قالت صحيفة The New York Times الأميركية، إنه منذ صعود الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة، انتهج السعوديون سياسةً خارجيةً أكثر عدوانية وأكثر عسكرية، لكنهم اعتمدوا أيضاً على تكتيكٍ أُصقِل على مدى السنوات، دبلوماسية دفتر الشيكات ؛ وهو استغلال ثروتهم النفطية لشراء الولاء في العالم العربي وخارجه.
وأضافت الصحيفة الأميركية في تقرير نشرته الإثنين 29 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أنه في خضم الضجة الدولية حول اغتيال خاشقجي، مارس القادة السعوديون ضغوطهم على الحكومات المسلمة الصديقة والتابعة من أجل إعلان دعم المملكة.
عبَّرَت البحرين والإمارات، وهما حليفان للسعودية في الخليج منذ فترة طويلة، عن دعمهما للمملكة، وهو ما حدث أيضاً مع عديدٍ من الحكومات العربية الأخرى التي تعتمد على المساعدات السعودية: وهي مصر، والأردن، والسلطة الفلسطينية، والحكومة اليمنية المخلوعة.
بمجرد أن تهدأ الأمور "ستعاقب السعودية أعداءها"!
عندما اعترفت المملكة أخيراً أن عملاءها قتلوا خاشقجي، عبَّر وزير الخارجية السعودي عن تقديره "للموقف الحكيم للبلاد التي فضَّلت انتظار مجريات التحقيقات والأدلة، وتجنبت المزاعم والتكهنات التي لا تستند إلى أي أساس". أوضح الملك سلمان والأمير محمد قائلين: بمجرد أن تهدأ الأمور، سوف تتذكر السعودية أصدقاءها وتعاقب أعداءها.
وفضلاً عن تنفيذدبلوماسية دفتر الشيكات تسيطر السعودية على إمبراطوريةٍ إعلاميةٍ تعيد التأكيد على سياستها الخارجية وتهاجم منتقديها.
يمول القادة السعوديون الخصوم ضد الساسة في العالم الإسلامي، الذين يفشلون في اتباع الخط الذي تمليه المملكة، وينفقون عشرات الملايين من الدولارات على الجماعات التي تمارس الضغط على الحكومات الغربية، ويدعمون المؤسسات الفكرية البارزة والجامعات والمؤسسات الثقافية التي تساعد في تحسين صورة المملكة في الغرب.
فهي تعودت على دبلوماسية دفتر الشيكات"
لا يقتصر تعزيز القيادة السعودية دبلوماسية دفتر الشيكات ، والتهديد بالامتناع عن التجارة والاستثمارات، على توجيهه نحو العالم العربي والإسلامي وحسب. على مدى العام الماضي، أوقف الأمير محمد بن سلمان صفقاتٍ تجاريةً واقتصاديةً مع ألمانيا وكندا لمعاقبتهما على انتقاد
في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد ثلاثة أيام من اعتراف السعودية بأن عملاءها قتلوا الصحافي المعارض جمال خاشقجي، ظهر اسم رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، في عناوين الأخبار الرئيسية لحضوره إحدى جلسات مؤتمرٍ اقتصاديٍ يُعقَد في الرياض، وهو المؤتمر الذي انسحب منه عديدٌ من الساسة والمدراء التنفيذيين من دول الغرب.
في شهر سبتمبر/أيلول، عندما زار خان السعودية بحثاً عن المساعدة من أجل اقتصاده المنهك، غادر خالي الوفاض.
ولكن في الأسبوع الماضي، مع اشتداد حالة الغضب الدولي بسبب اغتيال خاشقجي، اتصل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان برئيس الوزراء الباكستاني، وطلب منه حضور المؤتمر. وافق خان وعاد إلى بلاده وفي جعبته 6 مليارات دولار في صورة دعمٍ ماليٍ من المملكة.
الأفعال السعودية، بما في ذلك الحرب التي تقودها السعودية في اليمن واعتقال ناشطاتٍ حقوقيات.
وحتى البلدان التي لم تُعبِّر عن ولائها الصريح للمملكة، ظلّت صامتةً
وهو ما يؤكد على خوفهم من إغضاب الحكام السعوديين. ولم تخاطر البلاد الإسلامية الأخرى، مثل إندونيسيا التي تحافظ على علاقات قوية مع السعودية. طالب جوكو ويدودو، رئيس إندونيسيا، وهي أكبر بلد مسلم من حيث تعداد السكان، بإجراء تحقيقات "شفافة وشاملة"، ليردد الخطاب الذي نادت به المملكة.
لكن أحد جيران ويدودو، وهو رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، كان واضحاً في انتقاده عندما قال: "نحن أيضاً لدينا أشخاص لا نحبهم، ولكننا لا نقتلهم". يوجه مهاتير انتقادات إلى القادة السعوديين على غير المعتاد؛ نظراً إلى أن سلفه، نجيب عبد الرزاق، كان حليفاً للسعودية ومنتفعاً من سخاء المملكة.
في عام 2015، حصل عبد الرزاق على منحةٍ غامضةٍ بقيمة 681 مليون دولار من السعوديين أُودِعَت في حسابه المصرفي الشخصي.
وعلى جانب آخر، يعتبر شريك مهاتير في الحكومة، أنور إبراهيم، حليفاً قوياً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يقود توجيه التهم إلى السعوديين في مقتل خاشقجي.
تعتمد عديد من البلاد والقادة الذين أصدروا تصريحات تؤيد السعودية على المساعدات القادمة من المملكة. حصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على أكثر من 25 مليار دولار في صورة منحٍ والتزاماتٍ استثماريةٍ من السعودية وحلفائها منذ أن أطاح الجيش المصري في 2013 بالحكومة المصرية المنتخبة، التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين.
وفي يونيو/حزيران، بعد أن اهتزت الأردن بالاحتجاجات الشعبية الكبيرة بسبب زيادة الضرائب، تعهدت السعودية واثنان من حلفائها بدفع مليارين ونصف مليار دولار من أجل دعم الاقتصاد الأردني.
وتعتمد حكومة اليمن على السعودية، التي قادت في مارس/آذار 2013 ائتلافاً مُشَكَّلاً من البلاد العربية السنية في حربٍ ضد المتمردين الحوثيين الشيعة الذين استولوا على مدنٍ يمنيةٍ كبيرة.
وقد يستخدمون الحج أيضاً لمكافأة الأصدقاء وتهميش الأعداء
يستخدم السعوديون سيطرتهم على الحج إلى مكة لتكون وسيلةً أخرى لمكافأة أصدقائهم وتهميش أعدائهم في العالم الإسلامي.
إذ إن الحكومة السعودية تحدد كل عام حصصاً لأعداد الحجاج من البلاد حول العالم، التي يمكنها الحصول على تأشيرات الحج استناداً إلى نسبة المسلمين من كل بلد. تخصص المملكة كذلك تأشيرات حج جماعية مميزة تُمنَح إلى الساسة والحلفاء الذين تفضلهم.
كانت السعودية، في ظل حكم الملك سلمان والأمير محمد، سريعة في معاقبة البلاد التي تتجاوز هذا الخط -أو تفشل في الوقوف بجانبها في صراعها الإقليمي مع إيران- عن طريق سحب الدعم.
في مطلع 2016، بعد تجاهُل الحكومة اللبنانية إدانة الهجمات على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، ألغت المملكة مساعدات بقيمة 4 مليارات دولار كانت مقدمةً إلى الجيش وقوات الأمن في لبنان في إطار دبلوماسية دفتر الشيكات .
ووصل الأمر بولي العهد السعودي للمطالبة بإعلان ولاء علني
وفي الأزمة الحالية، طالب الأمير محمد بن سلمان بإعلان ولاءٍ علنيٍ من رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي احتُجز عند زيارته الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وأُجبر على الاستقالة في بيان تلفزيوني قبل أن يعود في نهاية المطاف إلى منصبه مرة أخرى.
اضطر الحريري الإعلان عن دعمه للأمير محمد لأن المملكة لا تزال صاحبة نفوذٍ في لبنان وتصور نفسها على أنها حامية المجتمع السني في البلاد.
خلال المؤتمر الاقتصادي المنعقد هذا الأسبوع في الرياض، وجَّه الأمير محمد مزيداً من الإهانة إلى الحريري، الذي تقاسم المنصة معه خلال إحدى جلسات المؤتمر.
ففي نهاية الجلسة، مزح الأمير محمد قائلاً إن الحريري سوف يقضي يومين في المملكة، وأضاف: "أرجو (ألا تنتشر) شائعات بأنه مخطوف". ضحك الجمهور وصفقوا بكل طاعةٍ، فيما صافح بن سلمان الحريري.
يعلم الحريري، مثل القادة العرب الآخرين، أن الأمير محمد، ذا الثلاثة والثلاثين عاماً، سوف يكون في السلطة على الأرجح لعقودٍ قادمة. وقد نقل الملك سلمان كثيراً من شؤون الإدارة اليومية للمملكة إلى الأمير الشاب، الذي جمع في حوزته سلطات غير مسبوقة، ليصير وزير الدفاع ورئيس مجلس الشؤون الأمنية والسياسية، وهو مجلسٌ أُنشئ حديثاً.
يدرك حلفاء السعودية وزبائنها مخاطر التجاوز مع الأمير محمد بن سلمان، الذي أظهر للعالم أنه قادرٌ على أن يكون متهوراً وقاسياً.
ويأمل هؤلاء الذين يواصلون الحصول على عطايا من الأمير أن يستمر في مكافأة الموالين له في إطار دبلوماسية دفتر الشيكات ، ولا سيما نظراً إلى أنه ضَمن لنفسه موقعاً ليحكم من خلاله لعقودٍ من الزمان؛ إذ إنه هو الملك القادم للمملكة السعودية.