناك منطقتان خارج سيطرة النظام، وكلتاهما كانت تحت حماية قوى أجنبية، تركيا في الشمال، والولايات المتحدة في الشرق. وأبرمت أميركا وتركيا الدولتان العضوتان في حلف الناتو اتفاقاتٍ مع روسيا بشأن التحرك في هذه المناطق لتجنُّب المواجهة، مما يعني أن أي تقدم عسكري في هذه المنطقة يجب أن توافق عليه موسكو، وليس الأسد.
فعلى سبيل المثال، تباحثت روسيا وتركيا -اللتان اجتمع وزيرا الدفاع والخارجية لديهما يوم السبت الماضي 29 ديسمبر/كانون الأول في موسكو لمناقشة الوضع في سوريا- من أجل الوصول إلى اتفاق لتجنُّب هجوم نظام بشار الأسد على إدلب في سبتمبر/أيلول، ثم واصلا الحفاظ على الاتفاقية بالرغم من فشل أنقرة في تنفيذ التزامها بإخراج المتطرفين من المدينة الكبرى الوحيدة التي ما زالت تحت سيطرة المعارضة.
ومنذ سبتمبر/أيلول، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها كذلك لمنع النظام من التقدم إلى شرق سوريا. إذ ترى دمشق وداعموها في إيران أنَّ هذه المناطق بمثابة مأوى للقوات المعادية التي يمكنها أن تصبح محصنة هناك، ويمكن أن تغير وجهتها بتعليماتٍ من أطرافٍ خارجية لمحاربة النظام أو الجماعات التي تحظى بالدعم الإيراني.
لكن بالنظر إلى الاتفاقيات الموجودة بين روسيا والولايات المتحدة وتركيا، لم يكن لدى دمشق وطهران خيار سوى السير خلف القيادة الروسية.
بيد أنَّ قرار ترامب المفاجئ أنهى هذه المشكلة؛ إذ لم يعد الأسد وإيران يواجهان تهديد وجود أميركي إلى أجل غير مُسمَّى في شرقي سوريا. وسيعتمد مصير المناطق التي ستنسحب منها الولايات المتحدة اعتماداً كبيراً على المفاوضات بين روسيا والقوات التي تعتبر روسيا حليفاً وليس وليس خصماً، أي تركيا وميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية.
في ظل قلق تركي من وحدات حماية الشعب الكردية
هناك قلق تركي من سيطرة وحدات حماية الشعب بالقرب من حدودها، بينما تخشى وحدات حماية الشعب تكرار ما حدث في منطقة عفرين حين احتلتها تركيا بموافقة روسيا في مارس/آذار.
لذا ناشد المقاتلون الأكراد في الأسبوع الماضي نظام بشار الأسد ليساعدهم في صدِّ خطر التعرُّض لهجومٍ تركي بعد الانسحاب الأميركي، وقبل حلول يوم الجمعة 28 ديسمبر/كانون الأول، كانت قوات النظام السوري قد وصلت إلى الجبهة في مدينة منبج، التي يُشكِّل العرب أغلب سكانها وتقع غربي نهر الفرات.
كانت اتفاقيات روسيا مع تركيا وأميركا جزءاً من لعبة موسكو الطويلة، التي تختلف عن لعبة الحليف الرئيسي الآخر للأسد، وهو إيران.
إذ استندت السياسة الروسية إلى ضمان الاعتراف الدبلوماسي لنظام الأسد في ظل هدوء حدة الحرب. ونجحت موسكو في هذا إلى حد بعيد مع تركيا منذ صيف 2016، إذ ركزت أنقرة طاقاتها على منع وحدات حماية الشعب من بناء دويلة داخل سوريا.
وعملت الدولتان معاً عبر محادثات أستانا في كازاخستان لتهدئة الصراع ومناقشة المخاوف التركية. وسعت روسيا أيضاً لإقناع واشنطن بالجوانب الإيجابية لحلٍّ سياسي مُخفَّف يرتكز تقريباً على تشكيل لجنة لتغيير دستور سوريا وإقامة انتخابات.
ولطالما قدَّمت روسيا نفسها على أنَّها ثقل موازن لإيران في سوريا، من أجل استمالة الولايات المتحدة وإسرائيل والأنظمة العربية.
وكانت الفكرة الغالبة التي انتشرت في العواصم الغربية والعربية هي أنَّ روسيا وإيران ربما يكونان حليفين قويين، لكنَّ نهجيهما في التعامل مع الصراع مختلفان. فبينما تريد روسيا تقوية المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والأمنية لنظام الأسد، تسعى إيران إلى بناء ميليشيات موالية لها، كما فعلت في العراق.
وتوحد سوريا مع إيران وروسيا، دبلوماسياً وعسكرياً
ولكن في الأسابيع الأخيرة، حدثت المعجزة وتوحَّدت روسيا وإيران وسوريا على الجبهتين الدبلوماسية والعسكرية. ومع تسليم ترامب سوريا إلى روسيا، أصبحت عملية السلام المخففة التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف أقل أهميةً مما كانت عليه، بعد تجريدها من النفوذ الغربي. وما بدا يوماً ما أنَّه استعدادٌ أميركي لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا وخارجها قد انهار بين عشية وضحاها.
وأصبح عددٌ متزايد من الدول الآن يعتبر نظام بشار الأسد حائط سد محتملاً ضد الهيمنة الإيرانية المتزايدة في المنطقة. وقد نجحت موسكو في إقناع دول مثل الإمارات العربية المتحدة بالمنطق القائل بأنَّ نظاماً قوياً في دمشق من شأنه أن يكون أقل اعتماداً على إيران ومن ثَمَّ أقل مديونية لها.
وبحسب هذا التفكير، فإنَّ النظام سوف يختار بالطبع استعادة استقلاليته التي كان يتمتع بها قبل عام 2011 إذ جرى تمكينه.
لذا اقترحت الإمارات العربية المتحدة في عام 2016 تطبيع العلاقات مع دمشق في إطار خطة لسحب الأسد بعيداً عن إيران. لكنَّ إدارة ترامب رفضت هذه الخطة. وفي أوائل العام الجاري، بدأ مسؤولون إماراتيون بارزون في إعادة طرح فكرة استعادة العلاقات مع الأسد، مشجعين حلفاءهم السعوديين والبحرينيين على فعل الأمر ذاته.
وعودة أنظمة عربية لدعم نظام الأسد بعد أن كانت تسعى لإسقاطه
وبذلك، تغيَّرت طبيعة هذا الصراع جذرياً، في ظل لجوء دول عربية الآن إلى استخدام رأس مالها الدبلوماسي لتمكين النظام من استعادة السيطرة على سوريا.
وصارت الدول التي مولت في السابق المعارضة التي تقاتل نظام بشار الأسد تعمل الآن بجِدٍّ لتقويته على أمل أن يصبح أقل اعتماداً على منافسيها.
وكذلك ذكر مسؤولون أتراك مراراً أنهم سوف يرحبون باستيلاء النظام على المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة وحدات حماية الشعب لو تضمَّن ذلك طرد الجماعة من هذه المناطق.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الجمعة 28 ديسمبر/كانون الأول، إنَّ تركيا "لن تكون لها أية علاقة بمنبج في حال مغادرة إرهابيي جماعة وحدات حماية الشعب".
وإلى جانب المخاوف المتعلقة بإيران وتركيا، فإنَّ التغيرات الجيوسياسية المضطربة الأخيرة في المنطقة تصب هي الأخرى في مصلحة تعزيز دائم لموقف نظام بشار الأسد .
إذ يرى محور الثورة المضادة، الذي تقوده الإمارات والسعودية والبحرين ومصر، انتصار الأسد جزءاً من جهدهم لقلب إرث انتفاضات 2011 الشعبية واستعادة الحكم السلطوي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وحتى مع أنَّ الإمارات تقول إنَّ تحركها الدبلوماسي وسيلةٌ لمواجهة إيران، فإنَّ دافعها الحقيقي في سوريا –كما كان في مصر وليبيا– هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً.
ويشير هذا إلى أنَّ الأسد من المستبعد أن يواجه العزلة التي واجهها صدام في التسعينيات. فالأردن أعاد بالفعل فتح حدوده مع سوريا، ما يعني أنَّ دمشق الآن لديها روابط تجارية مع جميع جيرانها باستثناء تركيا.
لكن مهمة تدبير العلاقات مع تركيا تبقى أهم تحد أمام الأسد وداعميه
نظام بشار الأسد وداعموه يواجهون تحدياً فورياً كبيراً يتمثل في كيفية إدارة العلاقة مع تركيا. إذ تريد أنقرة أن ترى نهايةً لوحدات حماية الشعب التي تسيطر على أراضٍ بالقرب من حدودها. لكنَّ دعم تركيا ضد وحدات حماية الشعب –وهي قوة ضخمة ذات نفوذ في جميع مناطق الشمال السوري– من الممكن أيضاً أن يؤدي إلى تجدُّد القتال بين وحدات حماية الشعب والنظام.
ومن شأن فشل روسيا في إدارة العلاقة مع تركيا أن يدمر تفاهمها مع أنقرة بشأن سوريا ويؤدي إلى عودة العنف، لا سيما وأنَّ الأتراك يحظون بنفوذٍ قوي على اتحاد من الميليشيات المحلية والجهادية في شمال سوريا.
ويُذكَر أنَّ العلاقة الروسية التركية تطورت في البداية اعتراضاً على سياسة الولايات المتحدة في سوريا. لكن في ظل تبدُّد هذه السياسة، يمكن أن تجد روسيا وتركيا نفسيهما على طرفي نقيض عندما تسعى موسكو ودمشق لتوسيع نفوذهما في المناطق التي كانت تحميها واشنطن سابقاً.
وبصرف النظر عمَّا سيحدث لاحقاً، فإنَّ التطورات الأخيرة توافق هوى نظام بشار الأسد وأمن نظامه على عدد من الأصعدة.
فانسحاب ترامب قد أنهى أي تهديد محتمل صادر عن الوجود الأميركي إلى أجل غير مُسمَّى داخل حدود سوريا. فضلاً عن أنَّ ذلك الانسحاب قتل أية تحدياتٍ سياسية كانت ستواجه الأسد من خلال العملية السياسية في جنيف، التي كانت في وقتٍ ما هدف الوجود الأميركي في البلاد. وسوف تعزز استعادة العلاقات مع الجيران العرب المكاسب العسكرية التي تحققت على مرِّ الأشهر الستة الماضية.
منذ أن استولى النظام على حلب أواخر عام 2016، لم يشكك الكثيرون في أنَّ الأسد سيسترد عافيته، لكن حتى وقت قريب، كان الكثيرون ما زالوا يشككون في قدرته على إعادة الظهور بصفته طرفاً فاعلاً إقليمياً ذا علاقاتٍ طبيعية مع الدول الأخرى. بيد أنَّ أحداث هذا العام المنقضي تشير الآن إلى أنَّ لديه فرصةً حقيقية لفعل ذلك. وسوف يكون هناك الكثيرون في المنطقة –وخارجها– راغبين في المساعدة.