رغم ارتفاع الأصوات المطالبة بوقف عملية قطع الأشجار في مصر، إلا أن السلطات المحلية ما زالت مستمرة في العملية دون أي توضيح من المسؤولين عن أسباب القطع أو إلى أين تذهب الأشجار.
في هذا التقرير تواصل "عربي بوست" مع مجموعة من المصادر لمعرفة أسباب إقدام السلطات المصرية على تقطيع عدد كبير من الأشجار في السنوات العشر الأخيرة في عدد من محافظات البلاد.
لماذا يتم قطع الأشجار في مصر؟
من جهته قال مصدر برلماني لـ"عربي بوست" إن قضية قطع الشجر تمت إثارتها مرات عديدة داخل البرلمان، ومبررات الحكومة كون مصر دخلت مرحلة الفقر المائي والأشجار تستهلك كميات كبيرة من المياه.
كما بررت الحكومة أن السبب هو كون أماكن الأشجار يمكن استغلالها في التنمية العمرانية وتارة أنها تعرقل تبطين الترع، وبذلك تفرض سياسة الأمر الواقع وتستبدل أماكنها بمطاعم ومحال تجارية، أو ساحات انتظار المركبات ومشروعات استثمارية.
يوضح البرلماني أن الحكومة تفتقر لآليات مواجهة تداعيات ارتفاعات درجات الحرارة المتوقع استمرارها خلال فترة الصيف، وتستمر في سياسة تقليص المساحات الخضراء التي تساهم في امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتلطيف الجو، وأخلت الشوارع من أماكن يستظل بها المواطنون.
ويؤكد المصدر أن مبادرات زراعة الأشجار لن تجعلنا نغض البصر عن جريمة قطعها، متسائلاً كيف يتم اقتلاع أشجار عتيقة تجاوزت أعمارها مئات السنين ولا تقدر بثمن، واستبدالها بأخرى باهظة الثمن عديمة القيمة في التظليل وعمرها قصير.
ويوضح أن الحكومة رغم نفيها المتكرر علمها بقطع الأشجار إلا أنها تفتش في كل الدفاتر عن العملة الصعبة، وذلك عبر بيع الأخشاب لمكامير الفحم ومصانعه ثم تصدير الفحم للخارج.
بحسب وزيرة البيئة فقد صدرت مصر أكثر من 75 ألف طن من الفحم النباتي تقدر بـ50 مليون دولار عام 2019.
من وجهة نظر المصدر، فإن الحكومة بقطع الأشجار تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي مطالبة بخطة لترشيد المياه بعد دخول عمليات ملء سد النهضة مرحلةً حرجةً، وبذلك توفر المياه المستخدمة في ري المساحات الخضراء.
وفي ذات الوقت تستفيد من خشب الشجر وتوفر عملة صعبة وإخلاء مكان الشجر يوفر لها مساحات تستثمرها، ومن جهة أخرى تساعد الجهات الأمنية بمنع المجرمين والهاربين من العدالة بالاختباء في أماكن مشجرة لا تلتقطها الكاميرات.
لكنها لم تلتفت للضرر الواقع على المواطنين، وحاولت تخفيف حدة الانتقادات الموجهة لها فأعلنت في أغسطس/آب 2022، وفق موقع هيئة الاستعلامات، عن مبادرة تستهدف زراعة 100 مليون شجرة حتى العام 2029/2028.
لكن منذ انتهاء المؤتمر لم يتم الحديث عن أي تطورات في ما يتعلق بهذه المبادرة إلا ما نشرته الهيئة في أبريل/نيسان 2023، عن الانتهاء الفعلي من توريد 7.2 مليون شجرة، من إجمالي المقرر زراعته في المرحلة الأولى عند 7.7 مليون شجرة.
ويشير إلى أن هناك مطالبات بفتح التحقيق لمعرفة من يصدر الأوامر للإدارات المحلية بقطع الأشجار، والشركات التي تشتري الشجر المقطوع ومخلفاته وأين تذهب أموال بيعه؟
أين تذهب الأشجار المصرية؟
كشف مصدر بوزارة التنمية المحلية لـ"عربي بوست" أن الأشجار بعد قطعها تُجمع في ورش مركزية خاصة بكل محافظة، حيث تستفيد من الأشجار في نطاق حيازتها بتحويل خشبها إلى مكاتب وكراسي وغيره.
يعترف المصدر أن آلاف الأشجار المقطوعة كثيراً ما يتم طرحها للبيع في المزادات العلنية، وذلك عن طريق المحافظات والجهات المحلية التي دائماً ما تقوم بقطعها، ويعد ذلك مصدر ربح مهماً للجهات المحلية.
وأضاف المصدر نفسه أن مصانع وشركات إنتاج الفحم هي الأكثر إقبالاً على دخول هذه المزادات إلى جانب مصانع الأخشاب، فضلاً عن بيع أوراق الشجر كوقود لمصانع الأسمنت.
يكشف المصدر عن وجود فجوات بين الرقابة البيئية على الأحياء وهيئات النظافة والتجميل التي تقوم بعملية قطع الأشجار وبين وزارة البيئة التي من المفترض أن تضع اشتراطاتها البيئية قبل عملية القطع.
وأضاف أن تلك الفجوة تعد بوابة للفساد في كثير من الأحيان، وأن أصحاب المصانع والشركات التي تستخدم الخشب في صناعات مختلفة أو تقوم بتصدير الفحم تشتريه بثمن زهيد دون عرضه في المزادات.
ويؤكد المصدر نفسه وجود فساد مالي و"سبوبة" وراء ما يحدث، ولا يستبعد ما يتم تداوله من تصدير الفحم لاسرائيل، مشيراً إلى أن ذلك ليس سراً، فشركة رجل الأعمال الإسرائيلي الذي قُتل في مصر، زيف كيبار، في 7 مايو/أيار 2024، بمدينة الإسكندرية كان يصدر الفحم المصري لبلده من خلالها.
وبلغت واردات الاحتلال الإسرائيلي من مصر من الفحم الخشبي، 4.16 مليون دولار أمريكي خلال عام 2022، وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة "COMTRADE" للتجارة الدولية، التي أشارت إلى أنه تم تحديث واردات الاحتلال من مصر من الفحم الخشبي، في يونيو/حزيران الجاري.
من جهتها قدمت النائبة المصرية سميرة الجزار طلب إحاطة لرئيس البرلمان باستدعاء كل من رئيس الوزراء، ووزراء التجارة والصناعة، والتنمية المحلية والبيئة والصحة، والزراعة قائلة إن هناك شكوكاً خلف ظاهرة قطع أشجار الشوارع والحدائق.
وقالت النائبة البرلمانية إن عملية قطع الأشجار وراءها شركة بها أشخاص ذوو نفوذ تقوم بقطع الأشجار التي تعد ملكية عامة للشعب وتحويلها إلى فحم وتصديرها للكيان الصهيوني بأسعار باهظة لتحقيق الثراء السريع على حساب صحة الإنسان.
وطالبت بوقف وحظر تصدير الفحم فوراً والتحقيق مع الشركات المصدرة عن مصدر الفحم، وما إذا كان المصدر هو أشجار الشوارع والحدائق العامة المملوكة للشعب في كل محافظات مصر.
تراجع الأماكن التي يستظل بها المواطنون
تشهد مصر ارتفاعاً غير مسبوق في درجات الحرارة، إذ تجاوزت في العديد من المحافظات 40 درجة، على رأسها محافظة أسوان التي وصلت إلى 49 درجة، والأقصر 47 درجة مئوية، ومدينة أبو سمبل 46.6 درجة مئوية، وجنوب الوادي بمحافظة قنا في المركز الخامس عشر 46.6 درجة مئوية.
وقال محمد سعيد، مواطن مصري يقطن في مدينة أسوان بالقرب من الحدود مع السودان، إن المحافظة تواجه أجواء مناخية غير مسبوقة وإن درجات الحرارة تفوق 50 درجة مئوية.
وأضاف المتحدث لـ"عربي بوست" أن حملات إزالة الأشجار خلال السنوات الماضية تسببت في تراجع الأماكن التي يستظل بها المواطنون، وأثرت على درجات الحرارة الراهنة.
وأشار إلى أن الاستغاثات العديدة التي وجهها أهالي أسوان إلى جهات محلية وحكومية مختلفة بشأن استثناء المحافظة من انقطاعات التيار الكهربائي لم تتم الاستجابة لها بعد.
وأضاف لـ"عربي بوست" أن الأجواء في القرى والمراكز المحيطة بمدينة أسوان تبدو فيها الأجواء أقل حرارة بالرغم من سخونتها أيضاً، ويعود ذلك للمساحات الخضراء الواسعة في تلك المناطق والتي تساعد في انخفاض درجات الحرارة.
مشيراً إلى أن جهات محلية أقدمت على قطع الأشجار القريبة من الترع بهدف توسعتها وتبطينها، وهو ما واجه اعتراضات جمة، لكن ذلك لم يكن له تأثير واسع على هذه المناطق التي تنتشر فيها الأشجار أسفل المنازل وأمام المناطق الزراعية المختلفة.
تقدمت النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي، بطلب إحاطة موجه إلى كل من رئيس مجلس الوزراء، ووزيرة البيئة، ووزير النقل، ووزير التنمية المحلية، بشأن "تراجع المساحات الخضراء بالإقليم المصري والقطع الجائر للأشجار؛ ما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق".
خطيئة قطع الأشجار
من جهته، كشف باحث بيئي بوحدة التغيرات المناخية في وزارة البيئة المصرية تواصلت معه "عربي بوست" أن تقلص المساحات الخضراء وتعرض مصر لرياح حرارية يعد سبباً رئيسياً في ارتفاع درجات الحرارة.
وأكد المتحدث أن زيادة المساحات الخضراء يساهم بشكل كبير في التخفيف من حدة الشعور بالحر، وأن التغيرات المناخية نتيجة لفقدان أكثر من ثلث غابات الأشجار على سطح الكرة الأرضية على مدار السنوات الماضية..
وقال المتحدث إن التغييرات المناخية بسبب قطع الأشجار أو حرقها أو استبدالها بالعمران في العالم كله، وإن التأثير الأكبر في مصر يبقى من خلال قطع أشجار محافظات الدلتا التي شهدت زحفاً عمرانياً كبيراً خلال العقد الأخير.
وأوضح أن خطيئة قطع الأشجار في مصر تظهر من خلال اختفاء غالبية الأشجار التي كانت تظلل الطرق من القاهرة ووصولاً إلى جميع المحافظات وكانت أيضاً تتواجد بكثافة على شريط السكك الحديدية لتقوم الحكومة بعمل توسعة للطرق دون أن تزرع أشجاراً غيرها.
مشيراً إلى أن الأشجار التي تحافظ على حضورها في مصر هي أشجار المحاصيل الزراعية والفاكهة، وهي أشجار مثمرة تساهم في الحفاظ على أجواء مناخية إيجابية في المناطق الزراعية.
ويوضح لـ"عربي بوست" أنه ليس منطقياً مقارنة أشجار الزينة التي تتم زراعتها الآن بالأشجار التي يتم قطعها والتي تقوم شجرة منها بوظيفة أكثر من 300 شجرة صغيرة في امتصاص أكاسيد النيتروجين والكربون الضارة، وإنتاج الأوكسجين.
وذكر أن فشل الحكومة في تطبيق رؤيتها لزرع الأشجار يفوّت على مصر كثير من المكاسب؛ لأن أخشابها يتم استخدامها في صناعات مختلفة، ويمكن أن يقلل فاتورة استيراد الخشب من الخارج.
لافتاً إلى أن الحكومة تعتمد حالياً على غابات الأشجار التي لديها وتتم تغذيتها على مواسير الصرف الصحي، وأن مصر لديها 35 غابة في مواقع مختلفة على مستوى الجمهورية، وأن تلك الأشجار توظف لاستخراج الأخشاب ويتم فصلها عن الأشجار الثمرية.
غياب العدالة في توزيع الأخضر
وفقاً لعدد من التقارير والإحصائيات الخاصة بالشأن البيئي في مصر فقد تراجعت المساحات الخضراء في مصر من 7.8 مليون متر مربع في 2017 إلى 6.9 مليون متر مربع في عام 2020.
وفقدت منطقتا مصر الجديدة وشرق مدينة نصر وحدهما ما يقرب من 584 ألف متر مربع من المساحات الخضراء، وهذا بسبب التوسع في إنشاء شبكة الطرق السريعة داخل المناطق السكنية، تطبيقاً لخطة الدولة التي تستهدف زيادة الطرق المخصصة لقيادة السيارات الخاصة؛ ما أدى إلى وصول معدل مؤشر زيادة استخدام السيارات إلى أربعة أضعاف النمو السكاني.
وفي الوقت الذي توصي منظمة الصحة العالمية، بما لا يقل عن 9 أمتار مربعة من المساحات الخضراء لكل فرد لتعزيز الصحة العامة، تؤكد تقارير علمية ودراسات أن المساحات الخضراء في مصر تقلصت بشكل كبير.
وكشفت ورقة بحثية صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، نشرت قبل عام ونصف العام تقريباً، أن متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المحافظات المصرية بلغ 17 سنتيمتراً فقط وهو أدنى بكثير من التوصيات العالمية. فيما تقول الهيئة العامة للاستعلامات في مصر عبر موقعها الإلكتروني إن نصيب الفرد من المساحات الخضراء يُقدر بنحو 1.2 متر مربع.
ويشير باحث بيئي بمركز بحوث الصحراء إلى أن دول العالم المختلفة تحدد نسب الأشجار لديها وتقارنها بمؤشرات السلامة في المدن، لكن ذلك يغيب بقدر كبير في مصر.
وأضاف المتحدث أن مدينة مثل العاصمة القاهرة تكتظ بالسكان ويوجد بها ملايين المركبات بأنواع مختلفة بحاجة لعمل ميادين من الأشجار لخفض معدلات التلوث والحفاظ على صحة المواطنين، خاصة الأطفال وكبار السن.
وأشار المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" إلى أن المشكلة في مصر لا تتمثل في تراجع المساحات الخضراء بقدر غياب العدالة في توزيعها بما يتماشى مع معدلات الكثافة السكانية.
وأوضح أن مصر تمتلك مساحات شاسعة من أشجار الصرف الصحي تكفي لإحداث توازن بيئي داخل المدن والقرى التي تتواجد فيها، لكن ذلك يبقى بعيداً عن العاصمة القاهرة بعد عمليات تجريف أشجارها بشكل ممنهج.
لافتاً إلى أنه في العامين الماضيين تحركت جهات عديدة لمواجهة التعديات على الطبيعية من خلال نقابة الزراعيين وأكثر من 100 جمعية أهلية ومنظمة تهتم بالوضع البيئي في مصر.
توسع إنشاء المساحات الخضراء في المدن الجديدة
في المقابل أكد مصدر مسؤول تحدث إلى "عربي بوست" أنه لا يوجد توجه عام نحو قطع الأشجار، لكن بعض عمليات القطع نتيجة لتطبيق القانون أو لإحداث سيولة مرورية في بعض المناطق، أو لخطورة هذه الأشجار على البيئة والمنطقة التي تتواجد فيها، وفي تلك الحالة يكون ذلك بناء على توصيات لجنة مختصة من وزارة البيئة، فيما تتم غالبية عمليات قطع الأشجار من جانب الأحياء والأجهزة المحلية في المحافظات المختلفة.
وأوضح أن إزالة بعض الأشجار في العاصمة القاهرة يقابلها توسع في إنشاء المساحات الخضراء في المدن الجديدة التي يتم تدشينها لكي تكون صديقة للبيئة، وأن العاصمة الإدارية الجديدة ستكون شاهدة على إنشاء حديقة يمكن أن تصنَّف على أنها من بين أكبر الحدائق حول العالم.
وأكد أن مشروعات البناء والتشييد التي تحدث في المحافظات المختلفة من خلال مبادرة حياة كريمة أو غيرها من المشاريع الحكومية تعمل وفق خطة تحصل بمقتضاها على أشجار تضمن الحفاظ على الطبيعة الخضراء للقرى، لافتاً إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يرجع لتغيرات مناخية جرى التحذير منها عالمياً وليس بسبب قطع الأشجار.
لكن وفق منظمة الأمم المتحدة للأغذية "الفاو" يمكن لشجرة واحدة أن تمتص ما يصل إلى 150 كغم من غاز ثاني أكسيد الكربون سنوياً، بالتالي التخفيف من آثار تغير المناخ.