قال إبراهيم المرعشي الأستاذ المساعد في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ولاية كاليفورنيا إن أصحاب النفوذ الأقوى في اختيار قادة العراق الثلاثة، رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي والرئيس العراقي الجديد برهم صالح و رئيس البرلمان محمد الحلبوسي هم أربع جهات تتمثل في: فاعلان محليان هما المعسكر الصدري الذي فاز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية العراقية، ومنافسه البرلماني المنتمي للميليشيات الشيعية، التي يناصر بعضها إيران. إلى جانب فاعلين دوليين، هما الولايات المتحدة وإيران.
المرعشي قال في مقالة له نشرها بموقع Middle East Eye البريطاني إنه رغم إعلان العراق الخميس الماضي 25 أكتوبر/تشرين الثاني، شاغلي أعلى المناصب التنفيذية في الدولة، إذ وُزِّعت 14 حقيبة وزارية من أصل 22 في الحكومة الجديدة. لكن لا يزال عددٌ من الحقائب الوزارية الأساسية شاغرة، وسيتولى رئيس الوزراء العراقي الجديد عادل عبد المهدي منها حقيبتي الدفاع والعدل.
وسينضم الوزراء الجدد إلى برهم صالح، الرئيس العراقي الجديد، ومحمد الحلبوسي، رئيس البرلمان، في قيادة دولة العراق التي تحتاج إلى التعامل مع التحديات الداخلية التي تبدو عصِّية، بدايةً من الاحتجاجات في محافظة البصرة وحتى إعادة إعمار العراق عقب هجوم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وعلى الصعيد الدولي، سيتولى القادة الثلاثة أيضاً مهمة إيجاد التوازن الحساس بين النفوذين الأميركي والإيراني على العراق، إلى جانب علاقات البلاد مع العالم العربي بأكمله.
انحيازات الساسة العراقيين لأطراف دولية
ستسعى الولايات المتحدة ووسائل الإعلام الدولية باستمرار إلى تحليل كيف ينحاز هؤلاء القادة إلى السياسات الخارجية الإيرانية أو الأميركية، والشاهد على ذلك عناوين وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية والفرنسية والتركية، على شاكلة: "العراق ينتخب سُنّيّاً موالياً لإيران رئيساً للبرلمان".
سيكون هذا النهج الاختزالي جذاباً على نحوٍ خاص عند التعامل مع عبد المهدي، الذي يتحدث الفارسية وعاش لفترة في إيران، وكذلك مع صالح، الذي حافظ على تواصل دائم مع طهران.
لكن كما هو حال الكثير من المنتمين للنخبة السياسة العراقية الحالية، كان عبد المهدي وصالح من بين الشخصيات التي عاشت في المنفى خلال حكم صدام حسين للعراق، إذ لجأ كثيرون منهم إلى إيران طلباً للمساعدة أو المأوى.
لكن في هاتين الحالتين، لا يستدعي تاريخهما مع طهران أن يكونا مواليين بالضرورة لها؛ إذ إنَّ أفكارهما السياسية تبلورت بمرور الوقت وأصبحت تستند إلى النفعية السياسية أكثر منها إلى الالتزام الأيديولوجي تجاه واشنطن أو طهران.
توزيعات المناصب غير منصوص عليها في الدستور العراقي
عقب انتهاء الانتخابات التشريعية العراقية التي جرت في مايو/أيار 2018، كانت المهمة الأولى للبرلمان الجديد في أولى جلساته هي انتخاب رئيس للمجلس، وهو المنصب الذي يُوكَل عادةً إلى شخصٍ من العرب السُنَّة.
وفي منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، انتخب البرلمان محمد الحلبوسي. وعقب إتمام هذه المهمة، اختار البرلمان رئيساً للدولة، وهو المنصب الذي يُمنَح عادةً إلى شخصٍ كردي؛ وفي هذه الحالة وقع الاختيار على برهم صالح في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وفور تولي صالح الرئاسة، طلب من أكبر كتلة نيابية في البرلمان تسمية رئيس وزراء، الذي عادةً ما يكون شيعياً يتولى مهمة تشكيل الحكومة، ووقع الاختيار في هذه الحالة على عبد المهدي.
جديرٌ بالذكر أنَّ هذه التوزيعات التي تتم وفق اعتبارات طائفية وعرقية غير منصوص عليها في الدستور العراقي، بل هي جزء من الأعراف السياسية يُفتَرَض أنَّها تمثل الطبيعة الديموغرافية للدولة. وعلى عكس عبد المهدي وصالح، لم يكن الحلبوسي مقيماً في المنفى، بل كان القيادي البالغ من العمر 36 عاماً يشغل سابقاً منصب محافظ الأنبار.
ونال ترشيح الحلبوسي دعماً من ائتلاف هادي العامري، وزير النقل سابقاً وعضو البرلمان حالياً، الذي يضم قادة مليشيات شيعية، ما دفع بعض وسائل الإعلام إلى الزعم بأنَّ الحلبوسي "موالٍ لإيران".
ويكشف تحليلٌ أعمق لحياة الحلبوسي أنَّه حافظ كذلك على علاقاتٍ مع الولايات المتحدة، وأنَّ تحالفه مع العامري كان في أغلبه محاولة نفعية لكسب الأصوات من أجل هزيمة المنافسين العرب السُنَّة الآخرين في المنافسة على المنصب الذي يظفر به عادةً الحزب الإسلامي العراقي.
محاولة توازن بين مصالح أميركا وإيران
وقال المرعشي: "صالح درس في المملكة المتحدة وحصل على درجة الدكتوراه في علم الإحصاء والبيانات. وقد التقيتُ به في عدة مناسبات أثناء استكمال دراستي العليا في جامعة جورج تاون الأميركية، حيث كان يعمل ممثلاً لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني لدى واشنطن، لكنَّه خاض انتخابات 2018 مستقلاً عن حزبه".
ويتركزَّ نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني في محافظة السليمانية، وهي منطقة تقع شمال العراق على الحدود مع إيران. وفرضت الطبيعة الجغرافية هناك أن يكون الاتحاد الوطني الكردستاني بحاجة إلى الدعم الإيراني، وبالأخص أثناء أحداث العنف التي اندلعت عام 1997 نتيجة الاقتتال بين الاتحاد وخصمه الكردي، الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وحين عاد صالح إلى مدينة السليمانية كمسؤول حكومي، اضطلع بدور محوري في مشاريع تراوحت بين توصيل شبكة الكهرباء في المدينة بشبكة إيران، إلى إنشاء الجامعة الأميركية هناك، ما يُمثِّل تذكيراً قوياً على التوازن بين الولايات المتحدة وإيران على مستقبل العراق في الجزء الشمالي من البلاد.
ينحدر عبد المهدي من نخب العراق الدينية الشيعية والمترسخة في مناطقها. وبرغم نشأته الدينية، انجذب إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي يميل للعلمانية، وهذه الظاهرة لم تكن فريدةً بين الشيعة في الفترة الممتدة بين خمسينيات إلى سبعينيات القرن الماضي. إذ مثَّل عبد المهدي جيلاً من الشباب الشيعة الذين ينحدرون من عائلات تقليدية في مدن مقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية وانجذبوا مع ذلك إلى الشيوعية.
وخلال تلك الفترة، تشكَّل حزب الدعوة الإسلامية، الذي ينتمي إليه جميع رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على العراق عقب عام 2003، لمقاومة هذا التوجه عبر توفير بديل ديني للشيعة العراقيين. خلال فترة الستينيات والسبعينيات، درس عبد المهدي الاقتصاد وكتب في هذا العلم في فرنسا، بعد أن نُفي إلى هناك باعتباره أحد أعضاء الاتحاد الوطني الكردستاني المعارضين للحكم المطلق لحزب البعث.
ولاحقاً، ألهمته الثورة الإسلامية الإيرانية التي انتهت بقيام الجمهورية الإسلامية، بوصفها مشروعاً مناهضاً للهيمنة أسر مُخيِّلة اليساريين والشيوعيين في الشرق الأوسط وفي العالم بأكمله في تلك الفترة.
وأخيراً، انضم عبد المهدي إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي أسسته إيران عام 1982 ليكون بمثابة حكومة في المنفى، في وقتٍ كانت تتصدى فيه إيران للغزو العراقي وكان صدام حسين في وضعية دفاعية عسكرياً وسياسياً.
وبرغم أصوله الإيرانية، بادر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بالتقرب إلى الولايات المتحدة، ثم في عراق ما بعد حزب البعث، أصبح حزباً سياسياً. وأعاد الحزب تقديم نفسه في صورة المجلس الأعلى الإسلامي في العراق، وتخلى عن دعواته لقيام "ثورة إسلامية" على غرار تلك التي اندلعت في إيران، وذلك بهدف جذب مزيد من المصوتين العراقيين القوميين.
وبحلول انتخابات العام الجاري، انهار المجلس الأعلى الإسلامي في العراق تقريباً نتيجة خصومات داخلية، وخاض عبد المهدي الانتخابات مرشحاً مستقلاً. لقد تمزَّق الحزب الذي بدأ وكيلاً لإيران عام 1982، ما يُفسِّر السبب الذي دفع إيران لكسب شركاء يمكن التعويل عليهم أكثر، وقد وجدت ضالتها في الميليشيات الشيعية في العراق. وتُفسِّر عملية إعادة ترتيب التحالفات هذه كيف كان عبد المهدي في وضعٍ يُخوِّله الظهور كمرشحٍ توافقي.
محاولات لاختيار حكومة بعيدة عن الطائفية
بالنظر سريعاً إلى حياة الساسة الثلاثة، لا يمكن تصنيفهم بالكامل ضمن أحد المعسكرين الأميركي أو الإيراني، أو بصفة مستقلة عن التكتلات السياسية الكبرى.
إضافة إلى ذلك، تضم قائمة الوزراء العراقيين الجدد، التي أُعلِن عن جزءٍ منها فقط، العديد من الشخصيات التكنوقراط، مثل: لؤي الخطيب، المدير التنفيذي لمعهد الطاقة العراقي الحيادي، والخبير المتمرس في قطاع الهيدروكربونات، الذي تولى وزارة الكهرباء؛ وثامر الغضبان وزيراً للنفط؛ وفؤاد حسين، الخبير التشريعي الكردي، وزيراً للمالية.
ومن ثم، فإنَّ الحاجة إلى هذه المعارضة المزدوجة، تماماً كما هو الحال مع الحاجة الملحة لاستخدام "الطائفية" لتفسير المشهد السياسي العراقي، تؤدي إلى غموض، وليس توضيح، الديناميات السياسية في البلاد.
ومثلما سيوازن القادة الثلاثة بين الأجندتين الأميركية والإيرانية، عَمِل ثلاثتهم معاً على مدار الأسابيع القليلة الماضية لتشكيل حكومة جديدة وقاوموا الرغبة في ترشيح قادة استناداً إلى هويتهم العرقية والطائفية، بل سعوا في المقابل إلى اختيار التكنوقراط المؤهلين الذين يتمتعون بالقدرة للتعامل مع كم الأزمات الهائل الذي يواجهه العراق.