سلَّط موقع مركز Stratfor الأميركي، الثلاثاء 30 أكتوبر/تشرين الأول 2018، الضوء على الأزمة الحالية بين تركيا والسعودية، بسبب مقتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول، على يد عناصر تابعة للاستخبارات السعودية بأوامر عليا.
واعتبر الموقع الأميركي أن التصريحات الحذرة التي قالها الرئيس التركي في خطابه أمام أعضاء البرلمان بشأن قتلة خاشقجي تأتي في سياق عدم رغبة أنقرة في التصعيد ضد الرياض، رغم الخلافات الكبيرة بينهما، والمنافسة الشرسة من أجل قيادة العالم الإسلامي السني، ولكن كلا الطرفين لا يريدان التصعيد بسبب المصالح بينهما.
وقال Stratfor على مرَّ أسابيع، اتهمت وسائل الإعلام التركية السعودية بالإجرام والتستُّر على الفاعل الحقيقي، بعد مقتل الصحافي المعارض جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول التركية، في الثاني من الشهر الجاري أكتوبر/تشرين الأول. وبعد ذلك بثلاثة أسابيع، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام البرلمان التركي إنَّ السلطات السعودية خطَّطت لقتل خاشقجي. ومع أنَّ أردوغان يميل إلى العبارات الطنَّانة، فإنَّ هذا الخطاب كان ضعيفاً، بل وجَّه الرئيس التركي مناشدةً ودية إلى الملك السعودي سلمان، من أجل التعاون على كشف الحقيقة في قضية خاشقجي. ومن الواضح أنَّ أردوغان اختار ألَّا يذكر الشخص شديد الوضوح، وهو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يعتقد الكثيرون أنَّه ضالع في القتل.
وبحسب الموقع الأميركي، يُعزِّز هذا الخطاب والمعلومات المسربة باستمرار من جانب السلطات التركية وجهة النظر القائلة إنَّ أردوغان يحاول بحذر الضغط على السعودية، التي تختلف رؤيتها للعالم وسياساتها الإقليمية مع رؤية تركيا وسياساتها، لكنَّ أردوغان لن يبالغ في المخاطرة بتدمير العلاقات مع السعودية –لا سيما بالنظر إلى احتمالية نجاة ولي العهد من هذه الفضيحة– لكن لو تصاعد الضغط الدولي ضد ولي العهد، فإنَّ أردوغان في موقفٍ يؤهله للانضمام إلى حملة الضغط، لكن حتى الآن، فإنَّ تركيا تسعى لتعديل التوازنات داخل الأسرة المالكة، بتأكيد أنَّ الملك شريك موثوق، بينما تتساءل علناً عمَّن حرَّض على القتل، وكل ذلك دون ذكر اسم ولي العهد.
جديرٌ بالذكر أنَّ العداوة بين ولي العهد والرئيس التركي متبادلة، إذ قال ولي العهد في تصريحاتٍ أدلى بها أوائل العام الجاري 2018، لوسائل إعلام مصرية، إنَّ تركيا وإيران والإسلام السياسي "محور شر". وفي الواقع، فإنَّ كلا الزعيمين يعيدان تاريخاً مألوفاً من التنافس السعودي التركي، الذي يعود تاريخه إلى عقود. وربما تمنع الأولويات الاقتصادية كل طرفٍ من الإضرار بعلاقة مثمرة بطريقةٍ أو بأخرى، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ كلاً منهما لن يحاول الاستفادة من لحظات ضعف الطرف الآخر وزلَّاته في العلاقات العامة، لا سيما بهذه الطريقة التي يبدو أنَّ تركيا تبني بها نفوذاً ضد السعودية في مقتل خاشقجي.
من يقود العالم السني؟
يُعَد جوهر هذا الصراع مدفوعاً برؤى سياسية مختلفة بين الطرفين للعالم السني، وكذلك الصراع بين الرؤيتين للسيطرة. فبالنسبة للسعودية، راعية أقدس مدينتين في الإسلام، يُعتبر التحدي التركي هجوماً على شرعية آل سعود بصفتهم حكاماً. أمَّا بالنسبة لتركيا، التي حكم سلاطينها يوماً المدينتين ذاتهما بصفتهم خلفاء العالم السني، فتلك فرصة لتأمين قوة ناعمة في العالم المسلم لعقود قادمة.
كانت مسألة الزعامة في العالم السني في حالة تغير مستمر منذ إلغاء الجمهورية التركية الوليدة للخلافة في عام 1924. ومن وجهة نظر الجمهورية التركية، فإنَّ التعبير الأصيل عن الفكر الإسلامي، كما يراه المواطنون المسلمون المستقيمون أخلاقياً، هو ما يجب أن يُرشِد العالم السني ويحكمه. أمَّا السعوديون، في المقابل، فيعتقدون أنَّ الملكيات التقليدية الواضحة مع السلطة المخولة لأعضاء مجلس العلماء في الرياض، هي ما يجب أن يُرشِد العالم السني. وتفترض تركيا، في الأساس، أنَّ شرعية القيادة تأتي من الأصالة الشعبية المستمدّة من المسلمين العاديين، بينما تزعم السعودية أنها مستمدة من تسلسل التقاليد الهرمي.
وتفسر هذه الرؤية السعودية كره الرياض لحركات مثل الإخوان المسلمين، التي تتبنّى آراء مشابهة لتركيا، والتي حظيت بدعم سياسي من أنقرة، وتجتذب الرؤية التركية المسلمين من كل مكان ممَّن يعتقدون أنَّ الالتزام بالدين الإسلامي هو ما ينبغي أن يحدد القيادة، لا التقاليد أو الوجاهة الاجتماعية.
وهذا تهديدٌ سياسي مباشر لشرعية الأسرة الحاكمة السعودية؛ فكلما زاد تعرُّض السعوديين لمثل هذا التفكير زاد تشكيكهم في العقد الاجتماعي المستند إلى النفوذ القبلي الذي يدعم العديد من أسس السلطة الملكية. وبينما يزعم السعوديون أيضاً أنهم يتبعون التمثيلات الحقيقية الأصيلة للإسلام، فإنَّ إصرارهم على الامتياز والتفوق الملكي يجعلهم عرضة للانتقاد بأنَّ ضمائرهم الدينية ليست متسقة مع ما يقولون. ويخلق هذا الأمر صراعاً على السلطة الناعمة بين البلدين، وتأمل الرياض أن تبعد هذا النفوذ المدفوع تركياً عن الرعايا السعوديين قدر الإمكان.
معسكران متنافسان
ولأنَّ تركيا والسعودية تريان نفسيهما القوة السنية الأبرز في العالم المسلم، فهما متفقتان إلى حدٍّ كبير في العديد من قضايا السياسة الخارجية. فكلا البلدين، على سبيل المثال، يريدان احتواء انتشار الهيمنة الإيرانية في المنطقة، ويعتبران القوة الإيرانية تهديداً لقدرتهما على قيادة الشرق الأوسط والعالم المسلم. وهذا يجعل القوتين بطبيعة الحال حليفتين للجهود المتزايدة التي تبذلها الولايات المتحدة لاحتواء نفوذ إيران. ويستند اعتماد واشنطن المتزايد على البلدين للمساعدة في احتواء إيران إلى الاعتماد الأميركي الحالي على البلدين لدعم جهودها في مكافحة الإرهاب. ذلك أنَّ كلا البلدين، رغم كل شيء، ملتزمة بقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى جانب الولايات المتحدة.
لكن على الرغم من الاصطفاف العام لأنقرة والرياض ضد إيران، فلدى كليهما علاقاتٌ مختلفة تماماً مع طهران. فبينما تتجنب السعودية أي تواصل مع إيران قدر الإمكان، فإنَّ تركيا تشارك حدوداً وعلاقة اقتصادية واستراتيجية مع إيران. وربما يُعرِّض هذا الأمر تركيا لمخاطر معينة (مثل خطر المعاناة من جرَّاء فرض عقوبات أميركية أقسى على إيران في الشهور والسنوات القادمة إذا استمرت الشركات التركية في التجارة مع الكيانات الإيرانية)، لكنَّه يزود أنقرة أيضاً بنوع من الحرية في المناورة لا تتمتع به الرياض، كما هو الحال في الصراع السوري. وعلاوة على ذلك، فإنَّ الحدود المشتركة بين تركيا وإيران والتجمعات السكانية الكردية الكبيرة تعطي الطرفين قضية مشتركة لاحتواء الانفصالية الكردية.
والأكثر من ذلك أنَّ تركيا والسعودية لديهما مصلحةٌ في دعم القضايا السياسية ذاتها في العالم السني، وإن كان ذلك من زوايا مختلفة. فكلا البلدين يدعم إنشاء دولة فلسطينية لكنَّهما يتبِّعان منهجين مختلفين لتقديم العون الاقتصادي والسياسي للفلسطينيين. فتركيا أقرب إلى حماس، وهي فرع من أفرع الإخوان المسلمين يحكم غزة، بينما تدعم السعودية في الأساس حركة فتح، الفصيل الفلسطيني الذي يتحكم في الضفة العربية والمعادي لحماس. فضلاً عن أنَّ تركيا تتناول شقاقها مع إسرائيل علناً، وهو ما سيزيد قدرتها على مد يد العون للفلسطينيين، في الوقت الذي أبقت فيه السعودية علاقاتها مع إسرائيل سريةً قدر الإمكان، بينما تعرب علناً عن دعمها القضية الفلسطينية.
وقد عارضت كل من تركيا والسعودية بشدة نظام بشار الأسد بسوريا في أثناء معظم فترات الحرب الأهلية السورية، لكنَّهما دعمتا جماعات معارضة مختلفة في هذا الصراع. وفي هذا الصدد، فإنَّ الدعم السعودي الأخير للسوريين الأكراد قد أغضب تركيا، التي ترى هذه الجماعات المعارضة إرهابية.
تنافس وصراع
اجتذب التنافس الإيراني السعودي معظم الاهتمام، لكنَّ التنافس التركي السعودي –على الرغم من دقة اختلافه– ينتج هو الآخر آثاراً سياسية حقيقية، ويجذب الدول السنية الإقليمية إمَّا إلى معسكر أنقرة أو معسكر الرياض. ولأنَّ النموذج السياسي التركي يهدد حكومات بعض الدول كمصر والإمارات، فإنَّ كلا البلدين قد اصطفا مع الجهود الإقليمية السعودية. لكنَّ حكومات سنية أخرى، مثل قطر، قد اقتربت من تركيا لأنَّ الدوحة تدعم سياسات إسلامية بصفتها وسيلة لتكوين روابط أعمق مع المجتمعات المسلمة العالمية. بينما تحاول بضع دول، مثل الأردن ولبنان الاستفادة من المعسكرين.
وعلى نحو أوسع في إفريقيا، سعت القوتان لبناء نفوذ سياسي وديني واقتصادي وأمني، من شأنه دعم الشرعية السياسية في القارة. فالبلدان لهما مطامعهما في منطقة القرن الإفريقي وأنحاء شمال إفريقيا، إذ يحاولان الاستفادة من الانفتاحات السياسية، كما هو الحال في الصومال حيث تدعم تركيا القوى السياسية المعارضة لمنافسين تدعمهم الرياض وأبوظبي. وفي تونس، حاولت تركيا دعم حزب النهضة الإسلامي لمساعدته على مواجهة أحزاب أكثر علمانية، وهو ما أدى إلى جهود سعودية (غير ناجحة إلى حدٍّ ما) لدعم الأحزاب العلمانية. وسعت السعودية أيضاً لإضعاف قدرة تركيا على جعل إفريقيا سوقاً تصديرية بتقويض الجهود التركية بالتبرعات أو الاستثمارات. ويمكن للسعودية، عبر تعزيز الاقتصادات الإفريقية، المساعدة على إعطاء هذه الدول قوة تفاوضية أعلى مع تركيا، أو الاستيراد من أماكن أخرى.
وفي ظل تنافس البلدين، وجدا طرقاً للدغ بعضهما في نقاط الضعف. فنظراً إلى أنَّ منع إقامة كيانٍ سياسي كردي مستقل هو الهدف الأمني الأساسي لتركيا، يزداد قلق أنقرة إزاء جهود السعودية والخليج للتواصل مع الأكراد في العراق وسوريا. مثلما عارضت السعودية بشدة دعم تركيا لقطر، الذي ساعد على توفير شريان الحياة السياسي والأمني لها في بداية الحصار، الذي بدأ في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي 2017. وتريد الرياض، على وجه الخصوص، منع أنقرة من تعزيز حضورها العسكري في قطر. وعلاوة على ذلك، فإنَّ كلا البلدين قد دعما جماعاتٍ مختلفة داخل الطيف السياسي اللبناني المزدحم المعقد، وهو ما أدى بطريقةٍ ما إلى تأجيج المشكلات السياسية في بيروت.
علاقات اقتصادية
وعلى الرغم من التنافس، فإنَّ الروابط الاقتصادية المتزايدة بين البلدين ربما تخفف من احتمالية وقوع شقاق خطير، لا سيما في المجال العسكري. إذ بدأ التعاون العسكري التركي السعودي، في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2013، عندما صدَّق البلدان على اتفاقية تعاون. وفي أواخر العام الماضي، أسست شركة Aselsan Corp، التي تعد واحدة من أهم شركات الدفاع العسكري في تركيا، مشروعاً مشتركاً مع شركة تقنية السعودية، التي تدعى الشركة السعودية للإلكترونيات الدفاعية، وتركز في الأساس على الإلكترونيات، بما في ذلك أجهزة التشويش والرادارات وأجنحة الحرب الإلكترونية ومستقبلات الأشعة تحت الحمراء. وقد بدأت الشركتان إنشاء مصنع في السعودية في إطار هذا المشروع المشترك.
وحتى الآن، لم تبرم تركيا أية مبيعات أسلحة كبيرة إلى السعودية، مع أنَّ أنقرة كانت تتفاوض لبيع مركبات جوية بدون طيار إلى السعودية، وأبدت آمالاً لبيع دبابات من طراز ألتاي إلى السعودية، فضلاً عن أسلحة ومعدات أخرى. ولأنَّ الروابط الدفاعية الثنائية لا تزال في مهدها، فإنَّ أي شقاق حاد بين البلدين لن يُنهي أي صفقات أسلحة حالية، لكنَّه بالتأكيد سيعيق طموحات أنقرة لتوسيع سوقها السعودي المربح، ما يعني أنَّ كلا الطرفين لن يستفيد من حدوث تمزُّق عميق في العلاقات.
وفيما يخص التجارة، فالعلاقة ليست ضخمة (إذ بلغت قيمة التجارة بين الطرفين في العام الماضي 4.7 مليار دولار فقط)، ومع ذلك، تعهَّدت كلتا الحكومتين بزيادة التجارة والاستثمار في القطاعات المهمة للطرفين. وبذلك، لا توجد مصلحةٌ كبيرة لدى أيٍّ من الطرفين في تعكير في المناخ السياسي تعكيراً قد يؤدي إلى إنهاء روابط اقتصادية قيِّمة. إذ حظيت بعض شركات الإنشاءات التركية، التي تمثل قطاعاً استراتيجياً لأنقرة، بعقدين لبناء مشروعات إسكان سعودية، ومن المقرر زيادة عدد هذه المشروعات إلى حدٍّ كبير وفقاً لرؤية 2030 التي تتبنَّاها السعودية. وقد دعم السياح السعوديون، الذين يزداد عددهم سنوياً أيضاً، الاقتصاد التركي بإنفاقهم الكبير في أثناء زيارتهم تركيا. وكان المواطنون السعوديون أيضاً في طليعة حملة لشراء العقارات التركية، وهو ما يسلط الضوء على مدى أهمية زبائن المملكة للقطاع الاقتصادي في أنقرة. (وبطبيعة الحال، فإنَّ بعض نفوذ الرياض على أنقرة في سوق العقارات قد تقلَّص بفضل الاستثمار الذي أسهمت به قطر -غريمة السعودية- بقيمة مليار دولار في سوق الإسكان التركي على مرِّ السنوات الثلاث الماضية).
الإبقاء على الهدوء في الوقت الراهن
حتى الآن، لا تخاطر الرياض في التعامل مع أنقرة، وتحاول نزع فتيل أزمة خاشقجي. والسؤال الآن، ما الذي تريده تركيا في النهاية بينما تُقلِق راحة السعودية بقضية خاشقجي؟ على الصعيد الاقتصادي، ربما تطلب تركيا وراء الأبواب المغلقة دعماً مالياً سعودياً مقابل إنهاء الضغط الإعلامي على ولي العهد، أو ربما حتى تطلب تخفيف بعض الضغط الدبلوماسي على الدوحة، التي ما زالت تحت حصار مجلس التعاون الخليجي. أمَّا على الصعيدين الأمني والسياسي، فإنَّ تركيا تسعى أيضاً إلى وسيلةٍ لاحتواء الدعم السعودي للأكراد.
ومع ذلك، ففي نهاية المطاف، يقع معظم التنافس السعودي التركي في الساحة السياسية ومجال القوة الناعمة، اللذين يتنافس فيهما شخصان مثل محمد بن سلمان وأردوغان للحصول على المكانة، بينما تتنافس أنقرة والرياض للفوز بقلوب أبناء العالم السني وعقولهم. وحتى الآن، يبدو أنَّ تركيا ترى المنفعة في عدم إثارة فتنة مع السعودية، لكنَّ ذلك لا يضمن أنَّها لن تغير رأيها.