مع تواصل التكهُّنات حول احتمالية أن يُجبَر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على ترك منصبه، أو تُقلَّص صلاحياته بشدة، نتيجةً لمقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية في وقتٍ سابق من الشهر الجاري، أكتوبر/تشرين الأول، بيد أنَّ ذلك يبدو مستبعداً، رغم تداعيات القرار سياسياً واقتصادياً حول العالم
يحاول يزيد صايغ، الباحث الرئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، في مقالة له منشورة في موقع Middle East Eye البريطاني، يحاول أن يشرح ذلك.
صايغ يشير إلى أن هذه الحادثة تمثل موقفاً عصيباً جداً لولي العهد السعودي لم يسبق له مثيل. ومع ذلك فحتى لو أسفر ذلك عن عقوباتٍ أشدِّ في حال ثبوت مسؤولية محمد بن سلمان عن الجريمة، فإنَّه لن ينجو فحسب، بل سيُبدي ردة فعل قوية لزيادة ترسيخ مكانته على الصعيد المحلي.
ولي العهد السعودي جمع كل الأجهزة الأمنية تحت رئاسته
يقول صايغ: "عندما يقع الحكام المستبدون تحت الضغط، لا يتخلّون عن السلطة، بل يضاعفونها، بغضّ النظر عن التكلفة، ويُعَد ولي العهد السعودي في وضعٍ أفضل من معظمهم".
إذ اجتذب سعي محمد بن سلمان لتوطيد سلطته منذ أصبح ولياً للعهد، في يونيو/حزيران من العام الماضي 2017، انتباهاً كبيراً. بيد أنَّ الكثير من التكهُّنات بشأن تطلُّعاته لم تلاحظ أنَّه شدَّد قبضته على الأجهزة العسكرية والأمنية في المملكة العربية السعودية حين كان وزيراً للدفاع.
ففي السابق، كانت هذه المؤسسات تُشبه في عملها إلى حدٍّ كبير إقطاعياتٍ منفصلة، يرأسها أفرادٌ من العائلة المالكة. وبالإضافة إلى الحفاظ على حصصهم الفردية في كعكة النظام السياسي، مكَّنهم النظام من تكوين ثرواتٍ طائلة من عقود البناء والتوريد التي استحدثها.
قال صايغ: صحيحٌ أنَّ تحسين القدرات التشغيلية والأداء التشغيلي في المؤسسات العسكرية والأمنية ضمن عملية إصلاحها وإعادة هيكلتها ما زال قيد التقدُّم، لكنَّه مكَّن محمد بن سلمان من إزاحة جميع منافسيه الرئيسيين.
وجاء المؤشر الأوضح على ذلك، في يونيو/حزيران ويوليو/تموز من العام الماضي، حين عزل الملك سلمان الأمير محمد بن نايف، وزير الداخلية آنذاك، وضمَّ جميع أجهزة مكافحة الإرهاب وأجهزة المخابرات الداخلية تحت هيئة جديدة واحدة، تحمل اسم رئاسة أمن الدولة، وتقدم تقاريرها إلى محمد بن سلمان. وكانت هذه خطوة اعتبرها جمال خاشقجي "إصلاحاً متأخراً" في إحدى مقالاته على موقع Middle East Eye البريطاني، مشيراً إلى أنَّ محمد بن سلمان قد فاز بالفعل في صراعٍ على السلطة مع ابن عمه محمد بن نايف.
وكانت مديرية المباحث العامة من بين الوكالات التي ضُمَّت آنذاك إلى الهيئة الجديدة. وتولَّت الهيئة الجديدة مسؤولية هذه الأجهزة والأدوار، وأصبحت هي والوكالات الفرعية التابعة لها -مثل مركز المعلومات الوطني الذي نُقِل إليها أيضاً من وزارة الداخلية- مراكز لاستثمارات كبرى في مجال الأمن السيبراني ومستقبلات لها.
وأسفر ذلك عن مواصلة توجَّهٍ عام يتمثل في الاستثمار في برامج التجسُّس والتجسُّس الرقمي لاستخدامها ضد المعارضين، وهذا التوجُّه مستمر منذ أربع سنواتٍ على الأقل حتى الآن، وفقاً لما ذكره تقرير صادر عن مختبر Citizen Lab الذي يقع مقره في مدينة تورنتو الكندية.
ما مهد لصناعة ولاءات جديدة لولي العهد
جاءت عملية إعادة الهيكلة مصحوبةً بتغيير قيادات أمنية وعسكرية. إذ عزل الملك سلمان قائد الحرس الملكي، في يوليو/تموز من العام الماضي، وعيَّن شخصاً آخر بدلاً منه، وعيَّن رئيس أركان جديداً للقوات المسلحة السعودية، وقائدين جديدين للقوات البرية وقوات الدفاع الجوي، على أن يُقدِّم قادة هذه القوات بالإضافة إلى قادة القوات البحرية والجوية تقاريرهم مباشرةً إلى محمد بن سلمان.
ووفقاً لوثيقة تخطيط غير منشورة استشهد بها المحلل العسكري نيل بارتريك، فمن المقرر تعيين 800 ضابط جديد بحلول نهاية العام المقبل 2019.
صايغ ذهب إلى أنه، وبلا شكَّ، أنَّ ترقية جيلٍ كامل من الضباط الأصغر سناً الذين يوالون ولي العهد بالفعل أو قد يستفيدون من السبل التي يفتحها أمام الترقية السريعة والسيطرة المُغرِضة، ستعزز تأمين وضع محمد بن سلمان.
وهذا يشمل إجراءاتٍ مثل ترقية رئيس هيئة رئاسة أمن الدولة ونائبه إلى رتبة وزير، ويُعزِّزه إقالة ضباط وزارة الداخلية والمسؤولين المرتبطين بمحمد بن نايف، وتعيين آخرين موالين لمحمد بن سلمان بدلاً منهم.
وحتى في الأجهزة التي لا يدين فيها الضباط بتعيينهم لمحمد بن سلمان، كما هو الحال في الحرس الوطني السعودي، فإنَّ إبقاء وزارة الحرس الوطني منفصلةً عن وزارة الدفاع يردع التهديدات المحتملة من أيٍّ منهما.
لكنَّ التوجُّه بعيد المدى يشير إلى احتمالية دمجهما تحت قيادة محمد بن سلمان، الذي ليس لديه نائبٌ في وزارة الدفاع، ولكنَّه يعمل على توسيع الهيكل التنظيمي للوزارة بخمسة وزراء دفاع مساعدين، وثلاثة وكلاء وزارة، وفقاً لما ذكره بارتريك.
وأعاد ولي العهد أيضاً تشكيل القطاع العسكري والأمني تحت إدارته
وبالتوازي مع ذلك، أعاد محمد بن سلمان تشكيل المصالح الاقتصادية والتجارية للقطاعات العسكرية والأمنية ووسَّعها بشدة؛ إذ تأسست الشركة السعودية للصناعات العسكرية، في مايو/أيار من العام الماضي، بصفتها شركة تصنيع أسلحة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادية في المملكة الذي يقدم تقاريره إلى محمد بن سلمان فقط.
تأسَّست الهيئة العامة للصناعات العسكرية، في أغسطس/آب من العام الماضي، لتولي شؤون مشتريات وزارتيّ الدفاع والداخلية، ووكالات أخرى مثل رئاسة أمن الدولة. وتندرج الشركة السعودية للصناعات العسكرية والهيئة العامة للصناعات العسكرية ضمن لجنةٍ وزارية مشتركة برئاسة محمد بن سلمان.
وبينما كان المقصد الظاهر من هذه الإجراءات هو مكافحة الفساد وكبح جماح الحصول المفرط على العمولات في قطاعٍ مُربحٍ للغاية، عمَّقت الإجراءات نقل الأصول والصلاحيات من المنافسين المحتملين، مثل نقل ملف شؤون الاستخبارات السيبرانية، التابع لوزارة الداخلية إلى رئاسة أمن الدولة.
وزوَّدت محمد بن سلمان كذلك بأصولٍ مالية إضافية، حتى عندما يكون أداء بعض الهيئات مثل الشركة السعودية للصناعات العسكرية دون المستوى المطلوب، لأنَّه قادرٌ على توجيه الاستثمارات والمشروعات الممولة من صندوق الاستثمارات العامة إلى الوكالات العسكرية والأمنية التي يفضلها.
وعزَّز الأمير محمد بن سلمان هذا التوجُّه، بطلبه مراجعة عقود الدفاع الحالية، في يوليو/تموز من العام الجاري 2018.
وهذا يشبه ما فعله في عام 2016، حين نقَّح بعض عقود الإنشاءات المدنية الضخمة، وألغى البعض الآخر، مستخدماً صلاحياته الموازية بصفته رئيساً لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
جديرٌ بالذكر أنَّ هذه الإجراءات غير مكتملة، وبعضها مُعرَّضٌ للانهيار. فعلى سبيل المثال، ليس من المؤكَّد أنَّ خطة قيادة القوات المشتركة للجيش -التي تعد جزءاً من خريطة طريق لتطوير وزارة الدفاع أقرَّها الملك سلمان في العام الماضي- ستتحقق.
لكنَّ الأثر التراكمي سيُسفر عن تغييرات؛ إذ يُدمَج إطار عمل الأجهزة العسكرية والأمنية، الذي كان منفصلاً، في نموذج أشد وحدة، ليعكس بذلك توجُّهاً مشابهاً في الدولة السعودية.
ما يفعله الأمير محمد ليس مجرد انحراف، وليس أمراً جديداً كلياً، إذ يرتبط ارتباطاً قوياً بتغيُّراتٍ داخلية في المجالات الاقتصادية والمؤسسية، كانت في طور التكوين على مرِّ سنوات. لكنَّ هذه التحركات أحاطته بشبكةٍ متينة للغاية لا يمكن حلّها بسهولة.
ومهما كانت تداعيات مقتل خاشقجي، فإنَّ محمد بن سلمان يحظى بوضعٍ جيد يُمكِّنه من مقاومة أي محاولةٍ داخلية لإطاحته. وبالنظر إلى مدى قوة العلاقات الاقتصادية الغربية مع المملكة العربية السعودية، فقد يتطلَّب إضعاف موقفه المحلي عقوباتٍ دولية لا يمكن تخيُّلها.
وحتى لو فعلت الحكومات الغربية ذلك، فسيتعيَّن عليها تهديد القطاعين العسكري والأمني السعودي بالتعجيز الكامل، قبل أن تتصدى للتوجه الذي يسعى إليه محمد بن سلمان.