فيما تتراكم الأدلة التي تشير إلى مسؤولية ولي العهد السعودي في عملية القتل الوحشي للصحافي المعارض جمال خاشقجي، لم يزد الرئيس دونالد ترامب إلا تصلُّباً في رفضه الإقرار بأي احتمالية لضلوع الأمير في الجريمة، حسب تقرير صحيفة The New York Times الأميركية.
أشاد ترامب، الذي أدان القادة السعوديين لارتكابهم "أسوأ عملية تستُّر في التاريخ"، بالسعودية في عطلة نهاية هذا الأسبوع باعتبارها "حليفاً رائعاً بحق"، حتى بعدما خلُصت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) إلى أنَّ ولي العهد محمد بن سلمان، القائد الفعلي للمملكة، أَمَر بالقتل.
قال ترامب إنَّه سينتظر تقريراً من إدارته بحلول الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني بشأن موت خاشقجي قبل أن يُقرِّر كيف سيُحدِّد المسؤولية. لكن بدا أنَّه يُقلِّل من أهمية التقرير حتى قبل أن يصدر، مُشيراً إلى أنَّ التقرير قد لا يُحدِّد بصورة قاطعة المسؤول النهائي ومُهدِّداً بصدامٍ مع وكالاته الاستخباراتية.
قال ترامب في مقابلة بثَّتها محطة Fox News الأميركية: "هل سيتمكن أي أحد من المعرفة فعلاً؟ حسناً، هل سيتمكن أي أحد من المعرفة حقاً".
لم يظهر كذلك اهتماماً يُذكَر بالأدلة الجوهرية في القضية: تسجيل صوتي لموت خاشقجي الشهر الماضي أكتوبر/تشرين الثاني داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، قدمته السلطات التركية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. فقال ترامب إنَّه لا داعي له كي يستمع إلى التسجيل لأنَّه "شريط معاناة، إنَّه شريطٌ مُروِّع".
استثمر بقوة في وريث العرش
مثَّلت تصريحات الرئيس مثالاً حياً على كيف أنَّه استثمر بقوة في وريث العرش صاحب الـ33 عاماً، والذي بات ركيزة استراتيجية الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط –من إيران وحتى عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية- إلى جانب كونه مشترياً كبيراً لأسلحة الجيش الأميركي، حتى لو كانت معظم تلك العقود لم تؤتِ ثمارها بعد.
ظهرت كذلك كيف قرَّر ترامب بعناد أن يتشبَّث بحليفه. فهو لا يرغب حتى في الاستماع إلى الدليل الذي قد يُزعزِع ثقته، حتى لو أدَّى ذلك لإحداث خلافات مع مسؤولي الاستخبارات. كانت التوترات الداخلية ظاهرة للعيان بالفعل عطلة نهاية هذا الأسبوع، حين أصدرت وزارة الخارجية الأميركية، بعد ربط تقرير وكالة الاستخبارات المركزية بين محمد بن سلمان وجريمة القتل، بياناً تقول فيه إنَّ تلك "التقارير التي تشير إلى أنَّ الحكومة الأميركية وصلت إلى استنتاجٍ نهائي ليست دقيقة".
بالنسبة لترامب، يكفي أن ينفي الأمير محمد أي تورُّط له في مكالمة هاتفية معه.
يُذكِّرنا دفاع الرئيس عن الأمير محمد كيف أنَّ ترامب كان ينحرف عن الأسئلة بشأن التدخُّل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016 بقوله إنَّ الرئيس فلاديمير بوتين ينفي الأمر دوماً كلما سأله عنه.
وكما هو الحال مع روسيا، باتت تلك التقارير غير مقنعة بصورة متزايدة.
قال بروس ريدل، الخبير في الشؤون السعودية والزميل البارز بمعهد بروكنغز: "إنَّه (ترامب) يُظهِر أنَّهم يائسون. وهم (إدارة ترامب) يُمعِنون النظر الآن في حقيقة أنَّهم لن يكونوا قادرين على نفي استحقاق محمد بن سلمان للوم".
يؤدي موقف ترامب إلى خلق سياسة خارجية أميركية تزداد عزلة في موقفها هذا. فالاتحاد الأوروبي طالب بـ"الوضوح التام" من جانب السعوديين في قضية مقتل خاشقجي، الذي كان يعيش في ولاية فرجينيا وكان كاتب عمود بصحيفة The Washington Post الأميركية. وحتى الدول الأخرى مثل إسرائيل، التي لها روابط استراتيجية مع السعودية، لا تدافع جهاراً عن الأمير محمد.
لكنَّ أعضاء جمهوريين وديمقراطيين في الكونغرس يتهمون الأمير محمد صراحةً بالمسؤولية، ويقولون إنَّهم سيضغطون باتجاه اتخاذ إجراء أقوى بكثير ضد السعودية. فغرَّد السيناتور بوب كوركر، الجمهوري المُمثِّل لولاية تينيسي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، يوم السبت الماضي 17 نوفمبر/تشرين الثاني قائلاً: "كل شيء يشير إلى أنَّ ولي العهد محمد بن سلمان أمر بقتل الصحافي لدى The Washington Post جمال خاشقجي".
وتحرص الإمارات، جارة السعودية، لتهدئة مشروع السياسة الخارجية الأبرز للأمير محمد، أي الحرب في اليمن، حيث تقاتل القوات المدعومة سعودياً وإماراتياً المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. وقال الحوثيون أمس الأحد 18 نوفمبر/تشرين الثاني إنَّهم مستعدون لفرض وقف إطلاق نار إن فعل السعوديون الأمر نفسه.
التقى مستشار ترامب للأمن القومي جون بولتون مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد الأسبوع الماضي في أبوظبي، وبحث الرجلان سبل التعجيل بوضع نهاية للحرب، التي أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين وباتت هدفاً رئيسياً للمُشرِّعين الأميركيين.
خلال الزيارة، صرَّح بولتون للصحافيين بأنَّ التسجيل الصوتي التركي "لا يربط بأي طريقة ولي العهد بعملية القتل". ولم يقل ترامب ما إن كان التسجيل الصوتي ألقى الضوء على دور الأمير محمد أم لا، لكنَّه زعم أنَّه لن يخرج بشيءٍ من الاستماع إلى التسجيل.
قال ترامب للمذيع كريس والاس بمحطة Fox News: "أُطلِعتُ بصورة كاملة عليه (التسجيل). في الواقع، قلتُ لمسؤولي الإدارة: 'أيجب أن أستمع إليه؟' فقالوا: 'حقاً لا يجب أن تفعل ذلك. لا داعي للأمر.".
علَّق البيت الأبيض عمليات إعادة تزويد الطائرات الأميركية للطائرات السعودية في حرب اليمن بالوقود. وأشار ترامب كذلك إلى أنَّ وزارة الخزانة الأميركية فرضت عقوبات حقوق إنسان "هائلة" على 17 سعودياً متورطين في الجريمة، بعضهم من المساعدين المقربين لولي العهد.
ضمَّت قائمة المُعاقبين سعود القحطاني، وهو مستشار كبير للأمير محمد، لكنَّها لم تضم أحمد العسيري، نائب رئيس الاستخبارات العامة السعودية السابق، الذي قال المسؤولون السعوديون إنَّه كان العقل المُدبِّر لمخطط مواجهة خاشقجي في القنصلية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
قال ترامب: "في الوقت نفسه، لدينا حليف، وأنا أريد التمسك بحليفٍ كان جيداً جداً على أكثر من صعيد".
يؤكد ترامب على الوظائف التي يوفرها تعهُّد لسعودية بشراء ما قيمته 110 مليارات دولار من الأسلحة الأميركية. لكنَّ محللي الشؤون الدفاعية لم يُحصوا صفقات محجوزة وقائمة بالفعل إلا بقيمة 14.5 مليار دولار فقط، والرقم الحقيقي قد يكون أقل من ذلك. ووفقاً لريدل، لم يُنهِ السعوديون صفقة أسلحة جديدة كبيرة واحدة منذ وصل ترامب إلى الحكم.
وتُعَد السعودية ركيزة للاستراتيجية الأميركية الرامية لعزل إيران. ووافقت المملكة على زيادة إنتاجها من النفط لتعويض السوق عن الإمدادات الإيرانية التي سيفقدها بعدما أعاد ترامب فرض عقوبات على قطاع الطاقة والنظام المصرفي الإيرانيين هذا الشهر.
لكنَّ الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة خفَّفت الضغط على السوق بمنحها إعفاءات لعديدٍ من كبار المستوردين للنفط الإيراني، وتفكر السعودية الآن في تخفيض الإنتاج.
محمد بن سلمان ضبط رد الفعل السعودي بعد نقل السفارة الأميركية
طوَّر صهر ترامب ومستشاره البارز جاريد كوشنر علاقةً مع الأمير محمد، وينظر إليه باعتباره حاسِماً في جهده من أجل التوسُّط في اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وبالفعل قدَّم الأمير المساعدة بضبطه رد الفعل السعودي على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس العام الماضي.
لكن منذ ذلك الحين، أوضح والد الأمير، الملك سلمان، جلياً أنَّ السعوديين لن يرغموا الفلسطينيين على قبول اتفاقٍ مع إسرائيل، ويبدو أنَّ جهود كوشنر لتحقيق السلام تلقى عقبات.
بالنظر إلى المشاعر التي ولَّدتها حرب اليمن في الكونغرس، فعلى الأرجح سيستخدم البيت الأبيض قضية خاشقجي كورقة ضغط لإجبار الأمير محمد على تهدئة الصراع بأسرع ما يمكن. لكنَّ خبراء سعوديين حذَّروا من أنَّ هذا سيكون صعباً، لأنَّ أي انسحاب سعودي مفاجئ من شأنه تشويه صورة الأمير أكثر داخل المملكة.
قال ريدل: "من الواضح للغاية أنَّ ما تريده الإدارة هو شراء الكونغرس باليمن. لكن هذا لا يحل المشكلة الكامنة، المتمثلة في أنَّ محمد بن سلمان قوة مُزعزِعة للاستقرار في المنطقة".