نشرت وكالة Bloomberg الأميركية تقريراً تناولت فيه ما سمَّته مخططات روسية لطرح زعيم محتمل جديد لليبيا، وهو سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم المخلوع، الراحل معمر القذافي.
وأشارت الوكالة إلى أن نجل الحاكم المستبد الليبي السابق، سيف الإسلام القذافي، أصبح في هذا الشهر (ديسمبر/كانون الأول 2018)، أحدثَ شخصيةٍ بطابور طويل من الشخصيات الليبية التي تسعى للفوز بدعم موسكو، في الوقت الذي يُعزِّز فيه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دور روسيا في الدولة الغنية بالنفط الواقعة بشمال إفريقيا.
إذ يرى الكرملين فرصةً سانحة، في ظلِّ غياب الانخراط الأميركي، ليصبح وسيط القوة الرئيس في ليبيا، التي تعاني الانقسامات وغياب القيادة الفعَّالة منذ الإطاحة بمعمر القذافي ومقتله في عام 2011. ويبدو أن روسيا تتشجَّع لتحقيق تلك الغاية، بسبب الخطط الأميركية للانسحاب من سوريا.
يُنظَر إلى موسكو حتى الآن على أنَّها تدعم بثباتٍ الجنرال الليبي خليفة حفتر، الرجل العسكري القوي الذي يسيطر على معظم مناطق شرق ليبيا الغنية بالنفط. ووفقاً لاثنين من الدبلوماسيين الأوروبيين يدرسان استراتيجية الكرملين، داومت روسيا بهدوءٍ على بناء علاقات مع جميع الفصائل المتنافسة. وقد أدَّى ذلك إلى جعلها في وضع استفادةٍ أكثر من قوى خارجية أخرى تدعم جانباً واحداً أو آخر.
ماذا يريد الروس؟
قال محمد الجراح، المؤسس المشارك لمركز Libya Outlook للأبحاث والاستشارات ومقره مدينة طبرق، إنَّه في حين أن هناك قضايا رئيسة تواجه مسعى سيف الإسلام لتولى السلطة، "تتمثل أفضل السيناريوهات بالنسبة للروس في إعادة شخصٍ ما من النظام السابق، لأنَّ بعضهم يعرف البعض الآخر جيداً، وكانت لديهم تعاملاتٌ على مدار عقود خلال فترة حكم القذافي".
بالنسبة لبوتين، الذي أدان بغضبٍ الحملة العسكرية التي قادها حلف الناتو وأطاحت بحكم القذافي الذي امتدَّ 4 عقود بوصفها "حملة صليبية"، ستؤدي إعادة روسيا باعتبارها طرفاً فاعلاً رئيساً في ليبيا، بعد تدخُّلها الناجح بسوريا، إلى تعزيز ثقل بلاده على حساب الولايات المتحدة الأميركية. ويُمهِّد ذلك الطريقَ أمام توقيع عقود إعادة إعمار بمليارات الدولارات، والفوز بحصة في الدولة الغنية بأكبر الموارد النفطية بإفريقيا، وربما بناء قاعدة بَحرية جديدة على البحر الأبيض المتوسط.
قال ألكسندر دينكين، مدير معهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي، وهي مجموعة بحثية تديرها الدولة الروسية وتقدم استشارات للكرملين، إنَّ "الغرب بَذَلَ كلَّ ما في وسعه لإغراق هذه الدولة بالفوضى. لكن الآن، تثق جميع أطراف النزاع بموسكو".
استراتيجية الكرملين تؤتي ثمارها
وفقاً للدبلوماسيَّين الأوروبيَّين، حوَّلت روسيا استراتيجيتها بشأن ليبيا في العام الماضي (2017). وقال الدبلوماسيان إنَّ موسكو، بالإضافة إلى دعم حفتر، بذلت جهداً كبيراً للتودُّد إلى الحكومة المنافِسة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس وغيرها من مراكز القوة، من ضمنهم المنطقة الغربية في مصراتة. تردد حفتر على موسكو في زيارات متكررة منذ عام 2016، وكذلك زار رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، ومسؤولون ليبيون كبار آخرون العاصمة الروسية بانتظام.
ويبدو أنَّ استراتيجية الكرملين تؤتي ثمارها. تنخرط روسيا في محادثات مع ليبيا حول استئناف عقد بقيمة 2.5 مليار دولار لبناء خط سكة حديدية فائق السرعة من بنغازي إلى سرت، والذي جرى تعليقه منذ مصرع القذافي. وستحقق شركات تصنيع الأسلحة الروسية، التي خسرت صفقات أسلحة بقيمة 4 مليارات دولار في ليبيا، مكاسب كبيرة. في هذه الأثناء، تشتري ليبيا مليون طن من القمح الروسي مقابل 700 مليون دولار.
وتتعزَّز كذلك مصالح شركات الطاقة الروسية، إذ زار مصطفى صنع الله، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، موسكو في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، لإجراء محادثات مع شركتي الطاقة الروسيتين Gazprom PJSC وTatneft PJSC بشأن إعادة إطلاق مشروعات ليبية تعود إلى عهد القذافي. إتفقت شركة Rosneft PJSC الروسية على الاستثمار في عمليات التنقيب والإنتاج بليبيا وعلى شراء النفط الخام. وعلى الرغم من علاقات حفتر مع موسكو، أُبرمت جميع الصفقات حصرياً مع المؤسسة الوطنية للنفط التي مقرها طرابلس، لأنها الجهة الوحيدة التي لها الحق في عقد اتفاقيات أجنبية.
وقال صنع الله لوكالة Bloomberg، إنَّ "الدعم الذي أظهره القادة التجاريون والسياسيون الروس للمؤسسة الوطنية للنفط يظهر قوة تطلعاتنا وآفاقنا المستقبلية".
وبحسب رأي الوكالة الأميركية، فإنه في حين تُعمِّق روسيا مشاركتها، يُهدِّد انسحاب الرئيسِ دونالد ترامب من مناطق النزاع بجميع أنحاء العالم، والتي كان آخرها سوريا، بالمخاطرة بفقدان الولايات المتحدة دروها القيادي ويجعلها مُنساقة بلا هدف واضح.
ولا تملك روسيا ولا الولايات المتحدة سفارات عاملة لدى ليبيا، إذ عُلِّقَت العمليات الأميركية بعد مقتل السفير الأميركي في عام 2011 خلال هجوم مسلح على المجمع الدبلوماسي ببنغازي. في الشهر الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، حتى عندما عملت إدارة ترامب على تحسين استراتيجية جديدة بشأن إفريقيا، أرسلت الولايات المتحدة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد ساترفيلد، إلى مؤتمر استضافته الحكومة الإيطالية بشأن ليبيا، في حين أوفدت روسيا رئيسَ الوزراء، ديمتري ميدفيديف.
يعود تاريخ الانخراط الروسي في ليبيا إلى عام 1969، عندما تولَّى القذافي السلطة حين كان ضابطاً عسكرياً يبلغ من العمر 27 عاماً، في انقلابٍ غير دموي ضد نظام الحكم الملكي المدعوم من الغرب. تولَّى الاتحاد السوفييتي والدولة الروسية التي خلفته تسليح نظام القذافي. لكن، تفكَّكت ليبيا بعد الإطاحة بالقذافي إلى فصائل متنافسة، مع وجود حكومة مركزية عاجزة عن السيطرة حتى على العاصمة.
هكذا تصنع روسيا "قذافي" جديداً
أُلقِيَ القبض على سيف الإسلام (46 عاماً)، الذي درس بكلية لندن للعلوم السياسية والاقتصادية، خلال فترة بدء المذابح وإراقة الدماء في ليبيا، وقُدِّم للمحاكمة، ثم أُطلِقَ سراحه في منتصف 2017، من جانب المسلحين الذين أسقطوا والده وقتلوه.
وقال شخصٌ في موسكو على درايةٍ بالسياسة الروسية تجاه ليبيا، إنَّ ممثلين روساً تواصلوا مع سيف الإسلام، الذي كان في وقتٍ ما وريثاً محتملاً للحكم، بعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة، وتحدثوا معه عبر رابط فيديو من مكانٍ غير معلوم. ورفضت وزارة الخارجية الروسية التعليق.
التقى مندوب سيف الإسلام نائبَ وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، في أوائل شهر ديسمبر/كانون الأول 2018، وسلَّمه خطاباً نيابةً عن نجل القذافي، يبعث فيه بتحياته إلى بوتين والحكومة الروسية، ويشرح رؤيته السياسية لليبيا ويطلب دعماً سياسياً.
وقال الشخص إنَّ تلك الزيارة لم تكن الأولى لمندوب سيف الإسلام لروسيا، إذ يُعوِّل نجل القذافي على روسيا من أجل الحصول على مساعدةٍ مالية ووساطة مع مراكز القوى الليبية الأخرى، لدعم خطة ترشحة للرئاسة.
وعلى الرغم من أنَّه مطلوبٌ من جانب المحكمة الجنائية الدولية بتهمٍ تعود إلى عام 2011، من ضمنها تهمتان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، قد يختار سيف الإسلام الترشح في الانتخابات الوطنية التي تريد الأمم المتحدة عقدها العام المقبل (2019)، بموجب خطتها الأخيرة لتوحيد البلاد. وقال الشخص المُطَّلِع على السياسة الروسية تجاه ليبيا، إنَّ حفتر يمتلك أيضاً طموحاته الرئاسية الخاصة به، وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على ساسة ليبيِّين آخرين. ومن جانبها، لم تتخذ روسيا بعدُ قراراً بشأن دعم مرشح معين.
قال الجرح من مركز Libya Outlook، إنَّ ممثلي الادِّعاء في طرابلس يسعون أيضاً إلى إلقاء القبض على سيف الإسلام، وأضاف: "من الصعب رؤية كيف سيستطيع سيف الإسلام العودة مجدداً، إلا إذا حُلَّت القضية من خلال عمليةِ مصالحةٍ وطنية أوسع". وأوضح أنَّ الروس على الرغم من ذلك "يُبقون خياراتهم مفتوحة".
وقالت ماريا المكاحلة، الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط بمركز أبحاث Valdi Discussion club المدعوم من الكرملين، إنَّه مع بلوغ حفتر 75 عاماً واعتلال صحته، بإمكان نجل القذافي الفوز بالدعم الروسي إذا كان هناك إجماع بين الليبيين. وقال ليف دينغوف، المبعوث الروسي إلى ليبيا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إنَّ حكومته على اتصال مع سيف الإسلام، واصفةً إياه بأنَّه "مشارك في العملية السياسية، ومتفائل حالياً للغاية بشأن آفاقه المستقبلية السياسية".
وقد زار عارف على النايض، سياسي ليبي يُنظر إليه باعتباره مُقرَّباً من حفتر، الذي أعلن ترشحه للرئاسة، موسكو مرتين منذ شهر سبتمبر/أيلول 2018، لإجراء محادثات مع مسؤولين كبار. وقال النايض، السفير الليبي السابق لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، في مقابلة أُجريت عبر الهاتف من لندن: "كان الهدف من الزيارة تشجيع الروس لتأدية دورٍ نشط". وأضاف: "أشعر حقاً بأنَّنا نشهد حالة جمود في العملية السياسية، وأعتقد أنني أستطيع أن أكون شخصية توافقية مُوحِّدة".
"لا يستطيع أيُّ طرفٍ ليبيي رفض الحديث مع روسيا"
إلى ذلك، قال اثنان من المسؤولين الغربيين إنَّ أفراداً تابعين للجيش الروسي يقدِّمون تدريبات وخدمات صيانة أسلحة في شرق ليبيا، حيث يسيطر الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر، في حين توجد مؤشرات تشير إلى إيفاد قوات خاصة روسية شاركت في عمليات هناك.
لا تزال روسيا تواجه عقبات كبيرة في التعامل مع الفصائل الليبية المسلحة العاجزة عن التوصل إلى اتفاق حول كيفية تقاسم السلطة. وتسبَّب تدخُّل جهاتٍ فاعلة أخرى، في زيادة تعكير المشهد المشوَّش بالفعل، مع وضع قطر وإيطاليا مراهناتهما على طرابلس، في حين تنحاز دولة الإمارات ومصر إلى حفتر.
وفي هذا الصدد، قال ريكاردو فابياني، الخبير في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشركة Energy Aspects لاستشارات الأبحاث المستقلة، إنَّ روسيا تضمن تحقيق الاستفادة بغضّ النظر عن الفائز في النزاع أو التوصُّل إلى اتفاق سلام، وذلك من خلال التحوُّط في رهاناتها بالحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف. وأضاف: "لا يستطيع أيُّ طرفٍ في ليبيا تَحمُّل تبعات معاداة أو رفض الحديث مع روسيا".