"مسافة السكّة"، عبارة شهيرة قالها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في إشارة منه إلى أن الجيش المصري سيسارع لنجدة دول الخليج إذا تعرضت لخطر عسكري، ولكن عندما جاءت حرب اليمن لم تشارك مصر فيها، والآن تبدو هذه العبارة محل اختبار جديد، بسبب ما يعرف بحلف الناتو العربي.
في سبتمبر/أيلول 2018، أجرى تيم ليندركينغ، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، حديثاً مع مجلة The National الإماراتية، قال فيه إن بلاده ستستضيف في يناير/كانون الثاني 2019 قمة عربية – أميركية لإطلاق "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" أو "الناتو العربي".
وأعلن أن التحالف سيضم كلاً من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان، بالإضافة إلى مصر والأردن.
وهو التحالف الذي يعتبره ترامب "مشروعه الشخصي".
ولكن كيف سيكون شكل هذا الناتو العربي المفترض؟
عندما طرحت فكرة الناتو العربي ، قام نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، تيم ليندركينغ، بجولات دبلوماسية مكوكية في الخليج.
كان هدف هذه الجولة وضع الأسس لقمة تستضيفها الولايات المتحدة في شهر يناير/كانون الثاني المقبل لإطلاق تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي كمفهوم يحاكي حلف الناتو ولكن بصبغة عربية، وأطلق عليه "ميسا".
وأوضح ليندركينغ أن هذا التحالف "يعود لقمة الرياض في عام 2017 حين اتفق الجميع على أن الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي ستجتمع على أساس سنوي".
وقال: "يتطلع كلا الجانبين لبناء هذا التحالف (ميسا)، الذي سيقوم على أساس اتفاقية أمنية واقتصادية وسياسية تربط دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة ومصر والأردن".
وهذا هو العدو الأساسي للحلف المقترح
وعلى الرغم من الاختلافات في الأولويات السياسية بين دول "مجلس التعاون"، قال ليندركينغ إنّ فكرة التحالف تكمن في كونه يبني درعاً قوية وصلبة في وجه التهديدات ضد الخليج.
وأشار في هذا الصدد إلى إيران وأيضاً إلى المخاوف المتعلقة بالشبكة العنبكوتية والهجمات على البِنى التحتية وتنسيق عملية إدارة الصراعات من سوريا وصولاً إلى اليمن.
ولكن اللافت أن المسؤول الأميركي أكد أنّ إيران تتصدَّر قائمة التهديدات التي سيتعامل معها الناتو العربي.
ويريد البيت الأبيض أن يركز الناتو العربي على التعاون بين البلدان التي يفترض أن تشارك به، في مجالات الدفاع الصاروخي، والتدريب العسكري، ومكافحة الإرهاب، وقضايا أخرى، مثل دعم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الإقليمية.
الجميع يبدو مؤيداً لفكرة الناتو العربي.. ولكن الواقع مختلف
لكن مشروع الناتو العربي الطموح هذا يبدو أنه لن يخرج إلى النور.
فعلى السطح يبدو أن الكل يتعاون لإنجاحه، ولكن الواقع أن بعض العواصم العربية لها تصورات تكاد تكون متناقضة، مما يضع صعوبات كبيرة أمام إتمامه.
ومصر أكبر دولة عربية وصاحبة أقوى جيش عربي تحديداً لديها تحفظات على الناتو العربي.
ولكن لماذا ترفض القاهرة هذا المشروع، رغم أنها سبقت أن طرحت خلال القمة العربية التي استضافتها فكرة تأسيس قوة عربية مشتركة؟ وكيف تتعامل على الأرض مع فكرة الناتو العربي؟
كيف تتعامل القاهرة معه حالياً؟.. تأييد بلاغي ولكن هذا ما تفعله على الأرض
في أحد الفنادق المطلة على نيل القاهرة، التقت "عربي بوست" بأحد قيادات جهاز المخابرات الحربية المصرية السابقين، والذي تحدث إلينا عن مشروع "الناتو العربي" ومعلوماته المتوافرة حوله.
وقال المسؤول السابق: "يقيناً فإن هذا المشروع لن يفلح، فالقاهرة لن ترحب به ولن تعمل على إنجاحه، حتى وإن أظهرت القيادة السياسية المصرية تعاوناً شكلياً معه".
ويشرح كيف ستتعامل القاهرة مع الإلحاح الأميركي السعودي لتنفيذ المشروع على الأرض، قائلاً: "لن تفعل مصر أي شيء لتنفيذ الناتو العربي، بالعكس ستعرقل المشروع، هذا ما يحدث بالفعل"، حسبما يقول المسؤول الاستخباراتي السابق.
المفارقة أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سبق أن أعلن في كلمته في ختام القمة العربية بشرم الشيخ عام 2015، أنه "سيتم تشكيل فريق رفيع المستوى تحت إشراف رؤساء أركان القوات المسلحة للدول الأعضاء لدراسة كافة الجوانب المتعلقة بإنشاء قوة عربية مشتركة وآلية تشكيلها".
وصدر قرار بالفعل من القمة، ولكن ماتت الفكرة آنذاك بسبب عدم حماس دول الخليج، لاسيما السعودية، لتنفيذها، حسبما قال مصدر دبلوماسي عربي لـ "عربي بوست"، وحُفظ الاقتراح في الأدراج كالعديد من قرارات القمم العربية.
ولكن لماذا ترفض القاهرة الناتو العربي؟
الجنرال المصري أوضح أن هناك تعارضاً وتضارباً جذرياً بين التصورات المصرية للأوضاع الاقليمية والتصورات السعودية.
هذا التعارض لا يخفى على أحد وظهر جلياً في مواقف كلا البلدين حيال الوضع في سوريا واليمن.
"وعليه، فهذا التحالف المزمع إقامته سيلتزم بأي الرؤى، رؤية القاهرة أم الرياض؟"، حسبما يقول المسؤول الاستخباراتي السابق.
وهذه حقيقة الموقف المصري من طهران
وأحد الإشكاليات التي تجعل مصر تتحفظ على الناتو العربي هو أن هذا الحلف المقترح سيكون تركيزه الأساسي على إيران.
ورغم أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تقِم علاقات مع إيران منذ تم قطعها بعد الثورة الإسلامية عام 1979، فإنها تتبنى نهجاً حذراً تجاه طهران.
فهي تُرضي دول الخليج بعدم إقامة علاقات دبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية، ولكنها في الوقت ذاته لا تتبنى الخطاب التصعيدي السعودي – الإماراتي تجاه إيران.
ينبع هذا من أن مصر لا تعتبر أن الصراع مع إيران هو معركتها الرئيسية رغم التنافر الأيديولوجي بين مصر التي تحكمها نخبة عسكرية معادية للإسلاميين، وبين طهران التي يحكمها الملالي.
كما أن تقارب البلدين بشأن الأزمة السورية، يعطي سبباً إضافياً للقاهرة لكي لا تعتبر مواجهة إيران أولوية.
ولذا تكتفي مصر بالبيانات الفضفاضة والتصريحات الغامضة للرئيس السيسي التي تتحدث عن أن أمن الخليج خط أحمر لمصر، على غرار التصريح الأخير للسيسي الذي كرر فيه مقولته الشهيرة، ولكن بصيغة مختلفة قائلاً: إذا تعرض أمن الخليج للخطر المباشر سنتحرك.
ولكن كعادته لم يقُل السيسي صراحة إن هذا الخطر المفترض هو إيران.
فالواقع أن الدبلوماسية المصرية تميل إلى عدم مواجهة إيران وعدم التقارب العلني معها في الوقت ذاته.
وبالتالي، فإن القاهرة يمكن أن ترى في الناتو العربي محاولة لتوريطها في معركة تتجنبها أصلاً مع إيران.
كما أن مصر لا تقبل "بيع" جيشها.. ولهذه الأسباب تجربة حرب الكويت لن تتكرر
من جانب آخر، فإن "التراتبية داخل التحالف لن يقبلها الجيش المصري، الذي يعلم جيداً أن تمويل التحالف سيكون سعودياً، بينما العمل القتالي سيكون من نصيب مصر"، حسب الجنرال السابق.
بتعبير آخر يقول: "الناتو العربي يعني أننا نبيع جيشنا للمملكة، وهذا شيء لن يسمح به الجيش المصري مطلقاً، وحرب تحرير الكويت تجربه لن تتكرر مرة أخرى".
"نعم في حرب الكويت وقفنا فيها مع الحق، وساعدنا الأشقاء الكويتيين على تحرير أرضهم من غزو صدام"، حسبما يقول الجنرال المصري.
ولكن "رغم أن هذا حدث آنذاك تحت مظلة دولية شرعية، فإن تلك الحرب وما تلاها من إسقاط الديون المصرية، خلفت جرحاً مكتوماً في نفوس العسكريين المصريين"، وفقاً للمسؤول المصري السابق.
وقال: "بدا جنودنا كمرتزقة، قاتلنا وقبضنا الثمن، وهو جرح لن نسمح بتكراره مرة أخرى"، حسب تعبيره.
ومن دون الجيش المصري.. الناتو العربي لن يرى النور، والتاريخ يؤكد ذلك
وبلهجة حاسمة، قال الجنرال: "هذا الناتو لن يرى النور، ومن دون الجيش المصري لن يصبح له معنى".
وأردف قائلاً: "وأنا أعلم يقيناً أن الجيش المصري لن يخوض حروب المملكة السعودية بالوكالة، لن يحدث هذا صدّقني".
وقبل أن يختتم حديثه مع "عربي بوست" قال إن "ترامب لم يخترع العَجَلة، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن قوة عربية مشتركة".
فمنذ عام 1950 حين وقّع الزعماء العرب معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، وحتى يومنا هذا والفكره تُطرح كل فترة، بأسماء مختلفة: معاهدة الدفاع المشترك – قيادة الشرق الأوسط – حلف بغداد – درع الجزيرة، وختاماً الناتو العربي.
"تعددت الأسماء والمصير واحد"، على حد تعبيره.
ومن بين العقبات الكبيرة المحتملة أمام الناتو العربي تلك المقاطعة المستمرة من جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر لقطر التي تستضيف أكبر قاعدة جوية أميركية في المنطقة.
إذ تتهم تلك الدول قطر بدعم الإرهاب، وهو ما تنفيه الدوحة. كما أن الرؤية الأميركية للحلف تشمل سلطنة عمان.
وقد ذكرت مصادر عسكرية في مجلس التعاون الخليجي " أنه "من المستبعد أن تقبل عمان التخلي عن دورها الحيادي تجاه طهران، خاصة أنها رفضت بالفعل المشاركة في حلف عربي لدعم الشرعية في اليمن".
وها هي القمة العربية – الأميركية التي ستدشن الحلف تواجه خطر التأجيل.. والسبب بن سلمان
ويبدو أن الناتو العربي يواجه مشكلة أخرى إضافة إلى الاعتراض المصري.
فقد علمت "عربي بوست" من مصادر مطلعة في واشنطن، أن اجتماع القمة العربي – الأميركي الذي كان مقرراً عقده في واشنطن، يناير/كانون الثاني 2019، وأعلن عنه نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي من قبل، أصبح من المحتمل بقوة أن يتم تأجيله لأجل غير مسمى.
يأتي هذا على خلفية حادث مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، وما تلاه من اتهامات طالت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأنه متخذ هذا القرار.
وقالت مصادر "عربي بوست" في العاصمة الأميركية، إن الأمير محمد بن سلمان أصبح وجهاً غير مقبول إعلامياً أو شعبياً في الولايات المتحدة.
وأصبح هناك ضغوط ليست بالهينة على الرئيس ترامب بشأن هذا الأمير الشاب، تجعل استقباله له الآن في البيت الأبيض، وتوقيع أي اتفاقية معه محرجاً للإدارة الأميركية.
ويزداد الأمر تعقيداً خصوصاً بعد نتائج انتخابات الكونغرس الأخيرة، التي عززت من قوة الديمقراطيين أمام الرئيس الجمهوري في مجلس النواب.
ورغم أنه يبدو أن هناك محاولات لتبريد قضية خاشقجي، وتبرئة ولي العهد السعودي منها، ولكن يظل استقباله في واشنطن حالياً أمراً مثيراً للإحراج.