قال تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC إن كل فقرة من فقرات بيان دونالد ترامب بخصوص وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية في قضية مقتل جمال خاشقجي ، مليئة بعلامات التعجب التي "تستحق التدقيق عن كثب".
وأوضح التقرير الذي نُشر الأربعاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أنه في ظل التقارير التي تشير إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية تستعد لعرض النتائج التي خلُصت إليها، والتي تفيد بأنَّ مسؤولين بارزين في الحكومة السعودية كانوا وراء موت خاشقجي.
يمكن أن يُنظر إلى تحرك ترامب أو وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية على أنَّه محاولة لاستباق هذه النتائج وإبداء إشارة واضحة إلى أنَّ التحالف الأميركي السعودي القوي سيستمر دون عوائق.
وجاء عنوان بيان البيت الأبيض كالتالي: "بيان من الرئيس ترامب بشأن الوقوف مع السعودية"، وهو ما لا يدع مجالاً للشك حول الجانب الذي يدعمه في قضية مقتل جمال خاشقجي .
أولويات سياسة الرئيس دونالد ترامب.. "أميركا أولاً"
"العالم مكان خطير"
قولوا ما شئتم، فالرئيس يعرف كيف يكتب افتتاحيةً جيدة. إذ يقدم في سطرين خلاصةً لأولويات سياسته الخارجية: فيُجري مقارنةً بين سيادة المصالح الأميركية والرؤية المتشائمة للعالم، حيث تحدث الأشياء السيئة في الغالب خارج نطاق سيطرة الولايات المتحدة.
"تقول إيران علناً وبكل قوة: "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل" تُعد إيران "الراعي الرئيسي للإرهاب في العالم"".
سرعان ما ينتقل ترامب في بيانه للحديث عن إيران والدور الذي يقول إنَّها تؤديه لزعزعة استقرار المنطقة. إنهم الأشخاص الذين يشجبون بالولايات المتحدة بأغلظ العبارات، والذين قتلوا "عديداً من الأميركيين والأبرياء"، والذين دعموا الرئيس السوري بشار الأسد في قتل شعبه.
يأتي كل هذا ضمن الجهود الأولية لدونالد ترامب والتأكيد على وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية كي يُجري مقارنةً مع السعودية، ويضع موت شخص واحد -وهو خاشقجي- أمام موت الآلاف.
"على الجانب الآخر، سينسحب السعوديون بكل سرورٍ من اليمن إذا وافق الإيرانيون على المغادرة. وسيقدمون على الفور المساعدة الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها".
تعرَّض السعوديون لنقدٍ شديدٍ لتورطهم في الحرب الأهلية في اليمن، بما في ذلك القصف الجوي الذي نتج عنه موت آلاف المدنيين. وبعد إدانة إيران، برَّأ ترامب السعوديين من مسؤولية الأزمة الإنسانية التي أعقبت هذه الحرب.
"بعد رحلتي إلى السعودية في العام الماضي، التي أجريتُ خلالها مفاوضاتٍ كثيرة، وافَقَت المملكة على إنفاق واستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة".
يشير أحد المبادئ الرئيسية التي ترتكز عليها السياسة الخارجية لترامب، وفقاً لنهج "أميركا أولاً"، إلى أن الولايات المتحدة دفعت ثمناً اقتصادياً باستغلال بقية العالم لها. وفي الفقرة التالية، يناقش الرئيس التفاصيل المتعلقة باعتقاده أن تقارب العلاقات مع السعوديين ليس قضية أمن وطني وحسب، بل يتعلق أيضاً بالازدهار الداخلي.
غير أنَّ الأرقام التي يعرضها لا تصمد أمام الوقائع
بالرغم من أنَّ ترامب ذكر الاستثمارات التي تبلغ قيمتها 450 مليار دولار في الماضي كمبرر على وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية ، لم يسبق أن قدم أي روايةٍ حول مصدر تلك الاستثمارات. وفي واقع الأمر، لم يَرِد أي ذكر لذلك الرقم خلال زيارته إلى السعودية في مايو/أيار 2017.
وافق السعوديون بالفعل على إنفاق 110 مليارات دولار في صفقات الأسلحة، لكنَّ ذلك يشمل صفقاتٍ أُعلن عنها سابقاً بلغت قيمتها 14.5 مليار دولار، وتعهدات بصفقاتٍ مستقبلية أخرى لم تتحقق بعد.
يمكن أن يتجه السعوديون إلى التعامل مع الصين أو روسيا بدلاً من الولايات المتحدة. لكن إذا كانت المشتريات وهمية، فإنَّ قيمتها للدولتين ستساوي نفس قيمتها بالنسبة للولايات المتحدة.
لكن ماذا عن وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية في مقتل جمال خاشقجي
"يقول ممثلو السعودية إن جمال خاشقجي كان "عدواً للدولة" وعضواً في جماعة الإخوان المسلمين، لكنَّ قراري لا يستند إلى ذلك على الإطلاق؛ فهذه جريمة بشعة وغير مقبولة".
بعد عقد مقارنة بين خبث إيران والنوايا الطيبة للسعودية، وتحديد ما يراه من الفوائد الاقتصادية والأمنية من العلاقات السعودية الأميركية، يتحول ترامب أخيراً إلى تفاصيل عملية اغتيال خاشقجي، التي يصفها بأنَّها جريمة "بشعة ورهيبة".
إذ يقول إنَّ 17 سعودياً اكتُشِفَت مسؤوليتهم عن الجريمة، وقد عوقبوا، لكنَّه يرسم الحد الفاصل بعد ذلك.
ففي فقرةٍ جديرة بالملاحظة، يذكر أنَّ السعوديين ارتأوا أنَّ خاشقجي "عدوٌ للدولة"، وارتأوا أنَّه عضوٌ في جماعة الإخوان المسلمين (وهو ادعاء خاطئ) . بالرغم من أنَّه يقول إنَّ ذلك لم يؤثر على قراره، فإنه لا يدحضه أيضاً؛ ومجرد ذكر الرئيس هذه الاتهامات الموجهة ضد مقيم دائم في الولايات المتحدة يضفي عليها بعض المصداقية.
"تواصل أجهزتنا الاستخباراتية تقييم جميع المعلومات، لكن من الممكن جداً أن يكون وليّ العهد لديه علم بهذا الحدث المأساوي، ربما يكون كذلك وربما لا يكون كذلك!".
نصل عند هذه النقطة إلى قلب الدعم الموجّه من بيان ترامب إلى السعودية. ربما يكون محمد بن سلمان أمر بالاغتيال، وربما لم يفعل ذلك. بالرغم مما قد يسمعه الأميركيون من وكالة الاستخبارات المركزية خلال الأيام القادمة، فلعلنا لن نعرف أبداً جميع الحقائق!
ولسنا في حاجة إلى أن نقول إنَّه من النادر جداً لرئيس أن يُضعف وكالته الاستخباراتية بهذه الطريقة الدرامية. فقد فعل ترامب بكل تأكيد هذا الأمر في عددٍ من المناسبات.
إذ يقول في النهاية إنَّ العلاقة مع السعودية يجب أن تبقى قوية. فمصالح الدولة تفوق في واقع الأمر عواقب جريمة ضد شخص واحد، وإن كانت بشعة.
"عقيدة ترامب" التي يجب على الجميع أن يتبعها
"سأضع في عين الاعتبار أي أفكار تُطرح أمامي، لكن فقط إذا كانت متسقة مع مطلق الأمن والأمان لأميركا".
يختم ترامب بما يمكن أن يُطلَق عليه "عقيدة ترامب"، التي تقضي بأنَّه في عالمٍ خطير كهذا، يجب على أي مخاوف من أزمةٍ إنسانية متصورة أن تحتل مقعداً خلفياً بالنسبة إلى الأمن العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة.
فيقول إنَّ الكونغرس قد يريد أن يذهب "في اتجاهٍ مختلف"، مثلما فعل بفرض مزيدٍ من العقوبات على روسيا على عكس رغبات الرئيس في 2017. غير أنَّ ترامب يحدد معايير شديدة الوضوح حول أنواع التدابير التي سوف "يضعها في عين الاعتبار".
من المؤكد أنَّ الفكرة المتعلقة بتحديد أولويات المصالح الوطنية البراغماتية التي تحتم وقوف الرئيس الأميركي مع السعودية ليست بالشيء الجديد في السياسة الخارجية الأميركية (وهو ما يُعرف بـ"السياسة الواقعية"، حسب المصطلح الذي صاغه لودفيغ فون روشو).
فمن دبلوماسية الصين التي انتهجها الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، إلى حرب الخليج في عصر الرئيس جورج بوش، تُشكل العلاقات الدولية في كثير من الأحيان ممارسةً لاتخاذ الاختيارات الصعبة والبغيضة في الغالب.
بالرغم من هذا، نادراً ما وردت الحسابات الباردة بهذه الصراحة في خطاب رئيس مثلما يفعل ترمب مرةً تلو الأخرى بسياسته الخارجية "أميركا أولاً".
قد يكون جزء من هذا ردة فعل لخطابات المثالية التي استخدمها اثنان من أسلافه، الرئيس السابق باراك أوباما والرئيس الأسبق جورج بوش الابن. ولعلها أيضاً انعكاسٌ لصراحة ووضوح شخص الرئيس.
وأيّما يكون التفسير، علينا أن نعلم أنَّ الرئيس الأميركي قد تخلَّى عن عباءة المثالية والفضيلة.