قال الكاتب الأميركي، توماس فريدمان ، إن ولي العهد محمد بن سلمان أراد هو ومَن حوله من رجالٍ أقوياء استعراض نفوذهم مثل إيران، عبر الترهيب مثل الحرس الثوري الإيراني، وإرسال فرقٍ لتصفية المعارضين مثل الموساد الإسرائيلي.
لكن كل هذا كان يفوق قدرات القوات الجوية والدبلوماسيين وأجهزة الاستخبارات السعودية، وانتهى الأمر بعملية القتل الغبية والخبيثة والمجنونة لجمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية نفسها في إسطنبول، مع إنكار الرياض بشكلٍ لا يمكن تصديقه.
لنعد قليلا إلى فترة حكم باراك أوباما
وحسب توماس فريدمان ، الكاتب في صحيفة The New York Times، إنه إذا نظرتَ إلى سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، ماذا سترى؟ سترى إدارة الرئيس الأميركي السابق أوباما ينظر إلى إيران والسعودية ويقول: ينحرف السعوديون عن الطريق، ولن يقدموا إسهاماً لإتمام عملية السلام بين إسرائيل والعرب، أو ينفذوا إصلاحاتٍ داخل بلادهم.
ويضيف، "لذا دعونا نراهن على إيران، دعونا نراهن على أنَّ هذه هي الوسيلة المثلى لدفع المنطقة نحو مسارٍ أفضل عبر الحثِّ على نزع الأسلحة النووية وإجراء إصلاحٍ في إيران، التي تُعد حضارةً حقيقيةً، بها نساء مُمكَّنات، وطبقةٌ متوسطة داعمة للغرب".
لذا، أبرم فريق أوباما الاتفاق النووي الإيراني، الذي يقضي بوقف تطوير الأسلحة النووية في إيران لمدة لا تقل عن 15 عاماً، مقابل رفع العقوبات الأميركية عن طهران، على أمل الحصول على مكاسب إضافية تتمثل في فتح إيران على العالم، وتعزيز قوة الإيرانيين المعتدلين هناك، في مواجهة الحرس الثوري الإيراني المتشدد.
يتساءل توماس فريدمان ، هلنجح ذلك إذن؟
نزعت إيران أسلحتها النووية، لكنَّ الحرس الثوري استغل تخفيف الضغط عنه، والأموال الجديدة، والاستثمارات الآتية من الغرب لزيادة نفوذه في العالم العربي السُّني، وإحكام قبضة وكلاء إيران على أربع عواصم عربية، وهي: بغداد، ودمشق، وصنعاء، وبيروت.
الأسوأ من هذا، انضمت إيران وحزب الله؛ جيش المرتزقة اللبناني الشيعي، إلى النظام السوري الداعم للشيعة، في جهوده الرامية إلى قمع أي فرصةٍ لمشاركة السُّلطة مع المعارضة السورية، وساعدا النظام السوري في إجراء حملة تطهير عرقية ضد السُّنَّة في المناطق الهامة بسوريا.
أومأت إيران ومرتزقتها إلى النظام السوري بموافقتهم على استخدامه للغاز السام والبراميل المتفجرة لتنفيذ عمليات إبادة جماعية، أدت إلى ارتفاع عدد القتلى في الحرب الأهلية السورية إلى حوالي 500 ألف شخص، ونزوح حوالي 11 مليون مواطن.
أُوقِفَ التمدد الإمبريالي الإيراني فقط عبر القوات الجوية الإسرائيلية، التي سدَّدت ضربةً قوية إلى وحدات الجيش الإيراني في سوريا، عندما أطلقت إيران صواريخ هناك لمهاجمة إسرائيل.
بالنسبة توماس فريدمان ، فأنَّ الاتفاق النووي الإيراني كان صفقةً تستحق الرهان عليها. ولم أندم على اعتقادي هذا، إذ إنَّ الاتفاق كبح برنامج إيران النووي بالفعل، وهو أمرٌ مهم، لكنَّه لم يفعل شيئاً حيال ترويض سلوك إيران الإقليمي، الذي لم يكن مطلقاً جزءاً من الاتفاق.
بالطبع، ربما كان هذا ثمن الاتفاق، إذ بدا أنَّ المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي أراد تعويض عقد صفقةٍ مع "الشيطان الأميركي"، عبر إطلاق يد الحرس الثوري لبسط نفوذه في المنطقة.
ثم جاء الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب إلى السُّلطة
مزَّق ترمب الاتفاق النووي، وأعاد فرض عقوباتٍ على طهران، وتعهَّد بتحقيق المصالح الأميركية في المنطقة عبر بيع أسلحةٍ بقيمة 100 مليار دولار إلى السعودية، والمراهنة على ولي العهد محمد بن سلمان ، الذي أزال الشرطة الدينية من شوارع السعودية، وهو أمر جلل، وجلب السينما والحفلات ذات الطراز الغربي إلى صحراء المملكة، بينما قمع كل المعارضين.
كان رهان باراك أوباما على إيران منطقياً، لكنَّ الأمر كان يحتاج أيضاً إلى تدخل الولايات المتحدة وحلفائها لتقييد نفوذ إيران الإقليمي الخبيث من الخارج.
وكان رهان ترمب على ولي العهد محمد بن سلمان منطقياً أيضاً، إذ لدينا اهتمامٌ كبير بوقف تصدير الإسلام السلفي السعودي المتزمت إلى العالم، وهو نسخةٌ متطرفة من الإسلام، ألهمت مختطفي الطائرات المستخدمة في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وحركة طالبان، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لكن للحصول على أفضل المكاسب من ولي العهد محمد بن سلمان وتلافي مساوئ تهوره، كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى تقييده من الداخل. كنَّا نحتاج إلى سفيرٍ أميركي قوي أو مبعوثٍ خاص في الرياض -أو رئيس- لرسم الخطوط الحمراء لمحمد بن سلمان، لكنَّ ترمب لم يفعل أياً من هذا، تاركاً شأن تصويب سلوك ولي العهد السعودي إلى حدٍّ كبير إلى صهره جاريد كوشنر.
ومثل الإيرانيين، استخدم محمد بن سلمان أيضاً التفويض المطلق الذي حصل عليه من الولايات المتحدة لبسط نفوذه في المنطقة، لدرجةٍ تفوق قدراته، إذ تدخل في حرب اليمن، وحاصر قطر، واختَطَفَ رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وقمع الناشطات المدافعات عن حق النساء في قيادة السيارات، وسمح -ما لم يكن أمَرَ- فريقه بقتل الصحافي السعودي المعتدل والمدافع عن الديمقراطية جمال خاشقجي.
هل ترى نمطاً متكرراً هنا؟
في كلتا الحالتين، كانت الولايات المتحدة تأمل أنَّ رهانها على أنَّ إيران والسعودية، بأنهما ستعتمدان نهجاً أقل عدائية، يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل للمنطقة ولمصالح الولايات المتحدة.
بدلاً من هذا استخدمت الدولتان الموارد التي أعطيناها لهما، ومساحة المناورة الإضافية للقفز بسيارتهما من فوق الجرف.
لصياغة الأمر بطريقةٍ سينمائية، جسَّدت السعودية وإيران فيلم Thelma & Louise بالكامل.
بالنسبة إلى صغيري السن، الذين يصعب عليهم تذكر مثل هذا الفيلم، تدور أحداثه حول صديقتين، تؤدي دوريهما سوزان ساراندون وجينا ديفيز، تحولت رحلتهما إلى مأساةٍ بعد أن أطلقت شخصية سوزان في الفيلم النار على مُغتصِب، لتتسبب في واحدةٍ من أهم الجمل في تاريخ السينما: "أطلقتِ النار على رأس رجل وسرواله مُدلَّى، صدقيني، تكساس ليس المكان الذي تريدين أن يُلقى القبض عليكِ فيه".
في نهاية المطاف، دفع هذا السيدتين إلى الهروب من الشرطة عبر القفز بسيارتهما من طراز ثندربيرد 1966 من فوق جرفٍ، صوب وادي غراند كانيون، لتلقيا حتفهما.
لكن، ولأنَّنا في الشرق الأوسط، فعل الاثنان ما فعلاه بسيارتين منفصلتين
على سبيل المثال، خطف ولي العهد محمد بن سلمان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، لكنَّ حزب الله، الموالي لإيران، قتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والد سعد الحريري، حتى يضمن عدم عودته إلى السُّلطة.
في الوقت ذاته، اتهمت الدنمارك إيران مؤخراً بإرسال عملاء من الاستخبارات لاغتيال قائد معارض عربي إيراني، يعيش في المنفى في الدنمارك، وطردت فرنسا دبلوماسياً إيرانياً مؤخراً، بعد مؤامرةٍ فاشلة لتنفيذ هجومٍ بالقنابل على مسيرة للمعارضة الإيرانية في باريس.
ويشير توماس فريدمان إلى أن هذا لا لصرف الانتباه عن عملية قتل وتقطيع أوصال خاشقجي، العصية عن الوصف، بل يجب معاقبة السعودية وكل من تورط في هذا الأمر. (لم تكن عملية نفذها عملاء مارقون، لم يحدث ذلك من قبل في تاريخ السعودية).
ببساطة كي أوضح أنَّ هذه المنطقة برمتها تقع في قبضة دائرة تدميرٍ ذاتية، مُشكّلةً من الجنون الطائفي والسياسي والقبلي: الفرس ضد العرب، والشيعة ضد السُّنّة، والحكومة المصرية ضد النشطاء المدافعين عن الديمقراطية، والسعوديون ضد القطريين، والعلويون ضد السُّنّة، والإسلاميون ضد المسيحيين، والإسرائيليون ضد الفلسطينيين، والأتراك ضد الأكراد، والقبائل الليبية ضد القبائل الليبية، كثيرٌ من الكراهية في العديد من الاتجاهات.
خيارات أميركا في الشرق الأوسط بين "حلفاء سيئين وأعداء سيئين"
يقول كريم سجادبور، الخبير في شؤون الشرق الأوسط لدى مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي: "يتحدث الناس وكأنَّ خيارات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتأرجح ما بين حلفاء جيدين مثل السعودية، وأعداء سيئين مثل إيران، لكنَّ خياراتنا الحقيقية تنحصر بين حلفاء سيئين وأعداء سيئين".
يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان ، كنتُ أجادل منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، دون طائل، أنَّه على ولي العهد محمد بن سلمان أن ينافس إيران عبر التفوق عليها في تنفيذ الإصلاحات الداخلية.
سمح محمد بن سلمان للنساء السعوديات بحضور الفعاليات الرياضية مثل مباريات كرة القدم مع الرجال، وهو أمرٌ لم يفعله المرشد الأعلى الإيراني للنساء هناك حتى الآن، وهو ما دفع النساء الإيرانيات للتذمر علناً، بأنَّ النساء السعوديات باتت لديهن حقوقٌ لا يتمتعن هن بها.
ولعل آخر شيء كان على السعوديون فعله هو محاولة منافسة إيران في بسط نفوذها في المنطقة، عبر شبكة وكلاء من الباطن.
يتمتع الإيرانيون بخبرةٍ تمتد إلى 40 عاماً في إجبار الدول المجاورة على تنفيذ رغباتها وقتل الأعداء عبر وكلائها مثل حزب الله، إذ لديهم دائماً خبرة في تنفيذ هذه المهام فضلاً عن قدرتهم على إنكار التهم بحجج قابلة للتصديق ظاهرياً.
في المقابل، لدى السعوديون خبرة تمتد إلى 40 عاماً في التعاون مع الدول المجاورة والمعارضين عبر دفع المال لهم. وكان هذا لب كفاءتهم.
لكن ما الذي حدث تحت حكم ولي العهد محمد بن سلمان
ما حدث تحت حكم ولي العهد محمد بن سلمان هو أنَّه أراد لعب دور الفتية الكبار في الحي. أراد ولي العهد ومَن حوله من رجالٍ أقوياء شباب مشبعين بهرمون التستوستيرون استعراض نفوذهم مثل إيران، عبر ترهيب الوزراء اللبنانيين مثل الحرس الثوري الإيراني، وإرسال فرقٍ لتصفية المعارضين مثل الموساد الإسرائيلي.
لكن كل هذا كان يفوق قدرات القوات الجوية والدبلوماسيين وأجهزة الاستخبارات السعودية، وانتهى الأمر بعملية القتل الغبية والخبيثة والمجنونة لجمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية نفسها في إسطنبول، مع إنكار الرياض بشكلٍ لا يمكن تصديقه، يقول الصحافي الأميركي توماس فريدمان .
تكمن وظيفة الرئيس الأميركي في فهم أنَّ كل اللاعبين الرئيسيين في المنطقة لديهم أجندات متعددة. تتفق بعض هذه الأجندات مع مصالحنا -هل نسينا أنَّ إيران ساعدتنا في هزيمة حركة طالبان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول؟- لكنَّ العديد منها يتناقض مع مصالحنا.
نريد استخلاص أفضل المكاسب الممكنة منهم، والحد من أكثر أفعالهم تهوراً، وموازنتها بسياساتٍ أخرى، واستخلاص نفط المنطقة، والخروج منها بأقصى سرعتنا لتقليص فرص تعرُّضنا لهذا الجنون.