قبل حادثة اغتياله داخل قنصلية بلاده في إسطنبول بعدة أيام، كتب الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي، بمناسبة اليوم الوطني السعودي، عبارة مبهمة على حسابه بموقع تويتر، قال فيها: "النحل يعشق وطنه ويذود عنه صدقاً وحقاً".
فما النحل الذي كان يتحدث عنه جمال خاشقجي؟
خلال الشهور التي قضاها في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة، كان جمال خاشقجي يشكو لمن حوله من أصدقائه، من آلاف التعليقات والرسائل المحتوية على شتائم وألفاظ بذيئة يتلقّاها على هاتفه الجوال، مستفتحاً بها صباحه كل يوم.
لم تكن تلك الرسائل البذيئة صادرة عن أشخاص معروفي الهوية، بل كانت تصل إليه من حسابات بأسماء وهمية على موقع تويتر، وهذه ظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة بالعديد من الدول لأغراض مختلفة.
أما في السعودية، فقد اشتهرت الظاهرة باسم "الذباب الإلكتروني"، ومن مهام هذا الجيش التشويش على الهاشتاغات المعارضة للحكومة السعودية، بالإضافة إلى تهديد وإهانة وترهيب كل من يعارض أو ينتقد سياسات السلطة السعودية، تماماً كما كان يحصل مع جمال خاشقجي.
#وش_تعرف_عن_النحل يعشق وطنه ويذود عنه صدقا وحقًّا.
#اليوم_الوطني_السعودي pic.twitter.com/VssLIqnLrm
— جمال خاشقجي (@JKhashoggi) September 21, 2018
نحل يقاوم الذباب
هذا الأذى الذي كان خاشقجي يتعرض له يومياً، هو ما دفعه للتفاعل بشكل إيجابي مع فكرة عرضها عليه صديقه عمر عبد العزيز، المعارض السعودي المقيم في مونتريال بكندا.
والفكرة عبارة عن مبادرة لإنشاء جيش "النحل الإلكتروني"، الذي ستكون مهمّته مقاومة بذاءة وترهيب وتضليل "الذباب الإلكتروني" بأسلوب عقلاني وأخلاقي، كما أوضح عمر عبد العزيز، بالإضافة إلى محاولة توحيد جهود المعارضين الإصلاحيين والحقوقيين ذوي التوجّهات المختلفة. هذا هو إذن النحل الذي وصفه جمال خاشقجي بأنه يعشق وطنه ويذود عنه.
دعمه للنحل أدّى إلى تصفيته
مؤخراً، ظهر عمر عبد العزيز في لقاء مع شبكة CNN الإخبارية، تحدث فيه عن دعم جمال خاشقجي مبادرة "النحل الإلكتروني"، حيث قام خاشقجي بتحويل مبلغ مالي إلى عبد العزيز (5 آلاف دولار)، من أجل شراء شرائح هاتف كندية (SIM Cards) وإرسالها إلى الراغبين في التطوع والعمل معهم من داخل السعودية.
والهدف من ذلك هو حماية المتطوعين مع جيش "النحل الإلكتروني" من الأذى الذي قد يتعرضون له من قِبل السلطات السعودية، التي تفرض بدورها رقابة مشددة على جميع الشرائح الهاتفية التابعة لشركات الاتصالات السعودية.
كان التواصل بين الرجلين يتم عبر رسائل نصية على تطبيق واتساب. لكن حسب ما توصل إليه بيل مارك زاك، الباحث بمختبر Citizen Lab التابع لجامعة تورونتو، فإن السلطات السعودية كانت قد تمكنت في وقت سابق، من اختراق هاتف عمر عبد العزيز بالتعاون مع شركة تقنية إسرائيلية. وهو ما مكّنها من التجسس على الرسائل المتبادلة بينه وبين جمال خاشقجي.
هذا التعاون بين خاشقجي وعمر شكّل قلقاً للحكومة السعودية، ما دعاها إلى محاولة استدراج عمر إلى السعودية، لكنه رفض العرض الذي قُدِّم له، بالإضافة إلى أن كثيراً من المحللين والمتابعين لقضية خاشقجي باتوا يعتقدون أن تعاونهما كان أحد أهم الأسباب التي دفعت السلطات السعودية لاستدراج خاشقجي إلى إسطنبول وتصفيته.
جدير بالذكر أن السلطات السعودية كانت قد اعتقلت اثنين من أشقّاء عمر عبد العزيز، وعدد من أصدقائه قبل حادثة اغتيال جمال خاشقجي بعدة أسابيع.
الحكومة السعودية تعتقل ٢ من إخوتي وعدد من أصدقائي ..
It's confirmed ! The Saudi authorities arrested my friends and 2 of my brothers #اعتقال_اخوه_عمر_بن_العزيز_واصدقاءه
— عمر بن عبدالعزيز Omar Abdulaziz (@oamaz7) August 22, 2018
ثقة كبيرة وعمل مستمر
أكد عمر عبد العزيز، في حديثه لـ "عربي بوست"، أن عمل جيش "النحل الإلكتروني" لن يتوقّف لأي سبب كان، وأن نتائج عمله إلى الآن إيجابية، على الرغم من أن المشروع لم ينطلق رسمياً بعدُ. وأضاف أنه سيسعى لإتمام المشاريع كافة التي كان بدأها مع الراحل جمال خاشقجي.
وبالنسبة للمتطوّعين للعمل مع جيش "النحل الإلكتروني"، فقد أوضح عمر لـ "عربي بوست"، أن النسبة الأكبر منهم يعملون من داخل السعودية، آخذين في الحسبان أقصى درجات الحيطة والحذر، نافياً أن يكون أي منهم قد تعرض للأذى خلال الفترة السابقة.
وذكر أيضاً أن الانضمام إلى "النحل الإلكتروني" تطوّعي دون أي مقابل مادي، وأن إدارة المشروع نجحت في كسب ثقة جميع المتطوّعين.
الذباب يغدر حتى بحلفائه
يتميّز "الذباب الإلكتروني" السعودي ببذاءته في التعامل مع المغرّدين على موقع تويتر، لكن الغريب هو أنهم لم يكتفوا بمهاجمة وتهديد المخالفين لهم ولسياسات الحكومة السعودية، بل إن أذاهم طال حتى حلفاءهم وأصدقاءهم.
الأكاديمي الإماراتي المتقاعد عبد الخالق عبدالله، أحد مستشاري ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، كان واحداً ممن تعرضوا لهجوم "الذباب الإلكتروني" السعودي، على الرغم من دعمه التام وغير المنقطع للأمير محمد بن سلمان والتحالف السعودي-الإماراتي. فبعد أن كتب تغريدة وصف فيها الأكاديمية السعودية المعتقلة هتون الفاسي بالصديقة العزيزة، متمنياً إطلاق سراحها، انهال عليه "الذباب الإلكتروني" بالشتائم والتهديدات والألفاظ البذيئة، كما طالب بعضهم بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في دولة الإمارات.
صديقة عزيزة وزميلة أكاديمية جادة أتمنى أن أراها قريباً. pic.twitter.com/DHt4GFiXkM
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) November 17, 2018
وبالإضافة إلى الأكاديمي الإماراتي، طال أذى "الذباب الإلكتروني" الكاتب الكويتي أحمد الجار الله، والسعودي زياد الدريس، والعديد من المؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي والموالين لولي العهد السعودي محمد بن سلمان. كما تسببت هجمات الذباب على شعبي الكويت والمغرب، في أوقات مختلفة، بالتأثير سلباً في العلاقات بينهم وبين السعودية.