قالت صحيفة "واشنطن بوست" إنه على الرغم من قتل جمال خاشقجي الناقد البارز لولي العهد، في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري داخل القنصلية السعودية في إسطنبول على يد فريقٍ من العملاء السعوديين الذين تربطهم علاقة بأجهزة الأمن السعودية، بل وبعضهم يرتبط اسمه ببن سلمان نفسه، وذلك حسبما قال مسؤولون أتراك. إلا أن كثيرون يقفون في السعودية مع الأمير الشاب ولي العهد محمد بن سلمان (33 عاماً).
ورصدت صحيفة The Washington Post الأميركية احتشاد بعض الجماهير أمام قاعات سينما "فوكس" في مول الرياض خلال عطلة هذا الأسبوع، لابتياع تذاكر السينما ومشاهدة أفلام First Man أو Venom أو Smallfoot
ونقلت الصحيفة الأميركية تعليقات بعض المواطنين السعوديين، حول دعمهم لولي العهد السعودي، فهذه لُجان الغامدي (16 سنة) تقول إنَّها لم تكترث أي فيلم شاهدته. فقد أرادت الاستمتاع بأول زيارةٍ لها إلى السينما وحسب، وهي تجربة صارت قانونيةً في وقتٍ سابق من العام الحالي في خطوةٍ تعتبرها كرماً من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
"وقتما نفكر فيه، فإنَّنا نفكر في أنَّه شيءٌ مقدس"، كانت هذه هي الكلمات التي قالتها لُجان، بينما تحمل عيناها شبهَ رهبةٍ تبرز من فتحة النقاب الذي ترتديه.
ولم يتضاءل تبجيلها لمحمد بن سلمان بسبب الغضب الدولي من موجة الاعتقالات التي طالت خصومه السياسيين، ولا من مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، كاتب العمود في صحيفة The Washington Post.
مازال هناك داعمون كثر لولي العهد السعودي في البلاد
خالد تميمي، وهو خبير موارد بشرية يبلغ من العمر 42 عاماً كان يزور مول الرياض مع زوجته وأطفاله الثلاثة قال: "من الصعب أن تفعل كل شيءٍ على أكمل وجه في كل الأوقات".
وأضاف إنَّه ليس متأكداً من تفاصيل قضية خاشقجي. جديرٌ بالذكر أنَّ وسائل الإعلام السعودية التي تسيطر عليها الدولة سيطرةً كبيرةً تقدم نسخةً من الأحداث مؤيدةً للحكومة، وعلى اختلافٍ جذري مع ما تنشره وسائل الإعلام الأخرى في باقي العالم.
وفي بيانٍ نُشر صباح السبت، أقرت الحكومة السعودية أخيراً بأنَّ خاشقجي قُتل داخل القنصلية، وأعلنت أنها تتخذ إجراءاتٍ ضد 23 سعودياً على صلة بالحادث. لكنَّ ولي العهد لم يكن ضمن المتورطين، ويرى تميمي أنَّه ليس هناك سببٌ ليأمر محمد بن سلمان بعملية القتل، مثلما يتكهن بعض النقاد.
قال تميمي وهو يجلس بجوار عربة طفله: "من أنا كي أحكم على الأمر؟ إنَّني أحبه. إنَّه شاب ويستوعب احتياجاتنا. لقد قام بأشياء جيدة من أجلنا في السعودية".
وحتى إذا كانوا مذهولين بالانعكاس المفاجئ من جانب الحكومة، التي أصرت مراراً وتكراراً لأكثر من أسبوعين على أنَّ خاشقجي غادر القنصلية حياً، فإنَّ قليلاً من السعوديين يمكن أن يكونوا جريئين بما يكفي لانتقاد قادة البلاد علناً، وخاصةً ولي العهد.
رغم ما قام به ولي العهد من سحق كل صور الاحتجاج والمعارضة ضده في المملكة
فضلاً عن إعادة الهيكلةِ الاجتماعيةِ التي يقودها بن سلمان، ولَّد وليُ العهد الشاب مستوىً غير مسبوقٍ من الخوف بين هؤلاء الذين يعارضونه. فقد سحق بقوةٍ، وأحياناً بدمويةٍ، حتى أبسط صور الاحتجاج والمعارضة، واعتقل عشراتٍ من الأشخاص خلال العام الماضي لأشياءٍ لا تتجاوز انتقاد الحكومة، حسبما تقول مجموعات حقوق الإنسان.
وقال كثيرٌ من السعوديين الذين أُجريت معهم مقابلاتٌ إنَّ النشطاء كان لديهم دائماً هامشٌ لانتقاد الحكومة، بالرغم من أنَّ هذا الانتقاد ربما لا يكون موجهاً إلى العائلة الملكية. أما الآن، قال هؤلاء في عديدٍ من المقابلات التي أجريت في الأيام الأخيرة إنَّ الناس خائفون من طرح تساؤلاتٍ ولو بسيطةٍ حول ولي العهد أو سياساته، وحتى إن كان ذلك من خلال وسائل الاتصال المشفرة.
وفي ساعةٍ مبكرة من أمس السبت، مسح أكاديمي كان يتواصل مع أحد مراسلي صحيفة The Washington Post بشأن قضية خاشقجي جميع رسائله بعد ثوانٍ معدودةٍ كي يتأكد من عدم وجود أي سِجِّلٍ يمكن لمسؤولي الحكومة اكتشافه.
وفي وقتٍ لاحق من اليوم، وداخل مول الرياض، كان أقوى انتقاد ضد بن سلمان، أو ربما الوحيد، من عبد الله، وهو رجل أعمال يبلغ من العمر 40 عاماً، يرتدي عباءةً بيضاء طويلةً وحذاء ركضٍ بلون قريبٍ من الأخضر. قال عبد الله إنَّه يعتقد أنَّ اختلاط الرجال والنساء في دور السينما فكرةٌ سيئةٌ لا تتماشى مع الثقافة السعودية المحافظة.
رفض عبد الله أن يقول اسمه الثاني أو يتحدث عن قضية خاشقجي، وقال إنَّه ليس على درايةٍ كافيةٍ بالتفاصيل.
لكنَّه كان واضحاً أنَّه أياً كانت نتيجة القضية فإنَّ لدى السعوديين واجبٌ بالاحتشاد خلف قادتهم، ولا سيما في الأوقات التي تُدان فيها البلاد من الخارج.
وقال عبد الله، بينما يقف بالقرب من لعبة فيديو جيم Deal-No Deal: "مهما كان ما يفعلونه، فإنَّنا نعلم أنَّه الأفضل لنا".
وأضاف: "يجب علينا أن نتحد مع حكومتنا. نعلم أنَّ بلادنا تحتاج إلينا أكثر من أي وقتٍ مضى. حكومتنا تمنحنا الكثير. وهذا أقل ما يمكن أن نفعله من أجلهم
وتنتشر حملات الدعم للسلطات السعودية بشكل مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي
يُعزَى جزء من مواصلة دعم بن سلمان إلى الحملات الشرسة المؤيدة للحكومة على موقع تويتر ووسائل الإعلام السعودية. وألقت تقارير إخبارية حديثة نُشرت في وسائل الإعلام المحلية باللائمة في مقتل خاشقجي على مؤامراتٍ من أعداء المملكة وخصومها: تركيا وإيران وقطر.
وإحدى الخرافات التي تكررت بلا نهاية على تويتر تقول إنَّ قطر تمتلك 50 % من صحيفة The Washington Post، مفسرةً بذلك تغطية الصحيفة للقضية.
ووصف مقالٌ آخر نُشر خلال الأسبوع الماضي بالعربية في صحيفة عكاظ وبالإنكليزية في صحيفة Saudi Gazette حادث خاشقجي بأنَّه "مسرحية كوميدية.. أشغل بها الأذناب والمرتزقة المجتمع الدولي.. لتشويه سمعة المملكة دولياً". ووصفهم المقال بـ"مجرد طفيلياتٍ، دورة حياتها قصيرة جداً". وكان عنوان المقال: "ستنتهي المسرحية ويضحك السعوديون!" حسبما قالت الصحيفة الأميركية.
وبعد الإعلان الرسمي الذي يُقر بمقتل خاشقجي في القنصلية، حاولت كثيرٌ من التغريدات والتقارير الإعلامية في المملكة حشد الناس خلف الحكومة.
وقد بدا أنَّ الإعلان الرسمي ينوي إبعاد الأمير محمد وأبيه الملك سلمان عما قام به الأشخاص الثمانية عشر المشتبه فيهم في هذه القضية.
وجاء في تغريدة: "إذا خان 18 شخصاً الملك، فالملايين الثلاثون الآخرون لن يفعلوا"، ليسيروا على النسخة الرسمية من الرواية التي تشير إلى أنَّ الأشخاص الثمانية عشر لم يتحركوا نيابةً عن ولي العهد أو الملك.
ويفضل السعوديون دعم ولي العهد على انتظار المجهول إذا تمت الإطاحة بالعائلة الملكية
كان الجمهور في مول الرياض في غالبيته من شباب الحضر، وهي نوعية الأشخاص التي تشكل جوهر الدعم لبرنامج بن سلمان المسمى "رؤية 2030″، الذي يستهدف إجراء إعادة هيكلة اقتصادية واجتماعية تَضَمَّنت السماح للنساء بقيادة السيارات لأول مرة، والسماح بافتتاح دور السينما ووسائل الترفيه الأخرى، وخلق مزيدٍ من فرص العمل. لذا فإنَّ أصواتهم ستكون مؤثرة في بلدٍ تقل أعمار 60 في المائة من سكانه عن 30 عاماً.
وقال أحد الدبلوماسيين الغربيين المتقاعدين من أصحاب الخبرة الواسعة بالشأن السعودي إنَّ السعوديين المنتمين إلى التيارات الدينية المحافظة وقاطني القرى هم من يميلون إلى معارضة ولي العهد، فهم لا يمرون بأفضل أوقاتهم في عهد ولي العهد الحالي. وربما يودون أن تتسبب قضية خاشقجي في إزاحته عن منصبه، ويشاركهم كذلك نفس الرغبة الأمراء السعوديون الذين قُيِّدَت امتيازاتهم الفخمة بسبب تغييرات محمد بن سلمان.
ومع ذلك يعتقد هذا الدبلوماسي أنَّ معظم السعوديين يفضلون الاستقرار على المجهول الذي سينتظرهم إذا أُطيح رأس العائلة الملكية.
وأضاف: "إن عُزل محمد بن سلمان عن منصبه، فسيذهب كل التحرير والإصلاح الاقتصادي هباءً"، وأصر الدبلوماسي على عدم الكشف عن هويته لمناقشة مصير ولي العهد السعودي، وهو الأمر الذي يخشى الكثيرون ذكره علانيةً.
وأضاف الدبلوماسي أنَّه على الرغم من أنَّ تداعيات قضية خاشقجي ربما تؤثر على سمعة ابن سلمان في الخارج، إلا أنَّ كثيراً من السعوديين الذين يتمتعون بأسلوب حياة مريح اعتماداً على أرباح البترول سيستمرون في دعمه.
ويقول الدبلوماسي: "حتى وإن أُثبِتَ أنَّ محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي، فإن معظم الطبقة الوسطى السعودية لن تكترث إذا لم ترحب به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عند لقائهما، وبدلاً من ذلك سيقول السعوديون: نشعر بالأسى، لم يكن يجب أن يحدث ذلك، لكن أيضاً لم يكن يجب أن يحدث التعذيب والقتل في معتقل غوانتامو أو سجن أبو غريب، لن ننسى كل ذلك من أجل مقتل صحافي واحد".
وصرحت جماعات حقوقية أنَّ مقتل خاشقجي كان المثال الأحدث والصارخ على قمع الحكومة حتى لأبسط أشكال المعارضة الهادئة المتعقلة. فتحت لواء محمد بن سلمان، اعتقلت السعودية عشرات المعارضين خلال العام الماضي، ما زال محتجزاً منهم عددٌ من نشطاء حقوق المرأة.
وتقول دانا أحمد، وهي متخصصة في الشأن السعودي بمنظمة العفو الدولية: "القمع وصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، الناس مرعوبون".
وقالت دانا إنَّها تعيش في بيروت بسبب رفض الحكومة السعودية حصول منظمة العفو الدولية على مكتب على أراضيها، وأضافت أنَّ اعتقالات العام الماضي قد سببت الرعب لمن تعرفهم في المملكة فلم يعد بمقدورهم الاتصال بها.
وعقبت: "هذا يرسل إشارةً مقلقة للمعارضين بالداخل والخارج، فبمقتل خاشقجي، وكأنَّ الحكومة تخبرهم أنَّهم لن يكونوا في مأمنٍ منها، وستستطيع الوصول إليهم في أي مكان".
وأضافت أنَّ الإعلام السعودي يسعى إلى تصوير المنظمات الدولية مثل منظمتها على أنَّهم الأعداء الذين يحاولون تدمير سمعة البلاد.
وخارج سينما فوكس، كان من الواضح التأثير الإعلامي على بعض الموجودين.
إذ قالت نور (21 عاماً)، وهي طالبةٌ جامعية تدرس التمويل ورفضت ذكر اسمها الأخير، إنَّ الإعلام العالمي والحكومات الأجنبية يهاجمون محمد بن سلمان هجوماً ظالماً. وأضافت: "لا توجد حقائق ثابتة أو دلائل أو إثباتات على ذلك".
وصرَّحت برجيت التركي (50 عاماً)، التي أحضرت أبناءها الأربعة لمشاهدة فيلم في السينما لكنَّ التذاكر كانت قد نفدت: "لماذا يهاجمنا الجميع؟".