في حادثة صادمة لا مثيل لها غيّرت المجتمع السعودي بأكمله، وتمرّ ذكراها هذه الأيام، اقتحم نحو ٢٠٠ رجل الحرم المكي فجراً في الـ٢٠ من نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٩، أي قبل ٣٩ عاماً، ليسيطروا عليه بقوة السلاح، معلنين عن ظهور "المهدي المنتظر" وأنه محمد عبدالله القحطاني، أحد أفراد "الجماعة السلفية المحتسبة"، التي يتزعمها جهيمان العتيبي.
قرر جهيمان وجماعته الإعلان أمام المصلين في ذلك اليوم أن الشاب العشريني محمد عبدالله القحطاني هو المهدي المنتظر والمخلّص، فهو يشبه في اسمه اسم الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) كما جاء في الأحاديث حول المهدي، وهيئته كما وُصفت في بعضها الآخر. وهنا، طلب جهيمان من المتواجدين في المسجد مبايعة القحطاني باعتباره المهدي الواجب اتباعه، معلناً في الوقت نفسه قيام خلافة إسلامية جديدة لتصحيح أمور المسلمين التي فسدت على يد هؤلاء الحكام.
كان جهيمان وأنصاره قد نجحوا ذلك اليوم في إدخال عشرات الأسلحة الآلية دون أن يلفتوا انتباه رجال الأمن السعوديين، حيث وضعوها في نعوش وأتوا بها بحجة الصلاة على أرواح أصحابها، ثم لما حانت اللحظة خرجت الأسلحة من النعوش، وسيطر المسلحون على المسجد وبه نحو 100 ألف شخص كما تقول الروايات. وهنا، حاولت السلطات السعودية السيطرة على الأمر لكنها فوجئت بصلابة المقاومة من جانب العتيبي ورجاله، قتل فيها وأصيب نحو 600 عناصر الأمن السعودية.
الحالة المستعصية والصادمة، استدعت طلب السلطات السعودية من فرنسا العون لإنهاء الموقف الذي سبب حرجاً كبيراً للمملكة على المستوى الدولي، في الوقت الذي كانت الرياض تحاول التخفيف من هول الأمر داخلياً، وحتى عربياً. ليوافق الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان على المساعدة، مرسلاً وحدة التدخل السريع في الجهاز الوطني الفرنسي (GiGN) للتعامل مع الموقف.
نجحت القوات الفرنسية في إجبار جهيمان وأتباعه على الاستسلام، بعدما عملوا على استنفاد مؤنهم وذخيرتهم، ثم ضخوا كميات كبيرة من الغاز في الأماكن التي تحصنوا بها في قبو المسجد الحرام.
بعد ١٤ يوماً من المعارك الدامية، والأيام العصيبة على النظام السعودي، كانت المحصلة مقتل "المهدي" محمد عبدالله القحطاني و117 مسلحاً آخرين، خلال محاولات اقتحام المسجد، بينما أعدمت السلطات السعودية العتيبي وعدداً من أتباعه في يناير/كانون الثاني 1980، وسط الساحات العامة في المدن السعودية.
مؤسس الجماعة السلفية المحتسبة عسكري سابق
لم تكن تلك الحادثة هي المرة الأولى التي يُذكر فيها اسم هذه الجماعة السلفية المتشددة، فقد نشأت هذه الجماعة أول مرة عام 1966 ، على يد كل من جهيمان العتيبي (العضو السابق في الحرس الوطني السعودي) وسليمان بن شتيوي وناصر الحربي وسعد التميمي.
قرَّر هؤلاء الأربعة تأسيس جماعة سلفية تنبذ التمذهب وتدعو إلى التوحيد والتمسك بالكتاب والسنة، في وقت كانت المملكة العربية السعودية تشهد فيه موجة انفتاح على الحداثة أقلقت الكثيرين ومنهم هؤلاء الأشخاص، معتقدين أنها صرفت المسلمين عن ممارسة دينهم بالشكل الذي يرونه صحيحاً، برعاية من النظام السعودي آنذاك.
كان تأسيس الجماعة ثمرة حدث وقع في عام 1965 في المدينة المنورة حين قام بعض هؤلاء بالاعتداء على أستوديوهات التصوير والمحال التجارية لتكسير الصور وتماثيل العرض، التي اعتبروها من البدع الدخيلة على الدين الإسلامي والمجتمع السعودي.
يقول باحثون إن الجماعة المحتسبة كانت تحت دافع فكرة الخلاص الغيبية، حيث كانت الجماعة على الدوام تشحن في نفوس أتباعها والمريدين المتزايدين الحديث عن "ضلال المجتمع وهلاكه وزيغه وحاجته لمثل هذا الخلاص". لتجد في شخصية جهيمان "الثورية" من جهة، والمتعلقة بالغيبيات من جهة أخرى، الخلاص الكامل.
انتشرت جماعة جهيمان ودعوتها في كثير من المحافظات والمدن السعودية، وتميزت بطابعها الدعوي وعاش أعضاؤها حياة متواضعة متنقلين في أرجاء المملكة مع التركيز على المناطق النائية والضواحي المتواضعة، حيث كان مقرهم في الحارة الشرقية بالمدينة المنورة.
ولم يكن جهيمان يؤمن بتكفير الحاكم خشية اتهام مجموعته بالخوارج إذا ما فعلت لذلك رأى أن قدوم المهدي سيؤدي حتماً إلى سقوط الأسرة الحاكمة السعودية.
فكان نشر جهيمان أفكاره حول الحاكمية والدعوة وأشراط الساعة في منشورات عِرفت بـ"رسائل جهيمان"، وقيل إنه كتب نصّ محتواها العام فقط، بينما كتبها له آخرون بسبب ضعفه اللغوي.
تحولات كبيرة في السعودية بعد الحادثة
أخيراً، كان لهذه الحادثة الصادمة التأثير الكبير في المجتمع السعودي، فقد أحدثت تحولات كبيرة في تلك الفترة قادته نحو التشدد والانغلاق. ممثلة في الوقت نفسه مفصلاً مهماً في تاريخ نشاط المجموعات الإسلامية، فإلى جانب المكانة الروحية للمسجد المكي في الدين الإسلامي والعدد الكبير للقتلى وتفاصيل الحادثة وخلفياتها، ينظر إليها الباحثون في تاريخ الحركات الإسلامية باعتبارها بداية لعمل جماعات العمل المسلح الإسلامية لاحقاً، كالقاعدة وأخواتها.
فبعد عقود من التناسي والتجاهل، أصبح جهيمان رمزاً ملهماً لمقاتلي تنظيم القاعدة، وفي مايو 2003 عاشت السعودية سلسلة من التفجيرات قام بها جهاديون سعوديون، تضمنت أدبيات القاعدة خصوصاً مجلة (صوت الجهاد) وفي مواقع على الإنترنت مواضيع تمتدح جهيمان العتيبي وتدافع عنه.
في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧، تحدث الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي، عن ما سماه "طيّ صفحة ما بعد عام 1979″، قائلاً: "نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979، زمان تلك الحقبة قد ولىّ، فالشباب السعودي الذي يمثل نسبة 70٪ من عموم المجتمع لن يبقى أسيراً لما حدث خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وإنما يتطلع للحياة الأفضل والانفتاح على المستقبل وعلى العالم".
ومنذ ذلك الحين، ما تزال السعودية تحاول إبعاد أي شبهات عنها قد توصمها بالتطرف والتشدد، فقد قام وليّ العهد السعودي بحملة تغييرات كبيرة في المجتمع السعودي، مهمشاً في الوقت ذاته الهيئة الدينية التي ظلت على مدار عقود مسيطرة على مفاصل الدولة.
وأبرز ما قام به الأمير الشاب السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، وافتتاح دور سينما وانتشار الكثير من الحفلات الغنائية والعروض المسرحية وغيرها، وذلك في محاولة لتحسين صورة السعودية التي طغت على بلاده بعد حادثة الحرم الشهيرة.