لا تقل العلاقة بين راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي والأبّ الإسلامي لثورات الربيع العربي، والباجي قائد السبسي، الرئيس التونسي الذي سَبق أن تقلَّد مناصب عدَّة في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، غرابةً عن تلك الصداقة التي تطوَّرت بين مارتن ماكغينيس، رئيس الأركان السابق للجيش الجمهوري الأيرلندي، وإيان بيزلي، الزعيم الراحل للحزب الوحدوي الأيرلندي: "أعداء ألدّاء في الحرب، حُلفاء غرباء في السلام".
فأحدهما يؤمن بالإسلام والديمقراطية والثورة، والآخر سمسار سُلطة تقليدي من النظام القديم؛ إذ يُمثِّل حزبه ائتلافاً من الرأسماليين والقوميين والعلمانيين الذين تقوم وحدتهم فقط على رغبتهم في الإطاحة بالإسلاميين المنتمين إلى حزب النهضة، حسب تقرير كتبه ديفيد هيرست في موقع Middle East Eye البريطاني.
بين الدستور والسُّلطة
لكنَّ تلك العلاقة مستمرةٌ منذ 4 سنوات. وقد أسهم اتفاقهما -الذي جرى التفاوض عليه سراً في باريس عام 2013- في تهدئة أزمةٍ نجمت عن اغتيال اثنين من السياسيين اليساريين، وهما شكري بلعيد ومُحمد براهمي، إذ حصل الإسلاميون على دستورهم فيما حصل السبسي على السلطة.
وللإنصاف، رفَضَ السبسي والرجال المقربونَ منه عروض مبالغ طائلة من المال السعودي والإماراتي لمصلحة اتفاقٍ جلبَ قدراً من الاستقرار السياسي لتونس.
بيد أنَّ هذا التوافق أسفر عن بعض المشكلات أيضاً؛ إذ أصبح حزب النهضة، ثاني أقوى حزب في تونس بعد انتخابات عام 2014، جزءاً من الحكومة ولو شكلياً على الأقل؛ لذا اختفت المعارضة الفعلية.
أيَّد كلٌّ من حزبي نداء تونس والنهضة نهجاً قائماً على تعزيز المنظور الأمني في مكافحة الإرهاب وعقيدة صندوق النقد الدولي الكلاسيكية، وهو ما أنقذ الدولة من الانهيار، لكنَّه لم يُقدم فائدةً كبيرة باستثناء ذلك. واندلعت احتجاجاتٌ عنيفة في يناير/كانون الثاني الماضي ودعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تنظيم إضرابٍ وطني في 17 يناير/كانون الثاني من العام المُقبل 2019.
حينَ تخلَّى حزب النهضة عن وصمة الإسلام السياسي، أعلنَ الانفصال بين المسجد والحزب، وأطلق على نفسه اسم "مُسلمٌ ديمقراطي"، وأشادَ به السبسي واصفاً إيَّاه بأنَّه حزبٌ تونسي مُعاصر. بيد أنَّ الخطوة لم تحظَ بإجماعٍ من قيادات حزب النهضة؛ إذ تعرَّض الغنوشي لانتقاداتٍ بسبب تعريض حركته السياسية والثورة للخطر.
الحزب ينتقل إلى ابن السبسي غير المؤهل سياسياً
بيدَ أنَّ السبسي ما زال يحمل روح النظام القديم. فبسبب قلقه إزاء خليفته في الحكم مثل جميع الرؤساء الذين يبلغون عمر الـ92، دفع ابنه غير المؤهل سياسياً، حافظ قائد السبسي، إلى الصدارة بصفته وريثاً له. وأسفرت رغبته في تكوين سلالةٍ حاكمة عن حدوث انقسامٍ تلو الآخر داخل حزبه. كان أول من ترك الحزب هو مُحسن مرزوق، الأمين العام للحزب الذي انشقَّ عنه وشكَّل حزبه الخاص "مشروع تونس".
أدت تلك الانقسامات إلى خسارة حزب نداء تونس الأغلبية في البرلمان، مما جعل حزب النهضة، الذي جاء في المرتبة الثانية في انتخابات عام 2014 بحصوله على 69 مقعداً من أصل 217 مقعداً، هو الحزب الأكبر في البرلمان. إذ انشق عن حزب نداء تونس نحو نصف النواب التابعين له الذين كان عددهم 86 منذ ذلك الحين. وزادت حدَّة التوتر حين عيَّن حزب نداء تونس، لنزع فتيل أزمةٍ سياسية أخرى، خبيراً فنياً "تكنوقراطياً" غير مُتمرِّس، وهو يوسف الشاهد، في منصب رئيس الوزراء.
على طرفَي النقيض، كانت هناك طريقتان مختلفتان جوهرياً لممارسة السُّلطة. يتمثل نهج الطريقة الأولى في عبارة: أيّاً كان رئيس الوزراء، فهو الرجل الذي لا يُشكِّل تهديداً على الرئيس. وقد أعرَبَ حافظ السبسي عن هذا الأمر بوضوحٍ تام في تسريبٍ للتعليقات التي أدلى بها في اجتماعٍ للحزب في العام الماضي 2017، قائلاً: "لم نضع (الشاهد) في هذا المنصب حتَّى يتسنَّى له تعيين مُعاونين تابعينَ له لا نعلمهم أو التعامل مع الوزراء التابعين لحزب نداء تونس بنفس الطريقة".
أمَّا الطريقة الثانية فتتمثل في عبارة: تغيَّرت الأمور بعد 7 سنواتٍ من اندلاع الثورة التي أطاحت زين العابدين بن علي. ويوجد الآن دستور يضمن الفصل بين السُّلطات ويمنح رئيس الوزراء معظم السلطة التنفيذية.
ونظراً إلى أنَّ منصب رئيس الدولة صوري؛ نما الصراع على السُّلطة بين حافظ والشاهد. وأرادَ السبسي عزل الشاهد من منصبه، لكنَّه رفض تقديم استقالته وتمكَّن من الحصول على عددٍ كافٍ من النواب في البرلمان -43 نائباً حتى الآن- لترك الحزب معه. وبذلك أصبح التحالف الوطني الداعم للشاهد يُشكِّل ثاني أكبر جبهة في البرلمان.
أجبرت الحرب داخل حزب نداء تونس أجبر حزب النهضة على الانحياز إلى أحد الجانبين. وفي إطار سعي السبسي للحصول على دعم حزب النهضة لإطاحة رئيس وزرائه، رفَضَ منح الحزب مُرشحاً بديلاً. وأرادَ فصيلٌ داخل حزب النهضة البقاء مع السبسي، لكنَّ غالبية أعضاء مجلس شورى الحزب اعتقدوا أنَّ ضعف الحكومة سيتفاقم إذا ساندوا السبسي وولده.
انفضَّ التحالف بين السبسي وحزب النهضة -إذ أعلنَ السبسي انتهاء التحالف بعد أيامٍ من تعليق عضوية الشاهد في حزب نداء تونس- لتظهر بعدها سلسلةٌ من الدعاوى القانونية. إذ ادَّعى محامو بلعيد وبراهمي وجود "غرفة سوداء" –وهي منظمةٌ أمنية مشبوهة يُديرها حزب النهضة، أو تعمل لمصلحته- لتدمير الأدلة على تورطهم المزعوم في كلتا الجريمتين السياسيتين، وهو ادعاءٌ نفاه الحزب نفياً قاطعاً.
وفي اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي التونسي، عُقِد لدراسة هذا الملف المزعوم –وأخطأ في نُطق بعض أسماء أعضاء حزب النهضة، وزعم أيضاً أنَّ السبسي كان عميلاً لأجهزة المخابرات الإيطالية– رُفِضت تلك الادعاءات.
ورَفَع الأمين العام لحزب نداء تونس سليم الرياحي، الذي رتَّب اللقاءات التي انقعدت في باريس بين السبسي والغنوشي، قضيةً في المحكمة العسكرية في تونس تزعم أنَّ الشاهد تآمر لتنظيم انقلابٍ ضد الرئيس. وهو الادعاء الذي رفضته المحكمة أيضاً الخميس الماضي 6 ديسمبر/كانون الأول.
آخر بلد صامد
هناك إغراءٌ في كل ما يحدث يدفعنا إلى قول "فليُصِب الطاعون بيوتكما على السواء"، من منظور أنَّ حزبي نداء تونس والنهضة يتبارزان كأندادٍ من أجل السُّلطة، غافلينَ عن حياة التونسيين العاديين الذين لم يطرأ عليهم أي تغييرٍ.
زعَمَ بعض المحللين أنَّ الأزمة الحالية ليست بالأمر السيئ؛ فالتحالف بين العلمانيين والإسلاميين حرَمَ التونسيين من مُعارضةٍ قوية، فضلاً عن أنَّ أغلب التونسيين يشعرون بأنَّ كلا الطرفين لا يُمثلهم.
بيد أنَّ تلك الحُجج والمزاعم بها بعض الثغرات. فأولاً، حزبا نداء تونس والنهضة ليسا سواء؛ إذ يملك الحزب الأول المال والسُّلطة من المؤسسة القديمة. فيما يتألف الحزب الآخر بدرجةٍ كبيرة من الطبقتين الاجتماعيتين المتوسطة والدنيا، ويسعى لتأسيس ديمقراطية.
بل إنَّ الانتقاد المُوجَّه إلى حزب النهضة هو أنَّهم تنازلوا أكثر من اللازم بالتخلِّي عن السُّلطة مقابل الاستقرار.
هناك مخاطر وجودية تُهدِّد حزب النهضة على الدوام، وفي حال خَسِر هذه المعركة، فهناك احتماليةٌ كبيرة أن يُحظَر نشاطهم في تونس كما حدث لحركة الإخوان المسلمين في مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
أمَّا الخلل الآخر في هذا الادعاء، فهو أنَّه غافلٌ عن حقيقة أنَّ تونس هي آخر بلد صامد. فهي الدولة الوحيدة التي نَجَحت فيها ثورة الربيع العربي في إحداث تحوّل ديمقراطي حتى وإن كان معيباً. وبذلك يكون حزب النهضة هو الحزب السياسي التونسي الوحيد الذي حافَظَ على تماسكه ودعمه.
وَضعت الانتخابات المحلية التونسية التي أُجريت مطلع العام الجاري 2018 حزب النهضة في مواجهةٍ أمام حزب نداء تونس. وبيَّن أحدث استطلاع للرأي حصول النهضة على نسبة 36.1% فيما حصل حزب نداء تونس على 29.8%. ويُظهر أيضاً أنَّه في حال إقامة انتخابات رئاسية، فإنَّ الشاهد سيكون أكثر شعبيةً من السبسي.
شوكة في خاصِرة الأنظمة الديكتاتورية
يُمثِّل وجود حركات إسلامية تملك مهارات سياسية مُثبَتة في تونس شوكةً في خاصرة الأنظمة الديكتاتورية في دول الخليج العربي ومصر، الذين قطعوا كل السبل لوضع حدٍّ لتجربة تونس الهشة مع الديمقراطية.
فصحيحٌ أنَّ السبسي رفض تقدُّم الحركات الإسلامية قبل 4 سنواتٍ، لكنَّه لم يعد كذلك الآن. وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني المُنصرم، أجرى المليادير المصري نجيب ساويرس زيارةٍ إلى السبسي في قصر قرطاج "لإقامة شراكاتٍ مع عدد من المؤسسات التونسية". وأثارت تلك الزيارة غضب بعض الناشطين الذين أشاروا إليه بأنَّه "الأب الروحي للانقلاب المصري".
بعدها وَصَل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ورغم الاحتجاجات واسعة الانتشار، إذ وصف الإعلام التونسي الزيارة بأنَّها إهانةٌ لديمقراطيتهم بعد حادثة مقتل خاشقجي، وصفَ السبسي، محمد بن سلمان بأنَّه "ابنه"، وأثنى على العائلة المالكة وأكَّد للمرة الثانية ضرورة الحفاظ على "العلاقة الخاصة" بين البلدين.
أضرَّت تلك الزيارة بالعلمانيين اليساريين والإسلاميين المُحافظين. واتَّهم الرئيس التونسي السابق المُنصف المرزوقي الرئيس السبسي بـ "المُطالبة بأموال الفساد السياسي" من الإمارات والسعودية. وقال إنَّ الرئيس "ارتكب أخطاء جسيمة بتوجيه اتهاماتٍ سخيفة ضد حزب النهضة". ومن المفارقة أنَّ المرزوقي شعرَ بالخيانة حينَ تخلَّى عنه حزب النهضة لمصلحة السبسي.
بعد أن غادر محمد بن سلمان، ظلَّ هناك 3 من مستشاريه الخاصين ماكثين في البلاد. بينما ظهرت شخصياتٌ خليجية بارزة أخرى في تونس، من بينها راشد مُحمد المنصوري السفير الإماراتي الجديد لدى تونس.
يُذكَر أنَّ المنصوري أدَّى دوراً محورياً في إقناع الزعيم مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، بأنَّه في حال أجرى استفتاء استقلال كردستان العراق المنكوب، فستحصل بلاده على دعم أموال الخليج. فيما أجرى ابن برزاني، مسرور، وهو رئيس مجلس الأمن القومي في الإقليم، زيارةً سرية إلى أبوظبي قبل شهرٍ واحد من استفتاء 25 سبتمبر/أيلول.
بلدٌ صغير، وأسئلةٌ كُبرى
لا شيء من هذا قد يُشكل خبراً ساراً؛ فنحن نعلم ما يُمكننا توقعه. يُمكن أن نشهد مزيداً من الاضطرابات ومزيداً من الاغتيالات السياسية غير مؤكَّدة المصدر، لكنَّ حزب النهضة سيُلام عليها. وما زال من الممكن أن تُثبت تجربة تونس الهشَّة مع الديمقراطية أنَّها محدودة زمنياً.
توقفتُ منذ فترةٍ طويلة عن توقُّع أن ينتبه الساسة الغربيون إلى عواقب صفقاتهم مع الحُكام الطغاة. وحزب النهضة واثق من أنَّ تونس في العام الجاري 2018 تعد مكاناً مختلفاً. سنرى ما إذا كانت تلك الثقة لها ما يُبررها.
العام المُقبل 2019، ستشهد البلاد انتخاباتٍ برلمانية ورئاسية. ويبدو أنَّ تفوق حزب النهضة ورئيس الوزراء يوسف الشاهد في استطلاعات الرأي ستدفع السبسي وحلفاءه المُكتشَفين حديثاً في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى محاولة التلاعب في النتيجة.
فهل يجلس العالم الأوروبي الذي يُهيمن عليه البرلمان جانباً ويراقبهم وهم يخرِّبون البرلمان في تونس؟ وهل سيقف العالم مرةً أخرى صامتاً، ويدع الطغاة في دول الخليج يُخططون لانقلابٍ آخر وتدخُّلٍ آخر؟
تونس بلدٌ صغيرٌ لكنَّه يطرح أسئلة كُبرى.