أثار دخول القوات والمدرعات الإسرائيلية معبر رفح من الناحية الفلسطينية ردود فعل كبيرة في القاهرة، بعدما وصفت السلطات المصرية الأمر بـ"التصعيد الخطير"، وإعلانها عزمها دعم جنوب أفريقيا في مقاضاتها إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الكبرى، وعلت أصوات كثيرة بما فيها إعلاميون مقربون من السلطة بضرورة إلغاء اتفاقية كامب ديفيد مع الاحتلال الإسرائيلي، معتبرين أن التحرك الإسرائيلي في المعبر الفلسطيني تهديد كبير للأمن القومي المصري.
وكان أكثر ما استفز المصريين هو صور دخول المدرعات والدبابات الإسرائيلية إلى قلب المعبر ورفع العلم الإسرائيلي على بعد أمتار قليلة من الحدود المصرية، وهو ما نشره ووثقه الجنود الإسرائيليون أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن، وخلال تتبعنا بعض حسابات الجنود الإسرائيليين، بدأنا نلاحظ عدم ظهور المدرعات والآليات الثقيلة خلال اليومين الماضيين، بعكس الصور والفيديوهات التي نشرت في اليوم الأول لاقتحام المعبر. هذا بالإضافة لما ذكره الضابط السابق في الجيش المصري سمير راغب، والذي يدير حالياً المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، وهو أحد المقربين من النظام المصري، في مداخلة هاتفية مع الإعلامي المصري عمرو أديب، يوم الإثنين 13 مايو/أيار 2024، ذكر فيها انسحاب الآليات والمدرعات الإسرائيلية بعد يوم من الاقتحام.
من هنا، بدأ "عربي بوست" في تتبع طبيعة التغيرات التي طرأت على التواجد العسكري الإسرائيلي في الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وحقيقة عدم وجود دبابات ومدرعات فيه.
قوات كتيبة ناحال 932 على معبر رفح
في البداية، كان علينا معرفة طبيعة الفرقة أو الكتيبة الإسرائيلية المتواجدة في معبر رفح. وجدنا مقطع فيديو، منشوراً على "يوتيوب" في عام 2022، أظهر لنا بوضوح لافتة كتب عليها "بنك الإنتاج الفلسطيني"، وهو فرع للبنك داخل الصالة الخاصة بمعبر رفح من الناحية الفلسطينية.
ثم طابقنا الفيديو بإحدى الصور المنشورة في بداية الاقتحام الإسرائيلي والتي تشير إلى وجود قوات إسرائيلية داخل معبر رفح من الناحية الفلسطينية، فوجدنا أن قوات الجيش موجودة في داخل نفس الصالة بالفعل، وبجانبها لافتة "بنك الإنتاج الفلسطيني" نفسها الموجودة داخل معبر رفح.
بعد ذلك بدأنا في محاولة معرفة إلى أي الفرق والكتائب ينتمي هؤلاء الجنود. وجدنا تصريحاً رسمياً من أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم جيش الاحتلال، نشره على حسابه الرسمي على منصة "إكس"، يؤكد وجود قوات الفرقة 162 في معبر رفح.
قال في بيانه: "قوات جيش الدفاع من الفرقة 162 باشرت عملية مباغتة لتحييد أهداف إرهابية تابعة لمنظمة حماس الإرهابية شرقي رفح وتحقق السيطرة العملياتية على الجانب الغزي من معبر رفح بعد ورود معلومات استخباراتية تفيد باستخدام المعبر لأغراض إرهابية على يد مخربين"، وفق وصف المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
بالبحث عن تعريف الفرقة 162 المدرعة، والمعروفة أيضاً باسم تشكيل الصلب (بالعبرية: עֻצְבַּת הַפְּלָדָה) في الجيش الإسرائيلي، وجدنا أنها فرقة مدرعة نظامية في الجيش الإسرائيلي، تتبع للقيادة الإقليمية الجنوبية، ويقود الفرقة العميد موتي باروخ.
تتكون هذه الفرقة من وحدات: 162 المدرعة واللواء 37 المدرع "رام" (احتياطي) واللواء 84 مشاة "جفعاتي" واللواء 401 مدرع "آثار الحديد" واللواء 933 مشاة "نحال" والفوج 215 مدفعية "عامود هاش" / "عمود النار" والكتيبة 55 مدفعية "دراجون" رقم 55 (إم 109 "دوهر") والكتيبة 402 مدفعية "رشيف" (إم 109 "دوهر") والكتيبة 403 مدفعية "إيال" (احتياطي) (إم 109 "دوهر") وسرية اكتساب الهدف وكتيبة إشارة الفرقة.
ولمعرفة أي الوحدات هذه هي المتمركزة في معبر رفح، بدأنا في البحث عن طبيعة الزي والتسليح الخاص بكل منها ومطابقتها مع صور الجنود الموجودين في المعبر حالياً.
وجدنا أن إحدى الوحدات هي لواء "ناحال 933″، وهو لواء مقاتل من ألوية سلاح المشاة النظامية في الجيش اﻹسرائيلي، يرتدي جنوده قبعة خضراء فاتحة مع شعار سلاح المشاة، ويلبسون أحذية حمراء اللون، وشعار لواء الناحال يتكون من سيف ومنجل وقمح، وهذا يرمز إلى حماية العمل في اﻷرض والزراعة، واﻷسهم اﻷربعة تمثل الكتائب اﻷربع التابعة للواء، وهي: كتيبة بازلت 50 وكتيبة شاخام 931 وكتيبة ناحال مشاة 932 والتي تعرف بقوات "جرانيت 932″، كتيبة الاستطلاع توبار (القوة الخاصة) 934.
وبمطابقة الصور الخاصة بالجنود الموجودين في معبر رفح، مع صور من قوات "ناحال 932" تأكدنا أنهم نفس القوات الموجودة في معبر رفح الفلسطيني.
في الصور المنشورة الخاصة بالقوات الإسرائيلية، في صالة معبر رفح، وجدنا خمسة جنود من الجيش الإسرائيلي يجلسون في صالة المعبر بجوار لافتة "بنك الإنتاج الفلسطيني" وأمامهم إحدى زجاجات المشروبات التي يتناولونها، طابقنا هذه الصورة بصورة موجودة على "إنستغرام" في حساب تحت اسم "גדוד ״גרניט״ 932 | Gdud Granit"، يعرف نفسه بالقول: "الصفحة الرسمية على إنستغرام للكتيبة 932 "جرانيت"، وفي كتيبة "ناحال 932″، وقد وجدنا مئات الصور لكتيبة ناحال 932، بالفعل.
ووجدنا أحد الجنود الموجودين في معبر رفح، قد نشر صوره على حساب "إنستغرام" في وقت سابق وتحتها كتب: "نظرة خاطفة إلى الداخل، أتيحت لنا الفرصة للحصول على لمحة بسيطة عن جنود الكتيبة الذين يواصلون تنفيذ مهمتهم باحترافية وتفانٍ في قطاع رفح ⚔️💚 اعتنوا ببعضكم البعض واتركوا بسلام، في انتظاركم ودعمكم"، في إشارة واضحة إلى وجود نفس الجندي في معبر رفح الفلسطيني، وقد نشرت الصورة بتاريخ 13 مايو/أيار 2024.
وفي صور أخرى تم نشرها كذلك على نفس الحساب على إنستغرام، والمعروف باسم "الصفحة الرسمية لكتيبة جرانيت 932″، وجدنا نفس الصور المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي تحت عنوان "قوات ناحال 932 مشاة" في معبر رفح، وتحتها كان التعليق: "كان لا بد أن نلقي نظرة بسيطة على جنود اللواء الذين يواصلون أداء مهمتهم باحترافية وتفانٍ في قطاع رفح، اعتنوا ببعضكم البعض واتركوا بسلام، في انتظاركم وتقويتكم".
سحب المدرعات من معبر رفح
عند العودة للمداخلة الهاتفية للضابط السابق في الجيش المصري سمير راغب، مع الإعلامي المصري عمرو أديب، يوم الإثنين 13 مايو/أيار 2024، التي ذكر فيها أن كتيبة من الجيش الإسرائيلي استقرت في معبر رفح الفلسطيني، لكنها لا تستخدم المدرعات، "مش محتاج المدرعات، لأنه يخاف إنه يتعرض لاتفاقية فك الارتباط مع مصر، فيكفيه 4 آلاف جندي مشاة فقط دون المدرعات".
عاد عمرو أديب للتأكيد عليه في السؤال: "هو عنده جنود في المعبر؟ كان موجود آليات؟ الآن بقى جنود فقط؟ سحب المدرعات؟ ترك المشاة بس؟".
ليرد سمير راغب: "نعم، بالفعل فيه جنود مشاة فقط في معبر رفح؟ الفرقة 162 أخذت قواتها وراحت معبر رفح".
وعند مراجعة طبيعة تسليح لواء الناحال الذي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح حالياً، وجدنا أن اللواء يتسلح ببنادق هجومية من طراز كاربين M4 أو M16، وقنابل من طراز (M203) وبنادق قنص من طراز ريمنجتن (M24) و(باريت M82A1) ومضاد للدبابات من طراز (لاو M72) (RBG7) ورشاش ماج ونيقب براوننج، ومدفع قاذف للقنابل من طراز ساكو ديفنز (MK19) ومن طراز بكليبر 40 إم إم.
ويأتي ضمن المركبات التابعة له ناقلات جند من نوع M113، وسيارات جيب محمية من طراز ستورم مصفح وسيارات هامر، وكلها تدل على طبيعته كسلاح مشاة وليس سلاح مدرعات.
وعند مراجعة أحدث صور وفيديوهات قام الجنود الإسرائيليون المتمركزون في معبر رفح بنشرها، لاحظنا عدم ظهور أي دبابات أو مدرعات في خلفية الصور، بعكس ما كان الوضع عليه في اليوم الأول للاقتحام.
سبب وجود قوات "ناحال مشاة" في المعبر
هنا في المرحلة الأخيرة من التتبع كان التساؤل حول أهمية وجود قوات "ناحال مشاة 932" في معبر رفح الجانب الفلسطيني، والفرق بينها وبين وجود قوات عسكرية بمدرعات وتسليح كبير؟ ولماذا اكتفت إسرائيل فقط بقوات مشاة على معبر رفح وقرب الحدود مع مصر؟
عُدنا إلى اتفاقية كامب ديفيد الموقَّعة بين مصر وإسرائيل، والمعروفة باتفاقية السلام، والتي أنجزت بوساطة أمريكية في نهاية السبعينات من القرن العشرين، فوجدنا أن الاتفاقية أنهت الصراع بين مصر وإسرائيل، ورسم البروتوكول الملحق بالاتفاقية الحدود بين البلدين، وقسمها إلى أربع مناطق رئيسية تقع ثلاث منها في شبه جزيرة سيناء بالأراضي المصرية، وواحدة داخل إسرائيل تسمى المنطقة "د".
وتتيح الاتفاقية تواجد قوة عسكرية إسرائيلية محدودة من أربع كتائب مشاة لا يتجاوز عدد جنودها 4 آلاف، في المنطقة "د"، وتحصينات ميدانية محدودة، فضلاً عن مراقبين من الأمم المتحدة. ولا تتضمن القوة الإسرائيلية في هذه المنطقة أي دبابات أو مدفعية أو صواريخ فيما عدا صواريخ فردية أرض/جو.
المنطقة "د" تمتد بعمق 2.5 كيلومتر من الحدود الإسرائيلية مع مصر، وتشمل كذلك الشريط الحدودي داخل قطاع غزة مع مصر. وكانت القوات الإسرائيلية تسيطر على الشريط الحدودي مع مصر داخل غزة بما يشمل المنطقة الحدودية المتاخمة للحدود المصرية والمعروفة بمحور فيلادلفيا التي تمتد بطول 14 كم، حتى انسحابها من القطاع بشكل أحادي عام 2005.
أخذنا كل هذه التفاصيل وعرضناها على الضابط المصري السابق سمير راغب، مدير المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، والذي قال في تصريحات لـ"عربي بوست"، إن قوات الاحتلال الإسرائيلي موجودة الآن في كل مكان في غزة، وبالتالي فهو انتهاك لاتفاقية فك الارتباط، في جزئها الخاص بفلسطين، موضحاً أن اتفاقية فك الارتباط كانت تتضمن جزأين، أحدهما يخص احتلال غزة، والآخر يخص الحدود مع مصر.
وأشار إلى أن إعادة احتلال غزة مرة أخرى بعد طوفان الأقصى هي انتهاك إسرائيلي لاتفاقية فك الارتباط في جزئها الخاص بفلسطين، إذ تضمنت الاتفاقية الانسحاب الكامل من قطاع غزة، وهو ما حدث في عام 2005.
أما بخصوص الجزء الخاص بالحدود مع مصر، فأشار سمير راغب، في تصريحاته الخاصة لـ"عربي بوست"، إلى أن معبر رفح الفلسطيني يقع ضمن بنود المنطقة " د" التي تضمنها اتفاق فك الارتباط بين إسرائيل وجزئها الثاني مع مصر، موضحاً أن المنطقة "د" تقيّد وجود قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدد 4 آلاف جندي إسرائيلي، وبأسلحة خفيفة دون أي تسليح ثقيل مثل المدرعات.
وأشار إلى أن دخول المدرعات الإسرائيلية معبر رفح الفلسطيني هو "خروقات" إسرائيلية، مثلها مثل الخروقات التي يقوم بها الاحتلال كل فترة ضد مصر، وأن هذه الخروقات يتم تسجيلها في اللجنة المشتركة بين الطرفين والتي تقوم بتسجيل أي خروقات يقوم بها أي طرف لاتفاقية فك الارتباط، ومن حق مصر أن تطالب بغرامات مالية، وفق ما نصت عليه بنود الاتفاقية بين الطرفين.
وأكد في تصريحاته لـ"عربي بوست" أن الاحتلال بعد أن اقتحم معبر رفح بالمدرعات قام بسحب المدرعات والإبقاء على قوات المشاة فقط "احتراماً لاتفاق فك الارتباط في جزئه الخاص بالحدود مع مصر"، على حد تعبيره.
لكن سمير راغب نفى أن يكون احتلال معبر رفح من الجانب الفلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي هو إعلان حرب أو انهيار لمعاهدة كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، مؤكداً أن احتلال معبر رفح هو رسالة إلى "حماس بأنها لن تترك لها معبر رفح مرة أخرى"، وأن "سحب المدرعات العسكرية من معبر رفح هو رسالة إلى مصر بأن ملحق اتفاقية كامب ديفيد يعمل ولا توجد أي مشكلة في تطبيق بنوده".
أهمية معبر رفح
يعتبر معبر رفح منفذاً بالغ الأهمية لمرور المساعدات إلى القطاع وإخراج المصابين في الحرب. ويشكل معبر رفح شريان الحياة الرئيسي بين العالم الخارجي وسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، فهو المنفذ الوحيد في القطاع الذي لا تديره إسرائيل؛ إذ أتاح، منذ بداية الحرب قبل سبعة أشهر، دخول الإمدادات الإنسانية ونقل المرضى إلى الخارج في ظل انهيار مرافق الرعاية الصحية، وفق ما قال تقرير نشرته وكالة "فرانس برس". وأفادت مصادر في مجال العمل الإنساني بأن تدفق المساعدات من المعبر توقف.
في حين تسيطر إسرائيل على جميع المنافذ البحرية والجوية إلى غزة وعلى معظم حدودها البرية وشددت إسرائيل القيود التي تفرضها على القطاع ليصبح حصاراً شاملاً بعد هجوم حماس عليها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 والذي رد عليه الجيش الإسرائيلي بشن حملة عسكرية واسعة على غزة.
وخلّفت الحرب الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عشرات آلاف القتلى والجرحى من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وحوالي 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة أطفال ومسنين.
وتواصل إسرائيل الحرب رغم صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف القتال فوراً، وكذلك رغم أن محكمة العدل الدولية طالبتها بتدابير فورية لمنع وقوع أعمال "إبادة جماعية"، وتحسين الوضع الإنساني بغزة.