نشر موقع The National Interest الأميركي مقالاً مطولا للكاتب مايكل روبن، وهو باحثٌ مقيم بمعهد American Enterprise بواشنطن، سلَّط فيه الضوء على تاريخ إيران الحديث، من محاولات استقلال لبعض الأقليات، والانتفاضات العديدة التي اندلعت في البلاد خلال القرن الماضي.
ويروي الكاتب هذا التاريخ من الاضطرابات، مبتدئاً مقاله بحكاية إعلان جمهورية مهاباد في إيران، عام 1946، قائلاً: كان صباحاً دافئاً على غير العادة في شمال غربي إيران، على الرغم من أنَّ جليداً طازجاً قد غطَّى الجبال. استمرت الاضطرابات المدنية في المنطقة لسنوات، وسط حرب واضطراب إقليمي.
تجمَّعت الحشود في ميدان مدينة مهاباد، لم ينتظروا طويلاً، إذ اعتلى قاضي محمد -مؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق- المنصة، وألقى خطاباً استمر 15 دقيقة، أعلن فيها الأكراد شعباً منفصلاً يشارك الأمم الأخرى الحق في تقرير المصير.
وعندما انتهى خطابه أطلق كلُّ واحدٍ من أنصاره الـ300 خمس طلقات في الهواء، على سبيل الاحتفال. في ذلك اليوم لم تظهر الحكومة المركزية الإيرانية، كانت مشكلاتها واسعة، وجيشها قد مزَّقته الانشقاقات. وعلى أية حال فقد كانت القيادة الإيرانية أكثر اهتماماً بكثير، بالحفاظ على الأمن والاستقرار في طهران، والدفاع عنها ضد التهديدات الخارجية، من إرسال قواتها لاستعادة النظام في الريف.
تشير الحكاية المذكورة أعلاه، بطبيعة الحال، إلى إعلان جمهورية مهاباد، في 22 يناير/كانون الثاني 1946، وهي كيانٌ استمر لقرابة العام، قبل أن يتمكَّن الجيش الإيراني من استعادة السيطرة على المنطقة. على أنَّه، في التاريخ الإيراني الحديث، تكرَّرت هذه القصة 6 مرات في القرن العشرين. ومثل هذه الانفجارات الانفصالية وحالات التمرد هي سيناريو من المُرجَّح تكراره في أعقاب موت المرشد الأعلى علي خامنئي.
تاريخ من الاضطرابات
لكن بالعودة إلى التاريخ نجد أنَّ إدوارد غرانفيل براون، وهو باحثٌ بريطاني في شؤون الشرق الأوسط ومراسل مستقل للصحف البريطانية، أرَّخ في العقد الأول من القرن العشرين الانتفاضات ضد التجاوزات الاستبدادية للملكية الإيرانية في الثورة الفارسية. في تلك المرحلة، أصبحت تبريز –ثاني أكبر مدينة إيرانية في ذلك الوقت– مركزاً للحركة الثورية. فَقَدَ الشاه في طهران السيطرة فعلياً على المدينة، وسعى -دون نجاح- إلى إخضاعها بالتجويع.
ثم في عام 1920، بعد خمس سنوات من التمرد المتقطع الذي وُلِدَ من رحم الاستياء الكبير من القيادة الإيرانية التي كانت لا تزال فاسدة وديكتاتورية ومتعسِّفة، أعلن ميرزا كوجك خان جمهورية جيلان السوفيتية على طول الجزء الغربي من الساحل القزويني في إيران.
بعد ذلك بأربع سنوات، وقبل عام واحد من الانهيار النهائي لأسرة قاجار، أصبحت خوزستان، وهي مقاطعة ذات أغلبية عربية داخل إيران، مسرح التمرد الانفصالي ضد الدولة المركزية. إذ انتفض الشيخ خزعل أمير المحمرة –وهي مدينة تُعرَف اليوم باسم خرمشهر– متحدياً النظام الملكي الإيراني. استمرّ تمرده شهرين قبل إخماد الدولة الإيرانية له، ويعيش حفيد خزعل اليوم في الإمارات العربية المتحدة، ولا يزال ملتزماً بأهداف جده وإرثه.
وعلى خلفية الفوضى التي خلَّفَتها الحرب العالمية الثانية وما تلاها، لم ينتفض الأكراد وحدهم، وإنما انتفض أيضاً بعض الإيرانيين الأذربيجانيين (الذين تلقوا دعماً سوفيتياً، مثلهم في ذلك مثل الأكراد). وفي وقت الثورة الإسلامية، انتفض الأكراد مرةً أخرى ضد الحكومة المركزية، وأُخمِدَ هذا التمرد الضعيف بوحشية. وكانت منطقة بلوشستان في جنوب شرقي إيران هي الأخرى مسرحاً لا لتمرد خافت لعقود فحسب، وإنما أيضاً لإجرامٍ واسع النطاق تسبَّبَت فيه تجارة المخدرات الأفغانية.
ويؤدي تمييز الجمهورية الإسلامية ضد السكان البلوش الأصليين، لا من حيث عرقيتهم فحسب، وإنما لأنهم أيضاً سنيون في دولة شيعية طائفية، إلى صب الوقود على النار. وهو عين ما يؤدي إليه التاريخ الموجز لبلوشستان مع الاستقلال.
انهيار أمن الحدود الإيرانية
الأمر ببساطة أنَّ ماضي إيران ليس سوى مقدمة، فعندما تكون الدولة ضعيفة أو تنهار الحكومات، تتمرَّد الأقليات الهائجة الموجودة على الأطراف. وثمة دلائل وافرة على أنَّ قوات الأمن الإيرانية بدأت تفقد قبضتها، وليس الأمر مقتصراً على استمرار الاحتجاجات الاقتصادية التي بدأت منذ قرابة عام مضى بشكلٍ متقطِّع، وإنما أصبح "الإرهابيون" و"المتمردون" في الشهور الأخيرة أجرأ باطراد في أطراف إيران.
خذ الأحواز مثلاً، فهي أكبر مدينة في إقليم خوزستان الغني بالنفط، وثامن أكبر مدينة في إيران بشكل عام. في الـ22 من شهر سبتمبر/أيلول 2018، هاجم رجالٌ مسلحون عرضاً عسكرياً، أسفر عن مقتل 25 شخصاً. كان هذا الهجوم أكثر الهجمات دموية داخل إيران منذ هجم "الإرهابيون" على موكب شيعي في مدينة تشابهار الجنوبية عام 2010، وقتلوا أكثر من ثلاثين شخصاً.
ألقت التحقيقات الإيرانية التالية باللائمة على خلية من أربعين "إرهابياً"، قيل إنَّ 22 منهم قد أعدموا بالفعل. وقد تهنئ السلطات الإيرانية نفسها على تحقيق "العدالة السريعة"، لكن ربما يجدر بهم بدلاً من ذلك أن يفكروا في الكيفية التي استطاعت بها خليةٌ بهذا الحجم العمل بسريةٍ لمثل هذا الوقت الطويل، وكيف استطاع الكثير من المسلحين اختراق منطقة شديدة الحراسة والقتل بمثل هذه الفاعلية.
وفي حين أنَّ بعض القتلى في هذا العرض كانوا من المتفرجين الأبرياء، لكن لو كان الجنود ورجال الحرس الثوري الذين قُتِلوا غير مسلحين، فإنَّ هذا سوف يشير إلى مدى ضعف ثقة النظام الإيراني في ولاء قواته.
بعد أقل من شهر من ذلك، عانت قوات الأمن الإيرانية من هجومٍ مدمر آخر على نقطة ميرجاوه الحدودية، وهي المعبر الحدودي الرئيسي بين إيران وباكستان. في ذلك الهجوم، استطاع "المتمردون" أو "الإرهابيون" بطريقة ما مفاجأة عشرات الجنود الإيرانيين العاملين داخل قاعدة إيرانية واختطافهم.
وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أعادت القوات الباكستانية خمسة من الرهائن، لكنَّ مصير الآخرين لا يزال مجهولاً. ويشير التحقيق الإيراني إلى أنَّ هذا الهجوم على نقطة ميرجاوه كان في جزءٍ منه عملاً داخلياً، ومن الواضح أنَّ الأمن في أطراف إيران قد بدأ في الاهتراء.
وفي غضون ذلك، لا تزال كردستان إيران موقعاً للتمرد المستمر والاضطرابات. الصيف الجاري لقى عشرة من الحرس الثوري مصرعهم في هجومٍ واحد. الاشتباكات متكررة في هذه المنطقة، وقمع النظام وحده هو ما يمنعها من التمرد الصريح. وتعد حقيقة أنَّ الحكومة الإيرانية أُجبِرَت على الإفادة بمثل هذه الحوادث بدلاً من دفنها دليلاً على أنَّ التحدي لم يعد من الممكن إنكاره، حتى في طهران.
عادة ما يقترح المستجدون على السياسة الإيرانية، الذين ينظرون إلى ديموغرافيتها ويرون تنوعها العرقي الهائل، اللعب "على البطاقة العرقية" لدعم بعض من هذه الحركات الانفصالية، لكنَّ هذا الأمر سوف يكون خطأً فادحاً.
ذلك أنَّ إدراك إيران بوصفها أمةً يسبق مفهوم الدول المستندة إلى العرق. وعندما سعى "الأجانب"، في الماضي، إلى إثارة الاضطرابات العرقية، لم يتسبَّبوا إلا في تجمُّع الإيرانيين من جميع الأعراق حول العالم، بصرف النظر عن مدى بشاعة الحكومة.
ومن المحتمل أن تكون حرب الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، مع إيران عام 1980، قد أنقذت الثورة الإسلامية التي كانت قد بدأت بالفعل في الخروج عن السيطرة. ومن حسن الحظ، وعلى الرغم من الدعاية الإيرانية القائلة بخلاف ذلك، فلم تدعم الولايات المتحدة ولا أية قوة أخرى حركات انفصالية في إيران في حقبة ما بعد الثورة.
التحديات الأمنية لفترة ما بعد خامنئي
لكن مع تدهور صحة المرشد الأعلى، علي خامنئي، واقترابه من "شهوره أو سنواته الأخيرة" تبدو سيطرة الحكومة المركزية على الأطراف ضعيفة بشكلٍ متزايد. ومن المحتمل أن يتسبب الفراغ الذي سوف يعقب موته في عدد من الانتفاضات المتزامنة للسكان المحليين.
وصحيح أنَّ الحرس الثوري الإيراني سوف يظل ورقة قوة هائلة، لكن كون منصب قيادة النظام شاغراً وغياب مهمات قائده العام، فمن المرجح أن يواجه انتفاضات أصلية فورية وحالات تمرد في خوزستان وكردستان وبلوشستان. ومع ذلك فمن غير الواضح مدى الفاعلية التي سوف يكون عليها الحرس الثوري.
لدى مجتمع المخابرات الأميركي اثنتان من النقاط المخفية فيما يخص الحرس الثوري الإيراني. أولهما انقساماته الفصائلية، فبينما يعترف الجميع بأنَّ الحرس الثوري ليس متجانساً –إذ ينضم بعض الرجال من أجل الامتيازات فحسب– فليس ثمة الكثير من الفهم حول من يمثل المقتنعين بالأيدولوجيا حقاً، أو كم عددهم، أما النقطة الثانية فتتعلَّق بالوحدات الفردية.
إذ أعاد محمد علي جعفري، القائد الحالي للحرس الثوري، عام 2007، تنظيم القوات لوضع وحدة واحدة في كل إقليم (ووحدتين في طهران) بهدف الإبقاء على النظام. ومع ذلك فمن غير المعروف ما إذا ما كانت كل وحدة إقليمية من الحرس الثوري الإيراني تتكون من رجال من سكان المناطق التي يخدمون فيها.
وسوف تشير إجابة هذا السؤال إلى ما إذا كانت الأيديولوجيا تفوق الولاء عندما يعطى الجنود أوامر بإطلاق النار على حشدٍ ربما يضم أفراداً من الأسرة أو الأصدقاء أو زملاء الدراسة.
عندما يموت خامنئي، من المُرجَّح أنَّ غير المقتنعين بأيديولوجية النظام الثورية سوف يعودون إلى ديارهم، وهي خطوات لن تؤدي إلا إلى المزيد من تشجيع الأكراد والبلوش، وربما العرب، على التمرد. وحتى لو ظلَّ الحرس الثوري مخلصاً إلى حدٍّ كبير، فإنه سوف يكون مشغولاً بتأمين المدن الرئيسية في إيران –طهران ومشهد وأصفهان وتبريز– فضلاً عن البنية التحتية النفطية للبلاد. سوف يملأ المتمردون والمجالس المحلية هذا الفراغ. وربما يعلن البعض استقلالهم، ومن المرجح أن يخفي آخرون تحركاتهم بالحديث عن الفيدرالية.
استغرق الأمر في العشرينات ومنتصف الأربعينات وفترة الثورة الإسلامية النظام الإيراني شهوراً، وفي بعض الأحيان أعواماً، لاستعادة النظام للأطراف. وتطلَّب الأمر وجود ضباط مستعدين للتخلص من القيود والسوابق من أجل تهدئة الريف.
من ذلك مثلاً ما فعله رضا خان، الضابط القوزاقي، الذي أدَّى نجاحه في إخماد التمرد إلى جعله بطلاً عسكرياً في بداية الأمر، ثم تنصيبه شاهاً عام 1929. ومن غير الواضح ما إذا كان هناك أي قائد إيراني ينتظر بين صفوف الجيش الإيراني أو الحرس الثوري، وإذا ما لم يكن مثل هذا القائد موجوداً، فأي ردّ سوف يكون في طهران والمنطقة والعالم على انهيار الدولة وتشظّيها. لو كان لنا أن نأخذ العبرة من التاريخ فقد لا يضطر العالم إلى الانتظار طويلاً لمعرفة ذلك.