حرص المصرفيون على إخفاء بطاقات أسمائهم خلف ربطات العنق. وحاول الكثيرون التواري عن الأنظار وتجنُّب التحدث إلى وسائل الإعلام، لكنَّ أولئك الذين كانوا يأملون تجنُّب أي تشويه قد يلحق بسمعتهم إن شاركوا في مؤتمر الاستثمار العالمي في السعودية " مؤتمر دافوس الصحراء "، الذي يرعاه محمد بن سلمان ، في إثر مقتل الصحافي المعارض شعروا بالإحباط عندما ظهر ولي العهد نفسه، محمد بن سلمان في اجتماع القمة واستُقبل بحفاوة بالغة.
وقالت صحيفة The New York Times الأميركية، إن الظهور غير المتوقع للأمير محمد بن سلمان، المشتبه في مشاركته في قتل الصحافي جمال خاشقجي، سلَّط الضوء على المخاطر التي تواجه الشركات الأميركية التي اختارت المشاركة في حدثٍ يهدف إلى جمع كبار الرؤساء التنفيذيين العالميين. وكان من المقرر أن يشارك ولي العهد في حلقة نقاش صباح الأربعاء، 24 أكتوبر/تشرين الأول، حول تحويل المنطقة إلى قوة اقتصادية عالمية.
رؤساء تنفيذيون ومسؤولون حكوميون قاطعوا، والحاضرون يبرِّرون
ألغى العديد من الرؤساء التنفيذيين والمسؤولين الحكوميين الغربيين مشاركتهم، بما في ذلك الرؤساء التنفيذيون لشركة Blackstone Group، وبنك JPMorgan Chase، ووزراء الخارجية والمالية لكلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهولندا.
ومع ذلك، يشارك أكثر من 3 آلاف شخص في المؤتمر الذي يستمر لمدة ثلاثة أيام من هذا الأسبوع، وفي اليوم الأول، كان بهو فندق ريتز كارلتون يضج بالحركة، حيث كان الرؤساء التنفيذيون يشقون طريقهم في سلاسةٍ على الأرضيات الرخامية، وهم يحتسون عصير الكيوي، ويتبادلون بطاقات العمل، ويناقشون الصفقات المحتملة.
كان البعض في حالةٍ مزاجية لا تسمح لهم بالتحدث. بينما برَّر آخرون القرار حول مشاركتهم في مؤتمر دافوس الصحراء بأنَّهم لم يكن لديهم بديلٌ آخر.
ويقول كين مويلس، المؤسس والرئيس التنفيذي لبنك Moelis & Company، وهو بنك استثماري: "لا أدلي بتصريحاتٍ لأي وسيلة إعلامية، والإجابة ستكون (لا تعليق)".
وقالت تالي زنغير، الرئيسة التنفيذية لشركة Dawsat، وهي شركة ناشئة تركز على الصحة في الشرق الأوسط: "إنَّه موقف محرج"، وأشارت إلى الأثر الذي تركته وفاة خاشقجي.
فكرت تالي، وهي أميركية، في إلغاء مشاركتها، لكنَّها خلُصت إلى أنَّها لم تكن معروفة بدرجة كافية، وأنَّ غيابها عن المؤتمر لن يُحدث أثراً يُذكر.
رغم اعترافهم بأن قتل خاشقجي كان "مُفزعاً"
وقال هنري بينر، وهو مسؤول تنفيذي في شركة P/E Investments ومقرها بوسطن، إنَّ مقتل خاشقجي كان "مفزعاً"، لكنّ هناك حروباً وأعمالاً وحشية تدور في الشرق الأوسط، وهذا الوضع لا ينبغي بالضرورة أن يُعيق العلاقات التجارية.
وقال: "بعد عامٍ من الآن، سيسأل أحدهم عن الإيرادات. لن نخاطر بعلاقاتنا من أجل هذا".
وبينما ألغى وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين مشاركته في مؤتمر دافوس الصحراء فقد سافر إلى الرياض على أي حال، واجتمع بالأمير محمد بن سلمان . وقد ناقش الاثنان مكافحة التمويل غير المشروع والتحقيق في وفاة خاشقجي، حسبما قال متحدث باسم وزارة الخزانة.
بينما كان قادة الأعمال يستقلون الحافلات المكوكية مجتازةً الحواجز لدخول فندق الريتز، كان مساعدو منوشين يتناولون وجبة الإفطار في فندق فخم قريب. وكان من المتوقع أن يزور الوزير مركز استهداف تمويل الإرهاب، الذي أُسس العام الماضي خلال زيارة الرئيس ترمب للمنطقة، قبل أن يغادر متوجهاً للمحطة التالية من رحلته التي تشمل 6 دول.
وقد شكَّل قرار حضور مؤتمر الاستثمار معضلةً خاصة للشركات المالية، التي يرتبط العديد منها بروابط تجارية مع السعودية، تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وهناك من يعمل لحسابها في المنطقة، ويحرص على الحفاظ على علاقاتٍ قوية هناك.
وحتى الحضور لم يكن "متميزاً" كما أراد المنضمون
وكان بنك Morgan Stanley يقدم المشورة للمسؤولين السعوديين بشأن الطرح العام الأولي للأسهم في أرامكو السعودية، شركة النفط الوطنية.
ولدى بنك JPMorgan Chase مكانة رائدة في العمل كضامن في الطرح العام الأولي، ويعمل به 70 شخصاً في الرياض. وأزاح الرئيس التنفيذي لشركة Citigroup مايكل كوربات الستار عن أحدث مكتب للشركة في الرياض في احتفالية هذا العام.
وقد تعاونت شركة Blackstone Group مع صندوق الثروة السيادية السعودي لإنشاء صندوق استثماري للبنية التحتية بقيمة 40 مليار دولار، مع التركيز على البنية التحتية في الولايات المتحدة.
ولم ترسل أيٌّ من الشركات الكبيرة في وول ستريت كبار قادتها، لكنَّ مؤسسات مثل Citigroup وGoldman Sachs وMorgan Stanley أرسلت مسؤولين تنفيذيين محليين وإقليميين، وبعضهم من كبار الموظفين. ولم يحضر أي شخص من شركة Blackstone Group، التي انسحب الرئيس التنفيذي لها من الحدث الأسبوع الماضي، وفقاً لمسؤولٍ في الشركة.
وقال بعض المشاركين إنَّهم كانوا هناك من أجل العمل فقط ولم يضعوا قضية خاشقجي في اعتبارهم.
وقال مايكل سلاتر، الذي يدير أعمال الاستثمار في الشرق الأوسط وإفريقيا بشركة Northern Trust ومقرها الرياض: "إنَّه مجرد ضجيج بالنسبة لي، الأشخاص الذين أحتاج إلى رؤيتهم يتواجدون هنا، وهذا هو ما يهمني".
وهو ما يطرح تساؤلات بشأن مستقبل المؤتمر الذي يرعاه محمد بن سلمان
لا يزال مستقبل مؤتمر دافوس الصحراء غير واضح المعالم، وقد ناقش بعض الحاضرين الذين يجتمعون على هامش المؤتمر تساؤلاتهم حول ما إذا كانت الأزمة الحالية ستنتهي أو تؤدي إلى فشلٍ حقيقي للتقدم الذي أحرزته السعودية في الآونة الأخيرة.
بالنسبة للسعوديين الذين نظَّموا المؤتمر، كان من أكثر الأسئلة التي تشغل أذهانهم هو ما إذا كانت الشركات الإعلامية الراعية للحدث التي سحبت دعمها، بما في ذلك شركة The New York Times، ستعود العام المقبل.
وأشار مستشار استثماري متخصص في الصفقات التجارية بين الولايات المتحدة والسعودية، إلى أنَّ البنوك الكبرى التي تهتم بحماية سمعة علاماتها التجارية، وشركات وادي السليكون التي تشجع على الاستثمار الأخلاقي، ستحذر من الشروع في صفقاتٍ جديدة مع السعودية إلى حين زوال مخاوفها بشأن مقتل خاشقجي.
رغم إعلان المنظمين عن توقيع صفقات بقيمة 30 مليار دولار
بيد أنَّ المستثمرين العقاريين من الولايات المتحدة كانوا ينتظرون مؤتمر دافوس الصحراء بشغف، ساعين إلى إيجاد من يمول مشاريعهم في أميركا، ويبحثون عن فرصٍ للمشاركة في تطوير البنية التحتية في الشرق الأوسط.
وأعلنت أرامكو السعودية، كدلالةٍ على استمرار جاذبيتها كشريكٍ استثماري، عن توقيع 15 صفقة تبلغ قيمتها أكثر من 30 مليار دولار مع شركاتٍ في ثمانية بلدان، وهي الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، واليابان، والإمارات العربية المتحدة، وبريطانيا، وكوريا الجنوبية، والهند.
وكانت عدة صفقات على الأقل عبارة عن مذكرات تفاهم أولية، وهي أول خطوة رسمية نحو عقدٍ نهائي، لكنَّها كانت رمزية للغاية في خضم الجهود السعودية لتجنب العزلة المالية والسياسية.
واتفقت شركة النفط الفرنسية العملاقة Total في إحدى تلك الصفقات على البدء في الدراسات الهندسية لبناء مجمع بتروكيماويات. واتفقت شركات Halliburton وSchlumberger وBaker Hughes على العمل على إنشاء محطة لتوليد الطاقة من الغاز.
مستغلِّين "الموارد" الوافرة التي تمتلكها السعودية
وبذل المسؤولون السعوديون جهوداً وافرة لتذكير العالم بالموارد التي تمتلكها البلاد، بعد أن تشوهت صورتها كقوة اقتصادية حديثة في الأسابيع الأخيرة.
وخلال إحدى حلقات النقاش الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أوضح أمين الناصر، الرئيس التنفيذي لـ"أرامكو"، أنَّ قدرة السعودية على إنتاج النفط ما تزال غير مسبوقة. وقال: "يمكن الحفاظ على قدرتنا على إنتاج النفط فترة طويلة بأعلى جودة وأقل تكلفة للإنتاج؛ لأنَّ لدينا أكبر الاحتياطيات في العالم".
وحاول القادة السعوديون الذين شاركوا في مؤتمر دافوس الصحراء المالي بما في ذلك محمد بن سلمان ، أن ينأوا بأنفسهم وبشعبهم عن حادثة قتل خاشقجي.
وفي حين يدخل قادة الأعمال والوفود الحكومية على مستوى العالم إلى الفندق المحصن جيداً في الرياض، أعربت واحدة من أقوى الرؤساء التنفيذيين في السعودية وإحدى مستشارات صندوق الاستثمار العام السعودي عن تعازيها لوفاة لخاشقجي، وقالت إنَّ التقارير الخاصة بقتله المروع لا تعبر عن طبيعة بلدها.
وقالت لبنى العليان، نائبة رئيس شركة Olayan Financing Company وأول من تحدَّث في المؤتمر: "الأفعال المروعة التي ذُكرت بالتقارير في الأسابيع الأخيرة غريبة على ثقافتنا وجيناتنا".
وأضافت لبنى، وهي مليارديرة وواحدة من أكثر الأشخاص ثراءً في السعودية، إنَّها واثقة من "ظهور الحقيقة" حول مصير خاشقجي، وأنَّها تشكر الأجانب الذين شاركوا بالمؤتمر في ظل هذه الظروف. وتابعت: "أنا واثقة بأنَّنا سنصبح أقوى بعد تخطي هذه الأزمة التي حدثت في الأسابيع القليلة الماضية". وضجَّت القاعة الممتلئة بالتصفيق بعد فترةٍ ساد فيها صمتٌ مُقلق.
وتعويض النقص بحضور المزيد من السعوديين والروس والآسيويين
وقال الخبراء ممن حضروا مؤتمر دافوس الصحراء العام الماضي (2017)، إنَّه يبدو أنَّ هناك المزيد من السعوديين المشاركين هذا العام (2018)؛ ما دفع البعض إلى القول إنَّ المنظمين سارعوا لملء المقاعد الفارغة. وأشاروا إلى حضور المزيد من المديرين التنفيذيين الروس والآسيويين، ربما بغرض محاولة استغلال قلة المستثمرين الغربيين المنافسين على الصفقات.
وكان غياب وسائل الإعلام الأميركية واضحاً كذلك، حيث حلَّت التجهيزات الإنتاجية الأقل تواضعاً الخاصة بشبكتي Sky News الإنكليزية وRT الروسية محل الأضواء المبهرة لقناتي CNBC وFox Business، وهما وسيلتا الإعلام الرئيسيتان اللتان عملتا على تغطية الحدث العام الماضي (2017).
احتوى حفل المساء الخاص بالمؤتمر على مزيجٍ انتقائي من الطعام من جميع أنحاء العالم، وضمن بط بكين وقوالب حلوى جوز الهند. وكانت إحدى الأغاني التي أُذيعَت في أثناء تناول الطعام أغنية "Hotel California"، وهو اختيار غريب إلى حدٍ ما، في فندق احتُجز فيه الأمراء ورجال الأعمال العام الماضي (2017)، ولم يتمكنوا من المغادرة.
إلا أن مقتل خاشقجي كان حاضراً في مداخلات المسؤولين في مؤتمر دافوس الصحراء
وقد تحدث بعض المسؤولين السعوديين المشاركين في مؤتمر دافوس الصحراء عن خاشقجي كذلك بما في ذلك الأمير محمد بن سلمان ، إلَّا أنَّهم فعلوا دون أن يُقرّوا بمسؤوليتهم عن التوجيه بقتله، رغم تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الجديدة التي أدلى بها الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 2018، عن التخطيط السعودي لما وصفه بـ"جريمة القتل المخطط لها مسبقاً" داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.
وقال خالد الفالح، وزير الطاقة السعودي الذي وصف مقتل خاشقجي بأنَّه حادث "مقيت"، ووعد بأنَّ التحقيق سيؤدي إلى تحقيق العدالة والقصاص: "نحن مستاؤون مما حدث، من أعلى شخص في السلطة إلى أقل شخص".
وفي حين قاطع العديد من المسؤولين الأوروبيين والأميركيين المؤتمر، شارك رئيس وزراء باكستان والعاهل الأردني.