وجدت المملكة العربية السعودية نفسها منعزلة أكثر في أعقاب اختفاء جمال خاشقجي بعدما أدار عالم الأعمال والتجارة ظهره عن مؤتمر استثماري رفيع المستوى في المملكة، وادعى مسؤولون من الولايات المتحدة حسب صحيفة The Guardian البريطانية وجود تسجيلات صوتية ومرئية للحظة التي قُتِل فيها الصحفي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.
سرعان ما تحول مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار المزمع انعقاده في الرياض في وقت لاحق من الشهر الجاري، أكتوبر/تشرين الأول، إلى فشل ذريع في يوم الجمعة 12 أكتوبر/تشرين الأول بعدما انسحب معظم الشركاء الإعلاميين وحلفاء عديدون من كبار رجال الأعمال. وكان من المتوقع أن يتبعهم المزيد. قالوا جميعاً إنهم انزعجوا من ظروف اختفاء خاشقجي من السفارة السعودية في إسطنبول، وغياب الاستجابات الموثوقة.
زادت الضغوط على المملكة السعودية لتفسير ما حدث لخاشقجي بعد دخوله مبنى القنصلية الساعة 1:41 ظهراً يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول. وزعمت تركيا أن الصحفي المنفي والمعارض لولي العهد محمد بن سلمان قُتِل على يد فرقة اغتيالات أرسلتها الرياض. وأشارت السلطات في إسطنبول إلى أنهم وجدوا دليلاً لم يُكشَف عنه بعد يثبت ما حدث.
الجمعة، كشف مسؤولون أميركيون لصحيفة The Washington Post الأميركية، حيث عمل خاشقجي، أن المحققين الأتراك زعموا وجود تسجيلات صوتية ومرئية لحوارات بين المفقود البالغ من العمر 59 عاماً وقاتليه المزعومين.
وقال أحد المسؤولين: "يمكنك سماع صوته وأصوات رجال يتحدثون العربية". وأضاف: "يمكنك أن تسمع كيف كانوا يستجوبونه، ويعذبونه، ثم يقتلونه بعد ذلك". قد يكون مصدر هذه التسجيلات هو أن ضباط الاستخبارات التركية زرعوا أجهزة تنصت في القنصلية أو في بعض القتلة المتهمين.
الساعة الذكية والوداع الأخير لخطيبته
قالت خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي التركية، لوكالة أنباء Associated Press الأميركية الجمعة، إن خاشقجي كان يرتدي ساعة ذكية من إنتاج شركة آبل عندما دخل القنصلية وكان المحققون يفحصون، بواسطة هذه الساعة، هاتفه الخلوي الذي تركه معها.
وقالت خديجة في رد مكتوب على أسئلة Associated Press إن السلطات التركية لم تخبرها أي شيء بخصوص أي تسجيلات، وإن خاشقجي رسمياً "ما زال مفقوداً". وأضافت خديجة إن خاشقجي لم يكن متوتراً عندما دخل إلى القنصلية السعودية ولم يشك في أنه قد يحدث له أي شيء سيئ، إذ قالت: "لقد قال لي: "أراكِ قريباً يا عزيزتي" ودخل إلى القنصلية"، وكانت هذه آخر كلماته لها. كان من المخطط أن يعيشا بين إسطنبول والولايات المتحدة، حيث كان يعيش خاشقجي في منفى اختياري منذ 2017.
كانت أنقرة والرياض تشكلان فريق تحقيق مشتركاً، وقال المسؤولون الأتراك إنهم سيمنحون المملكة مهلة حتى السبت 13 أكتوبر/تشرين الأول للموافقة على الشروط.
الجيل القديم في السعودية يتصدر
بينما استمرت المباحثات الجمعة، أرسل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، المسؤول الملكي الكبير خالد الفيصل لمقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. واعتُبِرَت هذه الحركة محاولةً لإعادة تقديم الجيل القديم، التي تمكنت المملكة معهم من ممارسة نفوذها في المنطقة قبل ظهور ولي العهد ذي الثلاثة والثلاثين عاماً والحاكم الفعلي محمد بن سلمان.
الجمعة أيضاً، أطلقت المحكمة التركية سراح قس أميركي أجَّج احتجازه بتهم الإرهاب نزاعاً مريراً بين واشنطن وأنقرة. وأثار إطلاق السراح المفاجئ لأندرو برونسون شكوكاً بأن تركيا تسعى لكسب الدعم الأميركي في مواجهتها في قضية خاشقجي.
تقول صحيفة The Guardian البريطانية إن جون بولتون، مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة، بدا متشكِّكاً في الرواية التي أدلت بها تركيا حول الأحداث المحيطة باختفاء خاشقجي، مشيراً إلى هذا لأن تركيا والسعودية طالما كانتا خصمَين تاريخيَّين، فربما حدثت "عملية" أخرى.
قال بولتون للمذيع الإذاعي اليميني هيو هيويت: "أتعلم، بكل صدق، نحن فقط لا نعلم ما هي الحقائق". وأضاف: "هذه كانت من ضمن النقاط التي أوضحتها لولي العهد. نحتاج لاستكشاف الحقائق، ونحتاج لحل هذا بسرعة، لأنها لو كانت عملية جديدة، فالناس يحتاجون لفهم هذا".
وتابَع قائلاً: "أعتقد أن السعوديين أنفسهم متضررون، لأننا لم نستخرج الحقائق. من الواضح أن هناك خصومةً تاريخية بين تركيا والمملكة السعودية. ونحن نواجه بعض الصعوبات مع تركيا الآن".
وفي وقت سابق من يوم الجمعة استحثت خديجة، خطيبة خاشقجي، دونالد ترمب على موقع تويتر لاستخدام نفوذه لمعرفة ما حدث. إذ كتبت: "ماذا عن جمال خاشقجي؟"، في ردٍ على تغريدة لترمب قال فيها إنه "يعمل جاهداً" لإطلاق سراح برونسون، القس الأميركي.
وفي حين انسحبت مجموعات تجارية من مؤتمر الرياض، قال ستيف منوتشين وزير الخزانة الأميركي إنه ما زال ينوي الحضور.
اشتعلت التعليقات بعد ذلك بأن علاقة واشنطن القريبة من الرياض قد تلقي بظلالها على التحقيقات.
تعهد دونالد ترمب الجمعة بمهاتفة الملك سلمان شخصياً حول "الموقف المُروِّع في تركيا".
وعندما سأله الصحفيون في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو، حيث كان يتزعم مؤتمراً سياسياً حاشداً، قال متعهداً: "سنكتشف ما حدث".
كان ترمب في ما سبق قد ربط صراحةً بين ردوده على الادعاءات وصفقات أسلحة واشنطن مع الرياض التي تساوي 110 مليارات دولار. ترتبط أنقرة أيضاً بالرياض بروابط تجارية وسياسية كبيرة تجعل خصومتها مع الأخيرة خصومةً حذرة.
دعا وزير الخارجية البريطاني السابق، السير مالكولم ريفكند، بريطانيا لفرض عقوبات على المملكة العربية السعودية، من جانبٍ واحد إذا لزم الأمر، على خلفية اختفاء خاشقجي. وقال في برنامج Newsnight الذي يُعرَض على شبكة BBC: "إذا كان ولي العهد الحالي سيبقى في السلطة إلى أجل غير مسمى، يجب على المملكة المتحدة في المقام الأول أن تعمل مع الولايات المتحدة وفرنسا والدول الأخرى ليروا إذا كان هناك ردٌ مشترك، أو عقوبة من نوع ما، أو جزاءات من نوع ما".
وأضاف: "إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية لا ترغب في المشاركة، فعلى المملكة المتحدة أن تفكر في فعلٍ تنفذه على مسؤوليتها وباسمها".
العزوف الظاهر عن المؤتمر مزعجاً للزعماء السياسيين في السعودية
تعتمد خطة السعودية الطموحة "رؤية السعودية 2030" تحت رعاية محمد بن سلمان اعتماداً قوياً على الاستثمارات الخارجية، وسيكون العزوف الظاهر عن المؤتمر مزعجاً للزعماء السياسيين في السعودية مثله مثل التهديد الأبعد الذي فرضه الكونغرس الأميركي على مستقبل صفقات الأسلحة.
قالت بعض الشركات إن انسحابهم من المؤتمر المزمع انعقاده يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول مرهون بما ستسفر عنه التحقيقات، بينما يوجد آخرون لا يربطون قرارهم بأية شروط.
أعلن جيم يونغ كيم، رئيس البنك الدولي، أنه لن يحضر، بعد وقت قصير من إعلان صحيفة The Financial Times البريطانية وشبكة CNN الأميركية انسحابهم من دورهم كرعاة إعلاميين، وانسحب كل مذيعي CNN من الحدث. وانسحبت أيضاً وكالة Bloomberg الأميركية.
سحبت صحيفة The New York Times الأميركية رعايتها منذ يومين، مما استحث موجةً من الانسحابات حول العالم، ومن بينهم المذيعة أريانا هافنغتون، ومالك صحيفة Los Angeles Times الدكتور باتريك سون شيونغ، ومذيع قناة CNBC الأميركية أندرو روس سوركين.
وعلى جانب الشركات، أعلن السير ريتشارد برانسون وشركة Viacom الأميركية انسحابهم، مثلما فعلت شركة أوبر، التي يملك صندوق الاستثمار السيادي للمملكة جزءاً منها.
وقال دارا خسروشاهي، المدير التنفيذي لشركة أوبر، أنه لن يحضر "إلا إذا ظهرت مجموعة مختلفة تماماً من الحقائق".
كريستين لاغارد، رئيسة صندوق النقد الدولي، مُدرَجةٌ كمُتحدِّثةٍ في المؤتمر، ولكن جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي، لم يقل إذا كانت لاغارد ستحضر أم لا. قال أزعور: "مثل معظم الناس هنا وفي كل مكان، نحن ننتظر للحصول على المزيد من المعلومات في هذا التطور الأخير".
أشار المنظمون إلى أن المؤتمر سيستمر لأن التكلفة السياسية طويلة الأجل للإلغاء ستكون أكبر من الإحراج الناتج عن ضعف الإقبال.