عانى من الانقسام والمجاعات وتغنَّى بالنمط الأوروبي بعد الاستقلال رغم سيطرة القوى الخارجية.. هكذا نشأ لبنان كما نعرفه

قبل 98 عاماً، أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير. انقسم اللبنانيون وانقسمت التيارات السياسية والثقافية. وبعد نحو قرن من ذلك الإعلان، ما زال اللبنانيون يبحثون عن هوية موحَّدة.

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/18 الساعة 16:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/18 الساعة 16:41 بتوقيت غرينتش

قبل 98 عاماً، وتحديداً في سبتمبر/أيلول 1920، أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير. انقسم اللبنانيون بين عروبيين ومنفتحين على الغرب، انقسمت التيارات السياسية والثقافية. وبعد نحو قرن من ذلك الإعلان، ما زال اللبنانيون يبحثون عن هوية موحَّدة.

بعد إعادة ترسيم الحدود بين البلاد التي كانت خاضعة لحكم الدولة العثمانية، قرَّر غورو جعل بيروت عاصمة للدولة اللبنانية الحديثة، وتمثل علم الدولة في دمج علمي فرنسا ولبنان معاً.

وُصفت الدولة الجديدة باسم لبنان الكبير، وذلك بعد إضافة البقاع وبعض القرى في عكار إلى المنطقة التي عرفت على مدار التاريخ باسم متصرفية جبل لبنان الذاتية الحكم، التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية.

فور الإعلان عن الدولة الجديدة، أعلن الفرنسيون الانتداب على دولة لبنان الكبيرة، وذلك بحجة تدريب اللبنانيين على حكم أنفسهم.

تحت الحكم العثماني.. حصار ودمار ومجاعة

سيطرت الدولة العثمانية مطلع القرن السادس عشر خلال عام 1516 على جميع أراضي منطقة الشام، واستمرَّت سيطرتها قرابة الـ400 عام.

وخلال عام 1861 منح العثمانيون جبل لبنان من دون بيروت والبقاع ومنطقتي طرابلس وصيدا استقلالاً إدارياً، وذلك بموجب القانون الأساسي الذي أُصدر بموافقة الدول الأجنبية.

عُدل القانون خلال عام 1864، وضمَّ جبل لبنان بموجب النظام الأساسي 7 أقضية، وهي البترون وكسروان والشوف والمتن وجزين والكورة وزحلة ومديريتي الهرمل ودير القمر، وأُلحقت بيروت وطرابلس بولاية سوريا، وضمَّت الدولة العثمانية منطقة البقاع إلى وادي دمشق.

وخلال الحرب العالمية الأولى تعرَّض جبل لبنان لمجاعة كبرى بداية من عام 1915 وحتى عام 1918.

راح ضحية تلك المجاعة حوالي 200 ألف لبناني، أي ثلث سكان لبنان آنذاك، بسبب غزو الجراد الذي دمَّر الكثير من المحاصيل الزراعية. تلاه الحصار البحري الذي فرضته دول الحلفاء على لبنان من أجل منع دخول السلع الغذائية القادمة من مصر في يد القوات العثمانية والألمانية.

ولكن ظل السبب الرئيسي وراء تلك المجاعة متجسداً في الحصار البري الذي فرضه الحاكم العثماني جمال باشا على لبنان، فقد منع دخول القمح تحديداً إلى جبل لبنان.

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، التي نتج عنها سقوط الإمبراطورية العثمانية، تم الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا بموافقة روسيا على تقسيم المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية، وهي لبنان وسوريا والعراق وفلسطين إلى مناطق تخضع للسيطرة البريطانية، وأخرى للسيطرة الفرنسية بموجب اتفاقية "سايكس بيكو" السرية التي أُبرمت العام 1916.

الوجود الفرنسي يخلق صراعاً طائفياً

أفرزت مرحلة الانتداب الفرنسي الكثير من الانقسامات داخل المجتمع اللبناني، التي انبثقت عن تناقضات مجتمعية فرضها الصراع الطائفي السياسي بين أبناء المجتمع اللبناني، الذين انقسموا إلى اتجاهين؛ اتجاه المسلمين الذي ضمّ مسلمي الساحل وبعلبك والقاع وراشيا وحاصيبا، وهؤلاء كانوا يهدفون إلى تحقيق الاستقلال الكامل والتخلص من الاحتلال الأجنبي الفرنسي.

أما الاتجاه الثاني فقد تمثَّل في المسيحيين، وكان يضم سكان جبل لبنان، وكان هدفهم الاستقلال، ولكن في ظل حماية فرنسية وضمان فصل لبنان عن باقي المنطقة.

وسرعان ما اندلع الصراع بين الاتجاهين داخلياً وخارجياً، ففي الداخل اندلعت المظاهرات احتجاجاً على الاحتلال الفرنسي، التي خرجت في بيروت ترفع علم الدولة العربية الشريفية، وفي الخارج شارك وفود من لبنان في المؤتمر السوري المنعقد في باريس عام 1920 برئاسة الأمير فيصل بن الشريف حسين.

ما بعد الخروج العثماني.. نحو ثقافة الترفيه التي تحاكي الأنماط الأوروبية

الحقيقة أن الصراع بين الطوائف اللبنانية لم يقتصر على الناحية السياسية، فقد امتد إلى الحياة الثقافية؛ فالطوائف اللبنانية لا تزال حتى الآن تختلف حول مفهوم الهوية اللبنانية.

إذ تعترف بعض الطوائف بالسمة العربية للبنان، في حين يعتبر البعض الآخر أن لبنان دولة تعددية مستقلة ولها خصوصيتها الثقافية. وهناك اتجاه ثالث يعتبر لبنان امتداداً للغرب، وربما يعود هذا الاختلاف السائد في المنظور الثقافي إلى أن الحياة الثقافية في لبنان تميزت بدينامية مستقلة عن السياسات الرسمية، وظلت لصيقة لحركة المجتمع والفكر في لبنان، التي جاءت نتاجاً للاختلاف السياسي بين الطوائف اللبنانية.

بعد الانتداب الفرنسي شهدت بيروت وجبل لبنان تحولاً نحو ثقافة الترفيه التي تحاكي الأنماط الأوروبية، كما دخلت السينما والمسرح إلى حياة المدينة وانجذب العديد من المثقفين اللبنانيين إلى فكرة النهضة والتقدم الاجتماعي. كما أطلقت عائلات اجتماعية لبنانية مرموقة دعوات تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي.

ومن جهة أخرى دخلت الأيديولوجيات المتصارعة في أوروبا إلى لبنان من الاشتراكية إلى النازية، والتي تجلّت بوضوح في كتابات المثقفين اللبنانيين.

وفي سياق متصل دعا المثقفون المسيحيون اللبنانيون إلى الفكر العلماني، وخلال تلك المرحلة ظهرت ثقافات الطوائف الأخرى في الساحة الثقافية اللبنانية مثل الأكراد والأرمن والأشوريين، التي تفاعلت مع الثقافات المحلية وتمخض هذا التفاعل عن نشاط ثقافي مستقل، لم يعتمد على سياسات الدولة الثقافية في مرحلة ما بعد الاستقلال.

بعد الاستقلال.. القرارات ليست في "يد الوطن"

استقلت دولة لبنان رسمياً في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، وذلك بعد الانتخابات التي جرت بين الكتلة الوطنية الموالية لفرنسا والمؤيدة لعزل لبنان عن الدول العربية برئاسة أميل إدّة، والكتلة الدستورية برئاسة الشيخ بشارة الخوري، التي كانت موالية للإنكليز ومؤيدة للتعاون مع الدول العربية.

قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب يسلّم علم البلاد للرئيس بشارة الخوري في الاحتفالية الأولى لاستقلال لبنان
قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب يسلّم علم البلاد للرئيس بشارة الخوري في الاحتفالية الأولى لاستقلال لبنان

وبعد صراع شديد بين الكتلتين، فازت الكتلة الدستورية، وفي 21 سبتمبر/أيلول 1943، انتخب النواب الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية اللبنانية، الذي كلّف رياض الصلح بتأليف أول حكومة استقلالية في لبنان.

وأثناء الجلسة التي عقدها مجلس النواب اللبناني من أجل الاستماع إلى بيان الحكومة أعلن رياض الصلح بوصفه رئيساً للحكومة اللبنانية أن "لبنان وطن ذو وجه عربي، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب، إن إخواننا في الأقطار العربيّة لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً".

وحتى يومنا هذا يستمر لبنان ساحة لصراع جيرانه

ومنذ استقلاله، تمثل الساحة اللبنانية الداخلية مسرحاً للصراعات الإقليمية والدولية، إلى درجة أن استقرار لبنان أضحى مرتبطاً بالتوازنات الإقليمية والدولية داخله.

ففي الوقت الذي تدعم فيه إيران حزب الله الشيعي، وتمده بالسلاح اللازم من أجل تنفيذ مطالبها وإحكام قبضتها على لبنان، فإن السعودية تفعل الأمر نفسه مع حلفائها السنة، المتمثلين في تيار المستقبل وسعد الحريري.

وعليه فإن كل طائفة في لبنان تستقوي بدولة من الخارج من أجل أن تدعمها، وذلك لكي تثبت وجودها في مواجهة الأحزاب الأخرى، وهذا ما يجعل القرار الفيصل في الكثير من القضايا اللبنانية الهامة في يد التوافقات الخارجية، وليس انعكاساً لإرادة الدولة اللبنانية.

وتجدر الإشارة إلى أن النظام الطائفي اللبناني غذّى بشكل كبير التباعد بين أبناء المجتمع الواحد، وساهم في ضرورة الاحتماء بالخارج من أجل ضمان الأمان والاستقرار. ومن خلال الهواجس المذهبية، أدارت الدول الخارجية مصالحها من شوارع بيروت، ليدفع ثمن صراع القوى الإقليمية اللبنانيون كل يوم.

علامات:
تحميل المزيد