منذ أن أقدمت الحكومة المصرية على توحيد سعر الدولار بين الرسمي والسوق السوداء، لم تشهد الأسواق المصرية انخفاضات كبيرة في أسعار العديد من السلع والخدمات الرئيسية مثلما كان متوقعاً.
وفي جولة لـ"عربي بوست" داخل العديد من أسواق بيع السلع الغذائية وأسواق الأجهزة الكهربائية؛ فإن الأسعار مازالت مرتفعة كما قبل توحيد سعر الصرف.
وحسب ما رصد "عربي بوست" من تجار فإن أسباب استمرار ارتفاع الأسعار في مصر راجع للخدمات الحكومية، ومشكلات الشحن والتفريغ العالمية بسبب الاضطرابات في البحر الأحمر.
وتشهد مصر موجة غير مسبوقة من ارتفاعات أسعار جميع السلع والخدمات التي كان يربطها بعض التجار بأزمة شح الدولار وارتفاع أسعار الصرف بنسب غير منطقية في السوق السوداء.
وعود الحكومة سراب
تقول إيمان سمير، ربة منزل مشرفة على شراء أساسيات البيت، إن الأسعار مازالت مرتفعة مقارنة بما كانت عليه قبل عام واحد تقريباً، بل إن بعض السلع لم تنخفض أسعارها وأخرى شهدت ارتفاعاً.
وأكدت المتحدثة التي التقاها "عربي بوست" في أحد الأسواق الشعبية في منطقة عين شمس أنه ليس هناك أي تأثير لتراجع أسعار الدولار مقارنة بما كانت عليه في السوق السوداء قبل ثلاثة أشهر فقط.
وأضافت المتحدثة أن سعر الأرز بـ35 جنيهاً للكيلو، وهو نفس السعر قبل التعويم، أما سعر الدقيق المعبأ فسجل انخفاضاً بشكل طفيف، ووصل الآن إلى 28 جنيهاً للكيلو عوضاً عن 32 جنيهاً.
أما السكر، فوصفته المتحدثة بالانخفاض المخادع، إذ أصبح المنتج متوفراً لكنه وصل إلى 36 جنيهاً للكيلو، مقابل أن سعره قبل أزمة اختفائه منذ عدة أشهر كان لا يتجاوز 15 جنيهاً.
ولم تشهد المكرونة (المعجنات) أي انخفاض في أسعارها، فما زال سعرها 32 جنيهاً للكيلو، وهذه كلها سلع رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها، ومع ذلك فإنها لم تنخفض كما وعدت الحكومة.
شماعة لزيادة الأسعار
وأعلنت الحكومة المصرية أن أسعار الأعلاف ستنخفض بعد تحرير سعر الجنيه والسماح بدخول الشحنات المكدسة في الموانئ، الأمر الذي سيساهم في انخفاض أسعار المواد الغذائية.
لكن ذلك لم ينعكس على أسعار الدواجن التي شهدت انخفاضاً بسيطاً خلال الشهر الأول من التعويم الأخير، وعادت الآن لتقترب إلى ما كانت عليه قبل بداية شهر رمضان.
ووصل سعر الكيلو من الدواجن 105 جنيهات، حسب ما رصد "عربي بوست"، وكذلك الوضع بالنسبة للحوم التي تصل أسعارها إلى 450 جنيهاً وظلت كما هي على الرغم من التعويم.
ويمكن تسجيل الانخفاض بالنسبة لأسعار البيض، إذ انخفض سعر الكرتونة من 160 إلى 125 جنيهاً، لكن ذلك لا يعد انخفاضاً مقارنة بما كانت عليه قبل عام مضى، إذ كان سعر الكرتونة لا يتجاوز 100 جنيه.
كما أن جميع السلع التي انخفضت لم تصل للمستويات التي كانت عليها قبل حدوث الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء للدولار حينما كان سعر الدولار 31 جنيهاً رسمياً.
فسعر زيت الخليط أصبح 60 جنيهاً رغم أنه كان لا يتجاوز 40 جنيهاً قبل عام، لكن سعره قبل شهرين كان يتجاوز 85 جنيهاً، وبالتالي فقد سجل انخفاضاً بنسبة 20%.
وكذلك الوضع بالنسبة للجبن والألبان التي انخفضت بمعدلات ضئيلة للغاية تكاد لا تذكر، وسط توقعات بارتفاع أسعارها مرة أخرى خلال الفترة المقبلة.
وكانت الحكومة المصرية تأمل أن تتسبب إجراءات توحيد أسعار صرف الدولار والقضاء على السوق الموازية للعملة وتوقيف المضاربين وتجار العملة، في انخفاض الأسعار.
لكن منذ القرار الأخير بخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار والعملات الأجنبية والعربية، ورغم استقرار أسعار صرف الدولار عند مستوى 46 إلى 47 جنيهاً، لم تشهد أسواق التجزئة تراجعات كبيرة في الأسعار.
هذا الارتفاع في الأسعار دفع الحكومة المصرية إلى البحث عن السلع التي تقود معدلات التضخم إلى الارتفاع.
مخاوف وصعوبات تحاصر سوق السلع المعمرة
لم يختلف الوضع كثيراً في سوق السلع المعمرة الشهير في وسط القاهرة، وبحسب سامح عبد المحسن، صاحب أحد محال بيع الأجهزة الكهربائية فإن الأسعار لم تشهد انخفاضاً بشكل كبير.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن الأجهزة الموجودة في المخازن أغلبها تم شراؤه في وقتٍ كان فيه دولار السوق السوداء بـ60 جنيهاً أو أكثر.
وأضاف المتحدث أن الانخفاض يتراوح ما بين 10% إلى 15%، ولا يمكن أن يكون أكثر من ذلك لأن الوضع يرتبط بمسارات صرف أخرى للتجار، بينها ارتفاع أسعار الخدمات والوقود، وزيادة رواتب العمالة في أعقاب تخفيض قيمة الجنيه.
وأوضح المتحدث أن سعر الثلاجة الـ14 قدماً، وهي الأكثر طلباً في السوق، انخفض من 27 إلى 23 ألف جنيه، لكن سعرها قبل أشهر عديدة لم يكن يتجاوز 15 ألف جنيه.
وكذلك الوضع بالنسبة للغسالة الأوتوماتيك التي وصل سعرها الآن إلى 9000 بدلاً من 10000 جنيه، ويصل سعر شاشة التليفزيون الـ43 بوصة إلى 9000 آلاف جنيه بدلاً من 11 ألف جنيه.
ولفت إلى أن أسعار أجهزة التكييف تشهد تبايناً في هذا التوقيت الذي يعد موسماً للشراء، وكان من المفترض أن تنخفض بشكل كبير لكن مع زيادة الطلب عليها فإنها لم تنخفض سوى بمعدلات لم تتجاوز 10%، وكذلك الوضع بالنسبة لباقي الأجهزة مثل المراوح والشفاطات والتي دائماً ما تشهد إقبالاً من الجمهور في فصل الصيف.
وأكد المتحدث أن المشكلة الكبرى تتمثل في حالة الركود التي تشهدها الأسواق، لأن الزبائن لديهم قناعة بأن الأسعار ستنخفض أكثر، وهناك وعود حكومية بأنها قد تتجاوز 30%، لكن هذا صعب على أرض الواقع والجميع يرفض الخسارة، وهناك من ينتظر حدوث تغيير في سعر الصرف قد يقود لارتفاع أسعار الأجهزة مجدداً.
وأشار المتحدث إلى أن الركود يجعل التجار يضعون في اعتبارهم حجم الخسائر التي يعانون منها في الوقت الحالي ويكون إقدامهم على خفض الأسعار بسيطاً، خاصة أن هناك مخاوف من صعوبات جديدة في توريد الأجهزة الكهربائية من الخارج بسبب اضطراب الأوضاع العالمية.
السوق المصري سريع الاستجابة لارتفاع الأسعار
تشير البيانات الرسمية إلى انخفاض المعدل السنوي للتضخم العام في الحضر المصري ليسجل مستوى 32.5% خلال شهر أبريل 2024، مقابل 33.3% خلال شهر مارس السابق عليه.
ويتخوف التجار في مصر من تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والأسمدة والمواد الغذائية، إذ تعد المنطقة مورداً مهماً للغاز، حيث يمر 20% من حجم التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال عبر مضيق هرمز.
وقال خبير اقتصادي بالغرفة التجارية لـ"عربي بوست" إن السوق المصرية سريعة الاستجابة لارتفاع الأسعار، وفي تلك الحالة يكون الارتفاع سريعاً للغاية في غياب رقابة الحكومة.
وأضاف المتحدث أنه إذا تراجع الدولار وتوفرت الأسباب للهبوط فإنه يبقى بطيئاً للغاية وقد لا يحدث من الأساس، وذلك يرجع لما يمكن وصفه بـ"الغباء أو الانتحار الاقتصادي".
وأشار المتحدث إلى أن الأصل في الاقتصاد هو التجارة الناجحة القائمة التي تعظم من القوى الشرائية للمستهلكين، في حين أن المؤشرات في مصر تشير إلى تراجع القوة الشرائية بمعدلات كبيرة.
وأضاف المصدر ذاته، أن ما يجري الآن من جانب التجار هو بمثابة تحجيم للقوة الشرائية للمواطنين، لافتاً إلى أن معدلات التضخم الناتجة عن تراجع قيمة الجنيه تسببت في حالة ركود.
وأكد الخبير الاقتصادي أن الحكومة المصرية لم تجد الوسائل المناسبة للتعامل مع هذا الوضع، في المقابل فإن التجار ليست لديهم الرغبة في عمل مبادرات وتخفيضات تحصل في كل دول العالم لجذب المواطنين.
وشدد الخبير الاقتصادي على أن معدلات الشراء هذا العام انخفضت عن العامين الماضيين، سواء أكان ذلك على مستوى السلع الغذائية أو المعمرة.
وأشار إلى أن الحكومة تحاول الحد من أزمة الركود عبر تحديد 12 سلعة استراتيجية تقوم بإعفائها من الجمارك حال جرى استيرادها من الخارج، وقد ينعكس ذلك على المواطنين بدرجات قليلة أو لا ينعكس من الأساس.
وأكد على أن إلقاء جميع التهم في جعبة جشع التجار أمر غير سليم، لأن الحكومة لم تحمِهم بالأساس ورفعت عليهم أسعار الخدمات العامة جميعها من مياه وغاز وكهرباء، إلى جانب ارتفاع تكاليف المعيشة، وهو أمر يجعل لديهم رغبة في تحقيق مكاسب يعوضون بها الزيادات الأخيرة.
كما أن الرقابة تبدو شبه منعدمة لأنها لا تمتلك سوى 1500 موظف موزعين على وزارة التموين وجهاز حماية المستهلك ومطلوب منهم ضبط جميع الأسواق على مستوى الجمهورية، وهو أمر غير منطقي.
ووفقاً لإحصاء مصري فإن 65.8% من الأسر تأثر نمط إنفاقهم على السلع الغذائية وغيرها من السلع غير الغذائية، بينما انخفض استهلاك حوالي 74% من الأسر المصرية من السلع الغذائية.
وتظهر بيانات مركز معلومات مجلس الوزراء، أن حجم واردات السلع الاستهلاكية المعمرة (الأجهزة الكهربائية المنزلية)، تراجع إلى نحو 3.4 مليار دولار في عام 2023، مقارنة بـ4.2 مليار دولار عام 2022.
سياسة تعطيش السوق
مددت الحكومة المصرية العمل بقرار إعفاء السلع الاستراتيجية لمدة ثلاثة أشهر مقبلة، وتضمنت تلك السلع الدواجن المجمدة وأحشاء وأطراف الدواجن الصالحة للأكل وأجزاء لحوم من طيور الدواجن.
بالإضافة إلى الألبان والزبدة والجبن والشاي ودهون وشحوم وزيوت حيوانية والسكر والمكرونة، ومحضرات الأنواع المستعملة لتغذية الحيوانات والأدوية.
وتوقع مصدر حكومي ارتفاع أسعار عدد من السلع الاستراتيجية المهمة خلال الفترة المقبلة في مقدمتها الدواء، في ظل أزمة الشح غير المسبوقة التي تعانيها الأسواق.
وأضاف المتحدث أن ما حدث من تعطيش سابق للسكر والأرز يجري تنفيذه حالياً على الدواء، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع التي تأتي من مناطق النزاعات والحروب أو التي تمر عبر البحر الأحمر، وهو ما سينعكس سلباً على أسعار الأجهزة الكهربائية وبعض الأغذية المستوردة من الخارج.
وأشار إلى أن ارتفاع أسعار شحن سفن الحاويات في البحر الأحمر بعد أن قامت بتغيير مسارها بنسبة 30% خلال الأيام الماضية سوف ينعكس سلباً على أسعار السلع المستوردة.
إلى جانب ارتفاع التكاليف بالنسبة للمستوردين، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل نتيجة الزيادة الأخيرة في أسعار السولار، وسط توقعات بزيادات أخرى مرتقبة خلال الأشهر المقبلة.
وقلل المصدر من إمكانية انخفاض الأسعار على نحو أكبر خلال الفترة المقبلة، لكنه استدرك قائلاً: "إن الأمل الوحيد يبقى في استمرار حالة الركود الحالية والتي يمكن وصفها بأنها مقاطعة غير منظمة، وفي حال طالت الفترة سيلجأ التجار لخفض الأسعار شريطة عدم تعرضهم لخسائر".