إذا أردت أن تعرِف مَن يحظى بالنفوذ هذه الأيام في الشرق الأوسط، فليس عليك سوى التمشية من وقتٍ لآخر بين أشجار شوارع مناطق العاصمة المصرية القاهرة، هكذا يرى موقع The Daily Beast الأميركي، خريطة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من 200 سنة، لما تمثله العاصمة المصرية من ثقل في الشرق.
الموقع الأميركي دلَّل في تقرير قبل أيام، على المكانة التي تحوزها بعض الدول الكبرى في الشرق من خلال حجم سفارتها في العاصمة المصرية، التي تعتبر بوابة العالم لمنطقة الشرق، على مدار 200 سنة.
15 شخصاً يقطنون 12 طابقاً.. ماذا يفعلون بها؟
وبحسب الموقع الأميركي فإنك أينما ولَّيت وجهك في منطقة الدقي المُطلَّة على النيل في العاصمة المصرية القاهرة، ستجد سفارة جمهورية التشيك تلوح في الأفق كظلٍ مستطيلٍ ضخم. وإذ تطُل بارتفاع 12 طابقاً مِن داخل مجمَّعٍ سكني مترامي الأطراف، يتضمَّن نحو ألف غرفة، يهيمن مرأى السفارة على المشهد كلما دنوت أكثر من جامعة القاهرة.
بالنسبة للدبلوماسيين المقيمين بالسفارة البالغ عددهم نحو 15 فرداً، الذين يقطنون ما قد يُعَد على الأرجح السفارة الأكبر بالعاصمة المصرية، قد يُمثِّل مجرَّد شَغل مساحة مقرَّ عملهم بحجمه الكبير إلى حدِّ السخف تحدياً في حد ذاته. لكنَّهم تقريباً نجحوا في ذلك، إذ يؤجِّرون طوابق كاملة من البناية لطلابٍ دارسين للَّغات، ورجال أعمال زائرين، وعلماء آثار.
ومع ذلك، عندما بُنِي هذا الصرح في سبعينيات القرن الماضي ليكون سفارةً لدولة تشيكوسلوفاكيا، بدت تِلك الضخامة مبرَّرة. كانت براغ إحدى أكبر مورِّدي السلاح إلى مصر في الخمسينيات والستينيات (كان يُنقل معظمه من خلال موسكو)، وكانت وقتها مصدراً أساسياً لحصول مِصر على الماكينات الزراعية والخبرة الصناعية على مدار السبعينيات والثمانينيات. وعلى مدار عشرات الأعوام من الشراكة العسكرية والاقتصادية بين الدولتين، لم يكن هناك ما يجعل مخطِّطي البناء التشيكيين يتوقَّعون حدوث أي شيءٍ، مثل انهيار الاتحاد السوفييتي مثلاً، أو انقسام دولتهم نفسها، قد يُبطِل الحاجة لمقرٍّ عملاق بالقاهرة. وقال رمزي أبو عيد، وهو نائب السفير التشيكي في مصر: "آنذاك كان عدد القائمين على السفارة كبيراً، إذ عَمِل هنا نحو 100 موظَّفٍ بالسفارة. هذه الأيام الأمور مختلفة كما هوَ واضح"، بحسب الموقع الأميركي.
السلطة دائمة التبدل
لم يكونوا وحدَهم مَن وقعوا ضحية تيارات السلطة دائمة التبدُّل. ومنذ أُرسِيَت الأعراف الدبلوماسية المعاصرة رسمياً منذ نحو 200 عام، كثيراً ما سَعَت الدول لعَرض نفوذها أو اهتمامها بالدولة المُضيفة من خلال انتقاء مبانٍ مهيبة لسفاراتها. وكلما كانت أكبر وفي مكانٍ أبرز، كانت صورة الدولة أكثر إثارةً للإعجاب، هكذا كان منطق السفارات. بدءاً من المقرَّات البريطانية في واشنطن وفي نيودلهي التي صمَّمها السير إدوين لوتيينز، وحتى السفارات الروسية الضخمة العائدة للحقبة السوفييتية، والموجودة بكثرة في دول حِلف معاهدة وارسو، دائماً ما كانت الدول تتبع النهج ذاته.
ومع ذلك، وبقدر ما يمثُّله افتتاح مقرَّاتٍ مهيبة جديدة من دلالةٍ تشير لأصحاب النفوذ، فإنَّ كذلك تقليص عمالة السفارة أو الانتقال لمقرِّ أقل بهاءً قد يدُل أحياناً على تضاؤل مكانة الدولة صاحبه السفارة في البلاد. ولربما لم تشهد مدينةٌ في العالم سفاراتٍ "معبرة" أكثر من القاهرة، بحسب الموقع الأميركي.
وبصفتها أكبر عواصم الشرق الأوسط وأكثرها أهميةً تاريخية، كانت القاهرة دائماً محط اهتمام كبار الأطراف الضالعة في المنطقة. لدرجة أنَّه بعد مرور قرنٍ كامل تخلَّلته بعض المناوشات الجيوسياسية، أصبحت سفارات القاهرة تمثِّل نوعاً من التسلسل الزمني، منقوشاً على الطوب والإسمنت، يحكي "مَن له الكلمة" ومن خسر نفوذه، وتداوُل الأيام في العالم العربي.
وقال سفيرٌ بارز من دولةٍ غربية في القاهرة للموقع الأميركي شارحاً: "لم تكُن الدول دائماً متحفظةً في تعبيرها عن نفوذها. بالنسبة للبعض، ما زال يُنظَر للسفارات على أنَّها إحدى أفضل طُرق التباهي بين الدول".
بريطانيا صاحبة أول نفوذ في القاهرة
كان البريطانيون هُم مَن أطلقوا أوَّل طلقةٍ عام 1892 في سباق تسلُّح السفارات بالقاهرة. وإذ كانت بريطانيا آنذاك تحتلّ مصر منذ الثمانينيات، قرَّر ممثِّل بريطانيا آنذاك، السير إيفيلين بيرينغ (الذي كان يُلقَّب بالجبَّار في إشارةٍ لأساليبه المتسلِّطة)، أنَّ بلاده بحاجةٍ لمبنى يليق أكثر بسيادتها الإقليمية، مِن مقر الوَفد المزدحم في وسط البلد. وعند سماعه أنَّ الحديقة المسوَّرة الخاصة بقصرٍ ملكي قديم مطل على النيل جنوب ما يُعرَف الآن بميدان التحرير كانت معروضةً للبيع، تحصَّل بيرينغ عليها فوراً، وكلّف ببناء قصرٍ خلَّاب وسط الحديقة الفسيحة ومعها مرفأ على النيل ومولِّد كهربي يعمل بالبخار خاص بالقصر وحده. وحتى عام 1952، كان يجري التدخل في الشأن المِصري على نحوٍ مكثَّف من داخل جدران السفارة البيضاء العالية.
تلت ذلك على مدار عشرات السنوات التالية سلسلةٌ من السفارات الأوروبية الفَخمة على نحوٍ مشابه لنظيرتها البريطانية، وكان كلٌّ منها يعكس بشكلٍ أو بآخر مصالح حكومته في الشرق الأوسط. تابع السفير الفرنسي حصَّة بلاده في قناة السويس مِن داخل عقارٍ شاسع بالجيزة، وكان مالكه الأرستقراطي الأسبق قد فاز بملكية العقار في لعبة قمار.
وكلَّف موسوليني مهندساً معمارياً شاباً ببناء سفارةٍ مبهرجة من حجرٍ ورديّ اللون في عام 1927 على قطعة أرضٍ مثلثة على ضفَّة النيل تقع جنوب السفارة البريطانية مباشرة، وكان في ذلك وقتها نوعاً من الدلالة عندما كان موسوليني يسعى آنذاك لإقامة أوَّل مستعمرة إيطالية في إفريقيا. ولأنَّه أراد ألَّا يغلبه أحدٌ في بلد الأزهر، منارة العِلم الإسلامي السنِّي، انضم الفاتيكان كذلك لرَكب السفارات، إذ شيَّد نسخةً مطابقة لقصور فلورنسا في منطقة جزيرة الزمالك ميسورة الحال، بحسب الموقع الأميركي.
وقال سفير دولةٍ غربية أخرى: "ساد الأوروبيون، ومن خلال الامتيازات الخاصة الممنوحة لهم، وسفاراتهم، ووجودهم العسكري في بعض الحالات، لم تكن سيادتهم أمراً يمكنك نسيانه".
هذا الوضع لم يستمر
لكن لم يكن مقدَّرا للتفوُّق الأوروبي ولبعض هذه البنايات الفاخرة أن تبقى للأبد. وفيما تداعَى النفوذ الاستعماري بدءاً من عام 1945 فصاعداً، تقلَّص حجم جبروت عدة سفاراتٍ قاهرية معها. جُرِّدت السفارات الفرنسية والإيطالية والبريطانية من أكثر الحدائق الملحقَة بها لبناء كورنيش على النيل في بدايات خمسينيات القرن الماضي.
والآن يطل الإيطاليون مباشرةً على طريقٍ دائم الازدحام. وبعد أن حدث ذلك بفترةٍ وجيزة، صعَّد الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر من سياساته القومية المتطرِّفة، طارداً أغلبية المجتمعات الأجنبية والأقليَّات من البلاد، وإعلان القاهرة عاصمةً لهيئة التحرير. وفي بعض الحالات، انتقلت الوفود القادمة من بلادٍ إفريقية حظيت لتوها بالاستقلال لتسكُن مباشرةً فيلَّاتٍ يونانية ويهودية وأرمنية جرى إخلاؤها حديثاً. وفي حالاتٍ أخرى، يُقال إنَّ هنري كورييل، وهو شيوعيّ يهودي مصري، أهدى قصر عائلته الواقع بالزمالك إلى دولة الجزائر لتستخدمه سفارةً لها في بادرة تضامن مع الجزائر أثناء حربها مع فرنسا. تغيَّر المشهد الدبلوماسي في القاهرة بين ليلةٍ وضحاها تقريباً، بحسب الموقع الأميركي.
بزوغ نجم الاتحاد السوفيتي
ومع ذلك، لم يمر وقتٌ طويل حتى ظهرت قوةٌ عظمى جديدة لتترك علامتها على أُفُق القاهرة. بعد توديع الولايات المتحدة في معركة الحرب الباردة وسعياً لاستدراج مصر إلى داخل دائرة نفوذه، أدرك الاتحاد السوفييتي سريعاً آنذاك، أنَّ مقرَّه الحالي ليس كبيراً كفاية ليَسَع آلاف المستشارين الذي جلبهم إلى البلاد. وبهذا، في عام 1960، أعطت موسكو الضوء الأخضر لشنِّ عملية توسعةٍ ضخمة على ضفاف النيل في منطقة الدقي. وبواجهتها الإسمنتية المُستطيلة، بُنِيَت السفارة لتبدو أكبر مما هيَ عليه في الحقيقة، شاهدٌ على القوَّة الشيوعية، بحسب الموقع الأميركي.
قال محمد عبدالرحمن، الذي أدارت عائلته محل حلاقة على الجهة المقابلة من الشارع منذ خمسينيات القرن الماضي: "تساءلنا حينئذٍ ما إن كانت السفارة ستتوسَّع حتى تبتلع القاهرة بأكملها". ومع ذلك، لم يكُن الكرملين القاهري ذاك كبيراً كفاية ليتَّسع لمدَّ السوفييتيين الوافدين إلى البلاد، الذين تدخَّلوا بكل شيءٍ بدءاً من تقديم المعونة في تشييد السدِّ العالي وحتى إعطاء التعليمات لطواقم الدبابات المصرية. وبحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت سفارة السوفييت قد تضخَّمت حتى تضمَّنت ثماني ملحقاتٍ مجاورة على الأقل.
العصر الأميركي بدأ في الظهور
لكنَّ الاتحاد السوفييتي فقد بريقه هوَ الآخر في نهاية الأمر، وفي محلِّه، وَضع أنور السادات، خليفة عبدالناصر، رهانه على الأميركيين. ومن جديد، لَزِم في ظل متطلَّبات المساحة والأمن الإضافية التي طرحتها الأهمية التي حظيت بها الولايات جيداً في القاهرة، أن تُبنَى سفارةٌ أميركية أكبر بكثير، وهذا ما نفَّذته شركة بناء مِن واشنطن على أكمل وجه. وبدءاً من عام 1981، ازداد البنيان الجديد الممثِّل لدولة أميركا، المجاور للسفارة البريطانية والواقع على الضفة المقابلة من الروس مباشرةً تقريباً، عُلوَّاً فعُلوَّاً حتى وصل 14 طابقاً، وهو ارتفاعٌ كان آنذاك بارزاً لدرجة أنَّ كثيراً من المراقبين تخيَّلوا أنَّه صُمِّم فقط بغرض الإبهار، ولو أنَّ المهندس المعماري المسؤول عنه يصرُّ بأنَّ الحقيقة غير ذلك.
وقال أندريه هوستن، المهندس المعماري وراء تصميم السفارة: "كان السبيل الوحيد ليتَّسع المبنى لكُل مساحة المكاتب المطلوبة في موقعه هذا كان أن يُبنَى رأسياً بارتفاعٍ شاهق كالذي ترونه الآن". وعلى أية حال، بُنِيت السفارة الأميركية لتكون متينةً. قُصِفَت السفارة الأميركية في بيروت في منتصف عملية تشييد سفارة القاهرة، ممَّا جعل وزارة الخارجية الأميركية تُعِيد تقييم الاحتياطات الأمنية لسفاراتها، وأن تعمَد في حالة مصر إلى تقوية الجدران الواقية من الانفجارات، وإلى استخدام زجاج نوافذ جديد أكثر متانة. وإذ أصبحت السفارة فيما بعد موقعاً يسهُل إيجاده وينصَب عليه أي غضبٍ محليّ تجاه السياسات الأميركية، فإنَّ تِلك التحصينات المعزَّزة قد اختُبِرَت مراراً في عدة حوادث لاحقة، بحسب الموقع الأميركي.
سفارات القاهرة في دوامة التغيير
والآن، وربما أكثر من أي وقتٍ مضى في العقود الفائِتة، يقع الشرق الأوسط ومقياس ضغوطه المتمثِّل في سفارات القاهرة في دوامة تغيُّرٍ دائم. لأنَّه في ظلِّ انسحاب واشنطن التدريجي من المنطقة، يسعى عددٌ لا بأس به من الأطراف الأخرى لملء الفراغ الذي ستتركه أميركا على الأقل.
وفي عام 2015، وضعت السعودية اللمسات الأخيرة على سفارتها الجديدة المتمثِّلة في ناطحة سحابٍ زجاجية فارهة ومتعاظِمة قُرب جامعة القاهرة، وجُهِّزت السفارة بمهبطٍ مُضاء بمصابيح النيون لطائرات الهليكوبتر على سطحها. ومع أنَّ بعض المصريين ما زالوا بعتبرون السعوديين انتهازيين آتِين من الصحراء، إلَّا أنَّ ثروة النفط الخليجي قد مكَّنت السعودية من التفوُّق، والسيطرة في بعض الحالات مؤخراً، على العواصم العربية التاريخية، بحسب الموقع الأميركي.
لم يغفِر عديدٌ من سكَّان الزمالك القدامى بعد للسعوديين كيف حوَّلوا قصر دوس الأنيق، الذي كان يوماً مسكناً لعائلةٍ قبطية بارزة تمتلك مساحاتٍ من الأراضي، إلى مقرٍّ مُذهب غليظ الشكل للسفير السعودي في الستينيات، كـ"بيتٍ أبيض منصوبٍ على النيل"، كما وصفه سمير رأفت، مؤرِّخ القاهرة في القرن العشرين.
وبحسب الموقع الأميركي، يُزعَم أنَّ الصين قد زادت من عدد موظَّفيها في القاهرة بمقدار الثلث، فيما تعمل على توسُّع وجودها الاقتصادي بالشرق الأوسط، ما حوَّل سفارتها بالقاهرة إلى خلية نحلٍ من أعمال البناء الدائمة لتُواكِب الوافدين الجدد، الذين يأكل وينام ويعمل جميعهم تقريباً داخل مُجمَّع السفارة. تضاعف عدد السيَّاح الصينيين في مصر إلى الضعف ليصبح 300 ألف سائح بين عامي 2016 و2017 فقط.
الروس يعودون للمشهد مرة أخرى
وبحسب الموقع الأميركي، في تغيُّرٍ بارز للأقدار، يبدو وكأنَّ الروس هُم أيضاً يعودون للمشهد، في أصداء نجاحهم في سوريا. ووفقاً لمصادر عسكرية غربية، حصلت روسيا مؤخراً على حقِّ تحرُّك القوَّات الروسية خارج القواعد العسكرية المصرية، وهي حركةٌ سببت زيادةً لعدد أفراد الجيش والقوَّات الجوية الروسية في طاقم عاملي سفارة القاهرة.
مصر يُثقِلها الآن عبء مشاكلها الخاصة، وهي لا تملُك الآن النفوذ الذي تمتَّعت به يوماً. وكما لو كان في ذلك دلالة على هذه الحقيقة، نَقَلت بعض السفارات بعضاً من طاقم عامليها إلى محاور تجارية جديدة، مثل دبي. بينما تركت دولٌ أخرى، مثل كندا وإسرائيل، مقارّها القاهرية المركزية على خلفية مخاوفَ من الإرهاب، وفضَّلت العمل في مكاتبَ بمناطق أبعد داخل أبراجٍ حصينة أكثر. لكن بصفتها عاصمة أكثر دول العالم العربي سكاناً، بفارقٍ كبير عمَّا عداها، وبإدارتها قناة السويس وموقعها الاستراتيجي المهم، من المتوقَّع أن تظلَّ القاهرة منصةً معمارية غير مقصودة لخريطة النفوذ في الشرق الأوسط. إذا أردت أن تعرِف مَن يحظى بالنفوذ هذه الأيام، ليس عليك سوى التمشية من وقتٍ لآخر بين أشجار شوارع مناطق القاهرة المورقة.