منذ تعيينه وزيراً للداخلية في يوليو/تموز 2020، دأب وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، على توجيه مدفعيته صوب كل ما له علاقة بـ"الإسلام السياسي في فرنسا"، ودأب كذلك على الترويج لفكرة "الانفصالية الدينية" وتأثيرها على "تماسك ووحدة المجتمع الفرنسي"، وسط تحذيرات من إشعال "حرب مدنية" بسبب استهداف المسلمين بالبلاد.
وفي محاولة جديدة منه لحشد المجتمع الفرنسي ضد ما يسميه "خطر الإسلام السياسي في فرنسا"، أعلن دارمانان الأحد 5 مايو/أيار 2024، عن إطلاق مهمة حول "الإسلام السياسي وحركة الإخوان المسلمين"، وأوكل مهمة إعداد تقرير تفصيلي لمسؤولَين، أحدهما كان سفيراً لفرنسا بدول عربية.
يأتي ذلك بعد أن كانت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) قد تبنت في شهر يوليو/تموز 2021، بشكل نهائي مشروع قانون "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية" المثير للجدل، والذي جرى التعريف به أول مرة باسم "مكافحة الإسلام الانفصالي"، وأثار انتقادات كثيرة واتهامات للسلطات الفرنسية باستهداف المسلمين في البلاد.
تقرير عن الإسلام السياسي في فرنسا
يوم الإثنين 6 مايو/أيار 2024، تداولت وسائل إعلام فرنسية بياناً صادراً عن وزارة الداخلية الفرنسية، أعلنت من خلاله أن الحكومة قررت إسناد مهمة إعداد تقرير عن "الإسلام السياسي في فرنسا وحركة الإخوان المسلمين" إلى اثنين من المسؤولين سيقومان بتقديمه في الخريف المقبل.
حسب بيان وزارة الداخلية، فإن هذه المهمة التي يقودها الدبلوماسي المتقاعد فرانسوا غوييت، الذي كان سفيراً في أكثر من دولة عربية، والمحافظ باسكال كورتاد، يجب أن يقوما بإعداد "جرد لتأثير الإسلام السياسي في فرنسا".
وتؤكد الوزارة أن "مكافحة النزعة الانفصالية تتطلب فهم هذه الظاهرة برمتها، وإدراك المؤسسة السياسية التي تمثلها".
حسب ما ذكرته وسائل إعلام محلية، فإنه يتم تقديم هذا العمل على أنه يتماشى مع الخطاب حول "الانفصالية" التي أعلنها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في عام 2020، وأدت إلى سن "قانون مبادئ وقيم الجمهورية" عام 2021.
وجاء في البيان الصحفي: "إن الانفصالية الإسلامية هي مشروع سياسي ديني نظري، يتميز بالانحرافات المتكررة عن مبادئ الجمهورية بهدف بناء مجتمع مضاد"، ويضيف البيان: "إن حركة الإخوان المسلمين تلعب دوراً رئيسياً في نشر مثل هذا النظام الفكري".
وزعم بيان وزارة الداخلية الفرنسية أن دور الإخوان المسلمين "يتجسد من خلال الممارسات المناهضة للجمهورية، مثل إخراج القاصرين الصغار من المدرسة أو تطوير الأنشطة الثقافية والرياضية المجتمعية"، على حد قوله.
فيما أشارت وسائل إعلام فرنسية إلى أنه يتعين على المكلفين بالمهمة تحليل "الأهداف والأساليب التي تستخدمها حركة الإخوان المسلمين في هذا السياق، ومواءمة الوسائل الحالية لسياسة مكافحة النزعات الانفصالية للرد عليها".
بينما قال نجيب أزرقي، رئيس اتحاد المسلمين الديمقراطيين في فرنسا" ومرشح الرئاسة السابق، إن الانفصالية هي ببساطة استراتيجية انتخابية لمحاولة نسيان الإدارة الكارثية للحكومة (أزمة السترات الصفراء، أزمة فيروس كورونا، قمع الحريات، تدهور جودة الخدمات العامة، وما إلى ذلك) من خلال عرض المسلمين للانتقام الشعبي.
ما الذي يخشاه وزير الداخلية الفرنسي؟
صحيفة "Le Journal Du dimanche" ذات التوجه اليميني قالت في تقرير نشرته السبت 4 مايو/أيار، إن وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، يريد "إحداث صدمة" في البلاد، وإنه يعتزم استغلال ثقل منصبه من أجل ما وصفته بـ"المعركة"في مواجهة الإسلام السياسي في فرنسا.
الصحيفة نقلت عن مقربين من وزير الداخلية الفرنسي قولهم: "لسنا بحاجة إلى هذا التقرير (الإسلام السياسي في فرنسا) لنفهم ما يحدث، نحن نعرف ذلك. لكن من الضروري إقناع فرنسا والمؤسسات والمنتخبين المحليين وصناع القرار".
وكل ذلك يتم تحت إشراف الرئيس ماكرون، والذي طلب في آخر اجتماع لمجلس الدفاع إعداد تقرير عن "حالة التهديد الذي تشكله جماعة الإخوان المسلمين اليوم"، تقول الصحيفة الفرنسية، وسيمنحها كل ما تحتاجه من أجل النجاح في مهمتها.
إذ إن اختيار فرانسوا جوييت لإعداد تقرير عن الإسلام السياسي في فرنسا، لم يكن من قبيل الصدفة، فالدبلوماسي الفرنسي المتقاعد الذي يتقن اللغة العربية وملم بقضايا العالم العربي والإسلامي، سبق أن اشتغل سفيراً في الإمارات والمملكة العربية السعودية وليبيا وتونس ثم الجزائر إلى غاية 2022.
وستستفيد اللجنة من دعم المصالح المختصة للدولة الفرنسية، وستتواصل مع الخبراء والباحثين والمنظمات المؤهلة في هذا الموضوع، على أن يتضمن التقرير تحليل الأمثلة الأجنبية في أوروبا والشرق الأدنى والأوسط في مواجهة "الإسلام السياسي".
دارمانان "البارون الأسود للرئيس"
منذ تعيينه قبل 4 سنوات وزيراً للداخلية أثار جيرالد دارمانان الكثير من الجدل بسبب مواقفه المتطرفة من الإسلام والمسلمين، ولم يترك مناسبة عامة أو خاصة إلا وصوب مدفعيته نحو "الإسلام السياسي في فرنسا" واتهمه بمحاولة تقسيم المجتمع.
فالرجل جعل من محاربة الإسلام هدفاً مركزياً لسياسته وطريقاً لتسلق المناصب السياسية ولو على حساب الوازع الأخلاقي، وهو ما أكده الصحفي الفرنسي لوران فالديغييه، في كتابه "دارمانان البارون الأسود للرئيس"، الذي تطرق فيه لشخصية وزير الداخلية وتدرجه في المناصب منذ طفولته.
فالديغييه وصف دارمانيان بأنه شخصية سياسية "تحاول المستحيل للوصول إلى السلطة، ولو على حساب الوازع الأخلاقي". وذكر الكاتب والصحفي في مجلة "Marianne"، أن التخلي عن "عائلته السياسية" لم يأخذ من دارمانان سوى ثلاثة أيام.
فقد كانت كافية ليرمي وراء ظهره عشرين سنة من النشاط السياسي في صفوف اليمين، وكل العلاقات والزمالات التي كونّها في هذه العائلة ليلتحق بالرئيس إيمانويل ماكرون والوظيفة السامية التي عرضها عليه، يقول الصحفي الفرنسي.
الحرب على الإسلام لأغراض سياسية
طموح دارمانان لن يقف عند منصب وزير الداخلية، فهو يسعى من خلال حربه على "الإسلام السياسي في فرنسا" لكسب نقاط في سعيه لخلافة إيمانويل ماكرون في رئاسة البلاد.
حيث قال أزرقي إن وزير الداخلية الفرنسي "يقوم بحملته الانتخابية استعداداً للاستحقاق الرئاسي المقبل سنة 2027، وهذا أمر لا يخفى على أحد".
كما أوضح أزرقي في تصريح لـ"عربي بوست" أن دارمانان يدرك جيداً أن المنافسة صعبة، خاصة مع وجود رئيس الحكومة الحالي غابرييل أتال الذي تميز بدوره باستهداف المجتمع المسلم، ولا سيما بعد قراره الأخير بحظر ارتداء العباءة في المدارس.
ويعلم دارمانان أيضاً أنه لكي يسجل نقاطاً أكثر، سيتعين عليه أن يفعل ما هو أفضل مما يفعله اليمين المتطرف. ولهذا السبب، يقول أزرقي، بدأ المسؤول الفرنسي منذ سنوات تفكيك المنظمات الإسلامية مثل جمعية "بركة سيتي" أو "التجمع ضد الإسلاموفوبيا CCIF" ومطاردة الأئمة مثل حسن إيكويسن.
وقد مكنت هذه الحالات التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق من إضفاء الطابع الديمقراطي على الإسلاموفوبيا في فرنسا وأكسبت وزير الداخلية سمعة سيئة.
إلا أن دارمانان أدرك أنه سيتعين عليه اتباع هذه الاستراتيجية في مواجهة الإسلام السياسي في فرنسا حتى لا يتخلف عنه خصومه، "وهو يواصل اليوم مهارته الفردية من خلال مهاجمة اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (مسلمو فرنسا) سابقاً" يوضح أزرقي.
كما أدرك دارمانان أن بعض المصطلحات، مثل "الإسلام السياسي" أو "الإخوان المسلمون" لها تأثير قوي على الناخبين الفرنسيين.
وفي الواقع، ركز السياسيون وبعض وسائل الإعلام تغطيتهم على هذه الرؤية الخاطئة لدرجة تصوير المسلمين وكأنهم لا يسعون إلا إلى فرض دياناتهم على الآخرين، مما أدى إلى انتشار هذا الخوف بسرعة وسط المجتمع.
في هذا السياق، نستذكر تصريحات دارمانان بشأن لاعب كرة القدم كريم بنزيما الذي اتهمه وزير الداخلية بأنه أخ مسلم "سيئ السمعة" دون تقديم أدنى دليل، وقال أزرقي لـ"عربي بوست" إن دارمانان "يواصل اليوم شيطنته للمسلمين، فانتخابه ينذر بإشعال نار حرب مدنية جديدة في بلادنا".