كانت الأصوات على باب قسم الخدج داخل مستشفى المنيرة العام بالقاهرة مرتفعة بشدة، وذلك إثر المشادة بين أبٍ لأحد الرضع والممرضة التي ترفض دخول زوجته لإرضاع رضيعها، مطالبة بإحضار اللبن الصناعي.
الأب سمير، الذي حُجز رضيعه البالغ من العمر 5 أيام، بسبب إصابته بالصفراء قال لـ"عربي بوست" إنه غير قادر على شراء علبة اللبن الصناعي بسبب ارتفاع سعره، في الوقت الذي يتوفر فيه لبن الأم، لكن القانون يمنعها من الدخول.
وبحسب تعليمات مستشفى المنيرة، فإنه لا يسمح للأم بالدخول إلى داخل قسم الخدج نهائياً، وعلى الأب إحضار علبة لبن أطفال كل 3 أيام، وذلك لحين خروج الطفل من المستشفى.
ويعاني مستهلكو لبن الأطفال الصناعي بمصر من نقص حاد في توفر الكميات، بالإضافة لارتفاع أسعاره إلى مستويات قياسية إن توفرت، وذلك حسب عددٍ من الأهالي، الذين تحدثوا لـ"عربي بوست".
أما بخصوص اللبن المدعم فيجد عدد من الأسر المصرية صعوبة في الحصول عليه، بسبب الشروط التي وضعتها الحكومة أمام الأسر، الأمر الذي تسبب في نشوء سوق سوداء لهذا النوع من اللبن الأقل ثمناً.
فيما تواجه الكثير من الأسر صعوبات جمة للحصول على علب لبن الأطفال المدعم، وهو ما أوجد سوقاً سوداء للبن الأطفال خلال الأيام الماضية.
في المقابل، اختار عدد من الأسر المصرية العودة للطرق التقليدية لإرضاع أطفالهم، كالبحث عن مرضعة دون مقابل في محيط العائلة والجيران والمعارف، يمكن أن تساعد في تخفيف تأثير غلاء ألبان الرضع على الأطفال.
المرضعة أو حليب المعزة.. العودة لعادات الماضي
"لا يوجد حل غير أن أكمل إرضاع طفلتي من الأسر المقربة والأصدقاء الذين لديهم طفل رضيع، فأنا أوفر لابني 4 أو 5 رضعات طبيعية في اليوم لأني لا أملك المال الكافي لشراء اللبن الصناعي".
هكذا تحدثت خديجة محمود، أم لطفلة حديثة الولادة، في يومها العشرين من الولادة، وذلك بعد إخبارها من طرف الاختصاصية بوحدة نسيم الطبية بمنطقة الهرم، بأنها لن تحصل على اللبن المدعم إلا بعد مرور شهر على الولادة.
وفي إحدى قرى مدينة ملوي، التابعة لمحافظة المنيا، إحدى محافظات صعيد مصر، رصد "عربي بوست" بدائل الرضاعة الطبيعية في حال عدم توفر اللبن الصناعي.
تقول أم حسين: "كانت الأم تستطيع أن تحصل على علب كافية من اللبن الصناعي من الوحدة الصحية، ولكن حصل تشديد على الأمر خلال السنوات الأخيرة، لذلك نلجأ لعدة حلول".
طبعاً الأول نبحث عن الأقارب والجيران الذين لديهم أطفال صغار، ونتفق معهم على إعطاء الطفل رضعة بشكل منتظم، وطبعاً بنختار كذا حد، علشان السيدة تعطي رضعة واحدة في اليوم حتى لا تقصر مع طفلها".
وحتى منتصف القرن التاسع عشر، حين ظهر اللبن الصناعي المطور، وأصبح بديلاً عن المرضعة وعن الرضاعة الطبيعية، كانت المرضعة هي البديل للطفل الذي لا يجد لبناً من أمه، قبل أن تختفي الظاهرة منذ أكثر من 30 عاماً بمصر.
بالإضافة إلى المرضعة، هناك بعض الأسر التي التجأت لشراء لبن الماعز لإرضاع أطفالهن، بسبب تركيبته الخفيفة التي لا تؤثر على الرضع، وكانت الأمهات تستعملنه قديماً لتعويض نقص اللبن عند الأم.
تقول أم حسين لـ"عربي بوست": "نُعطي الأطفال لبن ماعز، ولو كان غير موجود نعطي لهم لبناً بقرياً ولكن نخففه بالمياه، ليكون خفيفاً على معدة الطفل، والمشروبات الساخنة طبعاً شيء أساسي، بعض الكراوية أو الينسون أو الحلبة".
وتضيف "ننتظر مرور الشهور الستة الأولى لإطعام الطفل، كما يوصي الأطباء، مع بداية الشهر الثالث، نعطى الطفل أكلات خفيفة، كرضعة مياه الأرز، أو خضراوات مسلوقة، وتلك عادات متوارثة عن أجدادنا، وبدأنا نعود إليها مع غلاء اللبن الصناعي".
شروط صارمة للحصول على اللبن المدعم
يقدر احتياج الأسر إلى لبن الأطفال في مصر من 40 إلى 60 مليون عبوة سنوياً، وهناك مصدران للحصول عليه، إما من خلال السوق الحر عبر الصيدليات، والثاني، وهو الأكبر، هو اللبن المدعم.
ويُقدم لبن الأطفال في مصر المدعم من خلال مراكز الطفولة والأمومة عبر أكثر من 1100 منفذ على مستوى الجمهورية، ويتم صرفها بعد توافر مجموعة من الشروط الصعبة بحد أقصى 6 عبوات شهرياً.
وتتراوح أسعار لبن الأطفال المدعم في مصر حسب النوع، بين 5 و26 جنيهاً، وبحسب ما رصده "عربي بوست"، في زيارة ميدانية لوحدة نسيم الطبية بمنطقة الهرم، فإن هناك شروطاً صارمة للحصول على اللبن المدعم.
وأثناء انتظارها لدخول اللجنة الطبية بالوحدة الصحية، قالت أم ياسين، في العقد الثالث من عمرها، لـ"عربي بوست"، إن هناك صعوبة بالغة للحصول على اللبن المدعم، فغالباً ما يتم إعطاء اللبن في حالات محددة مثل وفاة الأم، أو إثبات إصابة الرضيع بأمراض الحساسية، أو وجود توأم.
وأضافت المتحدثة أن اللجنة الطبية ترفض معظم الطلبات، حيث تشترط بالإضافة إلى ما ذكر أن تكون الأم ليس لديها لبن نهائياً بصدرها، فبعد تجهيز الأوراق المطلوبة يتم عرض الأم على لجنة طبية للتأكد من شروط الاستحقاق.
وتضيف أم ياسين: "والله لولا غلاء الأسعار بالخارج ما كنت جئت إلى هنا، ولكن خلال الشهر الأول من عمر طفلي كانت تكلفة اللبن الصناعى فقط 2000 جنيه، فأرخص علبة لبن في السوق الآن 200 جنيه، والطفل يستهلك علبة كل 3 أيام".
وأضافت المتحدثة: "كنت مجبرة على شرائه خلال الشهر الماضي، لأنه لا يسمح بصرف اللبن إلا بعد مرور شهر على الولادة، وأنا اللبن لدي ضعيف جداً، أو لا يكاد يكون موجوداً".
من جهتها تقول اختصاصية مكتب الصحة، إنه للأسف يتم رفض أكثر من 50% من طلبات الحصول على اللبن المدعم، وخلال الأشهر الماضية زادت أعداد الراغبين بالحصول على لبن الأطفال بشكل كبير.
وأضافت المتحدثة لـ"عربي بوست" أنه حتى نوعية الأسر اختلفت، ففي الماضي كان أغلب الأسر ذات مستوى اجتماعي محدود، ولكن الآن تحضر إلينا أسر بمستويات أعلى، فالجميع يعاني من الغلاء بمصر الآن.
وأشارت المتحدثة إلى أن هناك سوقاً سوداء كبيرة لبيع لبن الأطفال المدعم، كما أن هناك الكثير من الأمهات التي تقوم ببيع اللبن الذي تحصل عليه من الدولة، ولكن بمكسب لا يقل عن 100 جنيه في العلبة.
وعلى موقع فيسبوك توجد مجموعات لبيع لبن الأطفال في السوق السوداء، ومنها صفحة "لبن أطفال بيع شراء استبدال"، والتي يوجد بها أكثر من 17 ألف شخص، حيث تتم يومياً عمليات عرض للبن المدعم.
ارتفاع 220% في الأسعار وبعض الأصناف مختفية
وفي جولة لـ"عربي بوست"، بعدد من الصيدليات في عدة مناطق في القاهرة، تبين وجود نقص في بعض أصناف ألبان الأطفال، وارتفاع سعر أصناف أخرى، وكان بالفعل أرخص ثمن لعلبة اللبن الصناعي لحديثي الولادة هو 200 جنيه.
يقول أحد الصيادلة لـ"عربي بوست" هناك عدم استقرار في الأسعار وقلة ببعض الأصناف، كاللبن الخاص بالمواليد أقل من 9 أشهر، والذين يتعرضون للقيء المتكرر، كما أنه تظهر أنواع وتختفي أنواع أخرى من الألبان.
وبحسب المدير التنفيذي لجمعية "الحق في الدواء"، محمود فؤاد، فإن أسعار لبن الأطفال الصناعي في مصر ارتفعت 220% في المتوسط خلال عام واحد فقط.
وحسب المتحدث ارتفعت أسعار أحد أنواع لبن الأطفال الصناعي المستورد بنسبة 250% خلال عام واحد فقط، فيما وصلت بعض الأسعار إلى 900 جنيه للعبوة الواحدة.
وقال: "يبلغ استهلاك السوق المحلية من لبن الأطفال سنوياً نحو 50 مليون عبوة، تستورد مصر نصفها من الخارج، وبالتالي الأسعار تأثرت بانخفاض قيمة الجنيه، وارتفاع تكاليف الشحن وغيرها".
وتعود أزمة ألبان الأطفال بمصر إلى عام 2016 حين صرح الدكتور شريف السبكي العضو المنتدب للشركة المصرية لتجارة الأدوية، المسؤولة وقتها عن استيراد ألبان الأطفال، أن ما تخزنه الشركة من اللبن المدعم يكفي 4 أشهر فقط، وهو ما أحدث موجة كبيرة من غلاء عبوات اللبن.
وفي أزمة 2016، أعلن حينها المتحدث العسكري السابق باسم القوات المسلحة، العميد محمد سمير، أن الجيش تعاقد، بالتنسيق مع وزارة الصحة، على استيراد عبوات لبن للأطفال الرضع، وخرج ليعلن عن تخفيض 50% في سعر العبوة المعروضة في الأسواق بعد الغلاء.
وقال إن الجيش استطاع توفير العبوة للمواطن المصرى إلى 30 جنيهاً بدلاً من 60 جنيهاً، أى بنسبة تخفيض تصل إلى 50%، وذلك عبر استيراد 30 مليون عبوة لبن.
ومن المتوقع أن يرتفع سعر لبن الأطفال مرة أخرى، بعد التعويم الأخير للجنيه المصري وانخفاض قيمته أمام الدولار، وذلك بسبب التهيؤ لرفع أسعار مجموعة من الأدوية، حسب ما أعلن رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية في مصر، علي عوف.