يمكن الحكم على الود الذي يسود العلاقات البريطانية – السعودية من خلال تتبع عدد سلال الطعام التي تصل وزارة الخارجية البريطانية في الأسابيع التي تسبق "عيد الميلاد"، بحسب ما نقلته صحيفة iNews البريطانية عن دبلوماسيين بريطانيين "مخضرمين".
وتشير الصحيفة البريطانية إلى أن المبعوثين السعوديين حريصون على التأكيد على "دفء العلاقات بين الرياض ولندن". على سبيل المثال، وخلال السنوات الأخيرة، كان المسؤولون السعوديون يندمجون في الاحتفالات بعيد الميلاد، عن طريق إرسالهم لسلّات من الخيزران إلى المكاتب الحكومية في وايت هول وسط لندن ممتلئة بالأطعمة الشهية، بدءاً بـ"جيلي روان بيري"، وحتى "الكافيار".
لقيمات "فاخرة" تعني الكثير
تُظهر السجلات التي اطَّلعت عليها الصحيفة البريطانية أنَّه في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أرسل سفير السعودية في لندن سلالاً يصل إجمالي قيمتها إلى ألف جنيه إسترليني (1.281 دولار أميركي) إلى أربعة وزراء دولة، في وزارة الخارجية البريطانية.
وكان من بينها سلة تُقدر بـ330 جنيهاً إسترلينياً (423 دولاراً أميركياً)- تحتوي على 23 صنفاً مختلفاً من الطعام من بينها "السلمون" المُدخن، ليتذوقها وزير الخارجية البريطاني، آنذاك، بوريس جونسون.
إلا أنَّ جهود الرياض هذا العام لتعزيز قوتها الناعمة سوف تصطبغ بصبغة مختلفة نوعاً ما إلى جانب هداياها من سلال اللقيمات الفاخرة، إذ تسعى السعودية إلى تحويل مسار الاستياء الدولي الشديد الذي أعقب عملية القتل "الوحشية" للصحافي جمال خاشقجي في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول.
وتضيف الصحيفة أن الوضع الذي وجدت السعودية نفسها فيه مختلف تماماً عما كانت تتوقعه قبل مقتل خاشقجي. خلال العامين الماضيين، أنفقت السعودية عشرات الملايين من الدولارات، بما في ذلك ما لا يقل عن 35 مليون دولار في أميركا، على جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة في لندن والولايات المتحدة كجزء من حملتها لتحسين صورتها بشكلٍ جذري.
اجتماع سعودي في مانهاتن مع "مؤثرين" في الرأي العام
خلال هذا الأسبوع، اتضح أنَّ الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات العامة السعودية وسفير السعودية لدى المملكة المتحدة سابقاً، عقد اجتماعاً مع مجموعة مختارة من المؤثرين في الرأي في إحدى الشُقق في مانهاتن يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث كان يُقدَّم الجبن وأصنافاً عديدة من اللحوم الباردة، في إطار سعيه لإقناعهم بأنَّ الرياض تُحقِّق بشكلٍ دؤوب في قضية مقتل خاشقجي.
من المفهوم على الأقل أنَّ اجتماعاً مماثلاً عُقد في لندن. وفي الوقت نفسه، أخبرت شخصيات عاملة في هذا المجال، الصحيفة البريطانية، بأنَّ السعوديين يسعون أيضاً إلى منح عقود مربحة جديدة للمختصين في "الاتصالات في أوقات الأزمات" في بريطانيا لمساعدتهم في الوصول إلى جمهورهم المستهدف.
مَهمة شاقة تنتظر الرياض
يقول أحد كبار الشخصيات في صناعة العلاقات العامة والضغط كان عمل سابقاً مع السعوديين، إنَّ أي شخص سيقبل هذا العمل سوف يواجه مهمة شاقة.
يقول المصدر للصحيفة البريطانية: "يواجه السعوديون الآن أكثر المشاكل إرعاباً مع العلاقات العامة السياسية، ربما سيكون من الأسهل أن تتعامل مع شخص مثل بشار الأسد، الذي لم يتظاهر على الأقل بأنَّه أي شيء آخر غير الوحش الذي يبدو عليه. بالنسبة للسعوديين، يكمن الخطر في أنَّ الأمر يبدو الآن وكأنَّ النفاق هو جوهر ما يفعلونه".
غياب ثمار الإصلاح
كان يُتوقع أن تجني السعودية ثمار برنامج الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، المعروفة باسم رؤية 2030، الذي يقوده حاكم البلاد الفعلي، ولي العهد محمد بن سلمان، البالغ من العمر 33 عاماً.
إلا أنَّ هذه العملية تعثرت على خلفية تعذيب وقتل خاشقجي داخل قنصلية المملكة العربية السعودية في إسطنبول، وهي عملية باهظة التكاليف ومصمَّمة بشكلٍ متناغم لتقديم ولي العهد الشاب على أنَّه صاحب السلطة بعيد النظر الذي أقدم على خطوات مثل السماح للنساء بقيادة السيارات، وتنويع الاقتصاد الذي يُشكِّل النفط فيه 90% من عائدات التصدير.
وكانت هناك عواقب فورية عندما تخلفَّت عشرات الشخصيات، من الرئيس التنفيذي لشركة Uber إلى جميع ممثلي شبكة CNN، عن حضور مؤتمر استثماري بارز عُقد في الرياض بعد أيام قليلة من اختفاء الصحافي.
وقال دبلوماسي بريطاني سابق، كان خدم سابقاً في الرياض، للصحيفة البريطانية، إنَّه في ظل إشارة الكثيرين إلى تورط محمد بن سلمان شخصياً في مقتل خاشقجي، وهو ادعاء تنفيه الرياض بشدة، تسعى الدائرة الداخلية لعائلة آل سعود باستماتة إلى استعادة أرضيتها المفقودة على الساحة الدولية. وفي حين يبدو أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في صفِّها، تبدو الحكومة السعودية منعزلة في معركتها لمواجهة الضغوط المتزايدة عليها من جرَّاء مقتل خاشقجي وحالة الطوارئ الإنسانية المستمرة الناجمة عن حربها في اليمن.
"عليهم إثبات أنَّ إصلاحاتهم ليست واجهة لتحسين صورتهم"
الدبلوماسي السابق قال أيضاً: "لن ينهي أي قدر من سلال عيد الميلاد الفاخرة هذه المشكلة الآن، إنها ليست مشكلة للسعوديين فحسب، بل أيضاً لحلفائهم، مثلنا".
مضيفاً: "مقتل خاشقجي لا يمكن تلميعه مهما كان مقدار المال الذي ينفقونه على شركات الاستشارات المتعلقة بالأزمات وشركات العلاقات العامة". مشيراً إلى أن "السبيل الوحيد لكي يمضي السعوديون في طريقهم الآن هو أن يُنظر إلى برامجهم الإصلاحية على أنَّها برامج صادقة وليست مجرد واجهة لتحسين مظهر غرائزهم القمعية التي تجسدت في إسطنبول".
وبحسب iNews، وفي محاولة لاستعادة الأخذ بزمام الأمور، أرسل السعوديون مبعوثين جديرين بالثقة لإقناع الشخصيات الرئيسية، بدءاً من السياسيين وصولاً للصحافيين، بأنَّ القتل المروع لخاشقجي، والذي تعرض للتعذيب قبل أن يجري تقطيع أوصاله على ما يبدو على يد فرقة اغتيالات مؤلفة من 15 شخصاً، كان عملاً "شاذاً بشعاً نفَّذته عناصر مارقة".
تراجع شركات العلاقات العامة في لندن عن العمل مع السعوديين
تشير الصحيفة إلى أنه من المؤكد، أنَّ الحماسة السابقة لشركات الاستشارات للعمل مع السعوديين قد تضاءلت بشكلٍ كبير.
فقد قال العديد من الشركات التي تتخذ من لندن مقراً لها، والتي سبق لها أنَّ أبرمت عقود عمل مع المملكة، بما في ذلك شركة ماثيو فرويد للعلاقات العامة، وشركة Pagefield Global Counsel، إنَّهم لم يعودوا يعملون مع السعودية، وإنَّ الصفقات السابقة قد انتهت مدتها قبل حادث إسطنبول. وقالت شركة Milltown Partners، التي يديرها الرئيس السابق لفريق الاتصالات الخاص بالأمير تشارلز، إنَّه ليس لديها عقود في المنطقة حالياً.
وقال مصدر آخر للصحيفة، عمل في مجال العلاقات العامة: "عندما أصبح محمد بن سلمان ولياً للعهد، هرعت الكثير من الشركات إلى السعودية. حسناً، إنَّهم يدفعون مبالغ جيدة للغاية، لكن ذلك لم يكن الدافع الرئيسي، فهناك الكثير من الأنظمة في المنطقة على استعداد لدفع المبالغ نفسها".
وتابع بالقول: "كان الناس ينتظرون أن يتخذ السعوديون خطوات نحو الإصلاح، وهذا أمر تود أي شركة علاقات عامة ذات سمعة جيدة أن تساعدهم فيه. عندما يبدو أنَّ هذه العملية تنتكس في ضوء مقتل خاشقجي، ستجد الكثير من الشركات تتراجع".
لكن لم تتراجع جميع الشركات
الكثير من الشركات تراجعت، لكن ليس جميعها. هناك عدد من شركات العلاقات العامة المرتبطة بالمملكة المتحدة والمعروفة بأعمالها السابقة مع السعوديين، والتي ظلَّت هذا الأسبوع صامتة حول ما إذا كان عملها لا يزال مستمراً معهم.
رفضت شركة Hill + Knowlton Strategies، وهي جزء من شركة الدعايا البريطانية العملاقة WPP، التعليق على ما إذا كانت قد أنهت أي عقود قائمة مع الرياض، وكانت تعلن هذا الأسبوع عن حاجتها لتوظيف "مدير حسابات خبير في التعامل مع العملاء الحكوميين".
ولم ترد شركة Consulum، على أسئلة وجهتها لها الصحيفة البريطانية حول طبيعة عملها الحالي مع المملكة العربية السعودية، وهي شركة مقرها لندن يعمل لديها عدد كبير من الموظفين السابقين في شِركة Bell Pottinger (شركة العلاقات العامة التي أُجبرت على الإغلاق بعد فضيحة بشأن أنشطتها في جنوب إفريقيا).
والشركة، التي يتألف موقعها الإلكتروني من صفحة واحدة تصف قدرتها على إنجاز "برامج تواصل متطورة تُشَكِّل الوعي، وتوجه الرأي العام، وتعزز التفاهم على المستوى الدولي"، معروفة بأعمالها السابقة مع محمد بن سلمان.
واتضح في وقتٍ سابق هذا العام أنَّها تضم بين موظفيها جوليون ويلش، وهو دبلوماسي بريطاني رفيع المستوى، يقضي إجازة خاصة غير مدفوعة الأجر من العمل في وزارة الخارجية أثناء عمله كأحد كبار المديرين لدي شركة Consulum.
كم تحتاج السعودية من هدايا وسلات هذا العيد؟
لا توجد بالطبع قواعد تمنع الشركات من العمل مع السعودية. لكن المراقبين للمملكة أكدوا أنَّه بخلاف إرضاء الرأي العام العالمي بأنَّهم قد حددوا كل المسؤولين عن مقتل خاشقجي، تواجه السعودية الآن عملية طويلة من إنجاز إصلاحات اجتماعية وسياسية قبل أن تتمكن من البدء في استعادة الثقة الدولية.
يقول حسين إيبش، وهو باحث أول مقيم في معهد دول الخليج العربي في واشنطن، لموقع The Daily Beast الأميركي: "هناك جهد ملحوظ من جهة السعوديين لتغيير عقول الناس. المشكلة هي أنَّ الحكومة السعودية ليست ماهرة في ذلك على وجه التحديد. سيستغرق الأمر وقتاً، وسيريد الناس أن يروا أفعالاً لا أقوالاً".
في هذه الأثناء، لا يزال من غير الواضح كم عدد سلال عيد الميلاد التي تمولها سفارة السعودية في لندن والتي سوف تشق طريقها إلى المكاتب الحكومية هذا العام، أو كيف سيجري استقبالها في الواقع.
القواعد الخاصة بالهدايا الوزارية تعني أنَّه لا يمكن للروبيان المعلب والجبن المدخن الذي أُرسل العام الماضي أن يأخذه مستلموه المعنيون إلى منازلهم. إلا أنَّ وزارة الخارجية البريطانية ضمنت أنَّ هذا السخاء لن يذهب هباءً من خلال السماح للسلال بأن "تُستخدم للضيافة" في فعاليات غير محددة.