التحقت الجزائر بالدولة العثمانية رسمياً سنة 1519م، بعد استنجاد أهالي مدينة الجزائر بالخليفة العثماني سليم الأول (1512-1520م)، الذي لبّى هذه الاستغاثة جراء الهجومات الأوروبية.
وتبع تأسيس إيالة الجزائر (الوصاية العثمانية) إنشاء العديد من المؤسسات السياسية والعسكرية التي كان لها دور مهم في تطور الجزائر إبان تلك الحقبة مع سيطرة الأسطول الجزائري على البحر الأبيض المتوسط.
ويعد الجيش الانكشاري من أهم المؤسسات التي أنشئت بعد إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية، ليكون رافداً مهماً لاستقرار الجزائر في تلك الفترة على المستويين الداخلي والخارجي.
"عربي بوست" بحث في هذا التقرير تاريخ الانكشارية في الجزائر ودورها خلال الحقبة العثمانية، ووصل إلى أهم المعالم الخاصة بها داخل مدينة الجزائر.
الانكشارية في الجزائر
الحديث عن الانكشارية إبان الحقبة العمانية في الجزائر، جر "عربي بوست" للتواصل مع الأستاذة الجامعية وهيبة بن قطوش، التي قالت إن تأسيس فرقة الانكشارية بالجزائر يعود إلى سنة 1520م، بعد عام فقط من ترسيم إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية.
وتشير وهيبة قطوش، إلى واقع تأسيس هذه الفرقة العسكرية؛ حيث كان ذلك حينما أرسل السلطان العثماني إلى خير الدين بربروس بالجزائر دعماً عسكرياً كبيراً لمواجهة التهديدات الأوروبية والحملات الإسبانية على وجه الخصوص التي تهدد سواحل المدن الجزائرية.
وتتابع في السياق قائلة: "بلغ تعداد هذه القوات حوالي ألفين من الانكشارية في الجزائر إضافة إلى الأسلحة، كدفعة أولى ليلتحق بهم بعد ذلك حوالي أربعة آلاف جندي من المتطوعين".
وتذكر الأستاذة المختصة في التاريخ العثماني، أنه يتم تجنيد الانكشارية من العديد من المناطق التابعة للدولة العثمانية، خاصة من الأناضول كسواس، مرعش، وطرابزون، ومن أوروبا الشرقية كالبوسنة وألبانيا، ومن كريت وقبرص وطوروس.
وكذا من مناطق شمال أفريقيا كتونس وطرابلس، خاصة أثناء الحصار الفرنسي على الجزائر سنة 1827، ومن جبل طارق ومنطقة لفورنة Livourne، حيث تتم عملية التجنيد من خلال "الدائيات" ويقوم الوكلاء باستعمال مختلف أساليب الدعاية والاغراء بحياة مريحة ورفاهية يتحصل عليها المجند في الجزائر، حسب ما تلفت إليه محدثتنا.
وتضيف الأستاذة الجامعية في حديثها مع "عربي بوست" أن الانكشارية في الجزائر يمثلون الجيش النظامي للجزائر، أفراده من المجندين من العديد من الولايات التابعة للدولة العثمانية ثم انضم إليهم الكراغلة.
وبخصوص الرتب العسكرية الخاصة بالانكشارية، توضح قطوش أن الجندي يتدرج في رتبه ابتداء من اليولداش وهي أدنى رتبة في الأوجاق يأخذها المجند مباشرة بعد وصوله إلى الجزائر وإعطائه رقماً خاصاً به.
وتواصل قائلة: "بعد ثلاث سنوات يصبح يني يولداش (ثم الاسكي يولداش) وبعد ثلاث سنوات أخرى يصبح باش يولداش أي رئيس فرقة فيكيلهارجي تعادل عريفاً أول، ثم تأتي خمس رتب في صف الضباط هي "أوداباشي ملازم أول، ولوكباشي (بولكباشي)، ونقيب، وأغاباشي رائد، وكاهيا عقيد، وآغا (جنرال)".
ثكنات عسكرية في مدينة الجزائر
تؤكد وهيبة قطوش، المختصة في التاريخ العثماني، أنه تم إنشاء عدة ثكنات عسكرية تخص الانكشارية في الجزائر التي كانت في مدينة الجزائر فقط، أما في باقي المدن فنجد الأبراج التي تقيم بها حاميات عسكرية.
من أبرز الثكنات العسكرية نجد ثكنة باب عزون التي كانت تعرف بدار الانكشارية أو الدار الكبيرة، وقد تم بناؤها سنة 1599، وثكنة الخراطين التي بُنيت في عهد خير الدين بربروس وتعتبر من أقدم الثكنات.
وكذا ثكنة المقرئين؛ حيث سميت بهذا الاسم نسبة لمقرئي القرآن المتواجدين بالمسجد القريب منها، إضافة إلى عدة ثكنات أخرى مثل "ثكنة أسطى موسى، وصالح باشا وعلي باشا"، حسب قطوش.
دور الانكشارية في الجزائر
تمكنت الجزائر خلال الحكم العثماني من تبوء مكانة سيادية في الساحة الدولية بفضل جيشها، واعتبرت إحدى القوى المسيطرة على البحر الأبيض المتوسط لمدة طويلة.
وأكد هذه المكانة ويليم سبنسر حين قال: "إن مدينة الجزائر كعاصمة لدولة مستقرة قوية في شمال أفريقيا، قد مثّلت ومعها تونس وطرابلس، القوّة الإسلامية العثمانية القاطعة المنهمكة في مصارعة الصليبية كالشفرة الحادة النافذة بعمق في العالم الإسلامي".
وفي هذا السياق، تشدد وهيبة قطوش، على أن المؤسسة الانكشارية في الجزائر عملت على توطيد الحكم العثماني في الجزائر وتثبيته، ورسخت الروابط بين الإيالة والباب العالي، وساهمت كذلك في استتباب الأمن بالجزائر، فأسس العديد من الحاميات العسكرية في مختلف مناطق الإيالة وواجهت التمردات.
وتوضح الأستاذة الجامعية أن الجيش الانكشاري استطاع السيطرة على إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية لإيالة الجزائر خلال العهد العثماني، وكثيراً ما كانت لها الكلمة الفاصلة في تعيين وعزل الحكام وكان خلال عهد الباشوات ثاني قوة بعد الباشا.
إضافة إلى ذلك كان دور الانكشارية في الجزائر كبيراً في إنعاش خزينة الإيالة عن طريق الضرائب التي كانت تفرضها خاصة بعد تراجع غنائم البحرية خلال القرن الـ18.
وقالت الأستاذة الجامعية لـ"عربي بوست": "مثلت التحصينات العسكرية والدفاعية التي أنشأها الانكشاريون كالحصون والأبراج عاملاً هاماً في التصدي للحملات الأوروبية وحماية البلاد من الهجمات الخارجية أو التمردات الداخلية".
4 أغاوات حكموا الجزائر
ولأن الحكم في الجزائر إبان الحقبة العثمانية شهد تغيرات عديدة منذ التحاق الدولة الجزائرية بالباب العالي في 1519 م، كان لزاماً علينا التطرق إلى مكانة الجيش الانكشاري وهل كان له نصيب من الحكم.
وتبرز الأستاذة المختصة في التاريخ، وهيبة قطوش، أن الانكشاريين وصلوا للحكم في الجزائر، وتوضح كلامها بقولها: "مثّل حكم الانكشاريين فترة الأغوات وكان عددهم أربعة حكام وكان الأغا -الذي يمثل أعلى رتبة في الجيش الانكشاري- هو الحاكم".
وتلفت قطوش إلى هوية هؤلاء الحكام الأربعة الذين هم البكباشي خليل آغا (1659-1660)، ورمضان آغا (1660-1661)، وشعبان آغا (1661-1665)، وعلي آغا (1665-1671).
الجامع الجديد "بصمة انكشارية خالدة"
ومن أبرز العلامات المخلدة لبصمة الجيش الانكشاري بالجزائري يبرز الجامع الجديد، الذي بُني سنة 1660 بطلب منهم وبتمويل من "سبل الخيرات" والتي تعد جمعية وقفية تابعة للمذهب الحنفي، حسبما أوضحه الأكاديمي المتقاعد المختص في العمارة الإسلامية، محمد الطيب عقاب.
ويبرز محدث "عربي بوست"، أن الانكشاريين كانوا وقتها في أوج عظمتهم ونفوذهم، وهو ما تجلى في رغبتهم في ترك بصمتهم ببناء جامع يحفظ اسمهم.
ويقال إن تخطيطه تم بيد شخص مسيحي لم يذكر اسمه، حيث تعمد هذا الأخير تصميمه في شكل مجنح تيمناً بالصليب، ليتم إعدامه بعد اكتشاف خدعته.
وبغض النظر عما يؤكده التاريخ أو ينفيه إلا أن مكانة المساجد في مدينة الجزائر، جعلت القادة يساهمون في توسيع وجودها، إذ يذكر ألبارت دوفو أن مدينة الجزائر كانت تضم عشية الاحتلال الفرنسي 1830، ما عدده 13 جامعاً كبيراً و109 جوامع صغيرة و32 معبداً و12 زاوية.
ووسط هذه التوليفة جاء الجامع الجديد الذي يتربع على مساحة 372 متراً مربعاً بقلب ساحة الشهداء، حيث يقابل القادم من المرسى ببياضه الناصع مع فخامة منظره، ويتخذ شكلاً مربعاً يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي.
وعند بنائه كان يتضمن 4 أبواب، سدت إحداها من طرف الإدارة الاستعمارية لاحقاً. وكتبت على أحد أبوابه أبيات من قصيدة البردة وهما البيتان:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا * من العناية ركنا غير منهدم
لما دعا الله دعينا لطاعته * بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
وكان أول من خطب على منبره الشيخ كراباش الأفندي، كما حاز الجامع مصحفاً يعتبر تحفة نادرة بزخرفتها وخطها، أهداه سلطان إسطنبول إلى باشا الجزائر، وهو اليوم محفوظ بالمتحف الوطني للآثار القديمة.
وعلى غرار باقي المساجد عانى الجامع الجديد من تجاوزات الاحتلال الفرنسي، إذ تم تغيير اسمه إلى "جامع الصيد البحري"، كما استولوا على أوقافه وغيروا واجهته البحرية وحجب عن الأنظار.
وعلقت عليه الإدارة الاستعمارية سنة 1857، 3 نواقيس بوزن: 50، 80، 120 كلغ على التوالي. ثم استخدم الجيش الفرنسي المبنى الأرضي من الجامع كمخازن سنة 1864.
معالم انكشارية في الجزائر
بعد الجولة الخفيفة التي قادتنا إلى الجامع الجديد بساحة الشهداء وسط العاصمة الجزائرية، توجهنا مباشرة إلى أعالي القصبة وتحديداً في باب جديد حيث تقع قلعة الجزائر أو دار السلطان التي افتتحت مجدداً أمام الزوار والسياح بالجزائر.
وغير بعيد عن جامع البراني الذي أعاد وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري، يوسف بلمهدي، افتتاحه يوم الثلاثاء 5 مارس/آذار الجاري، ومقابل لجامع الداي داخل القلعة، يوجد نادي الجيش الانكشاري القديم الذي يعد أهم مكان بالنسبة للجيش أين يتناول الجنود وجباتهم ويسترخون من عناء العمل اليومي وفيه يقضون أوقات فراغهم.
ووفقاً للتطور الذي عرفته القصبة فقد مر نادي الجيش بثلاث مراحل تعود أولاها للمرحلة السكانية من مراحل بناء القلعة، بينما تعود المرحلة الثالثة إلى أوائل القرن التاسع عشر حيث بُنِي نادٍ جديد فأصبح للقلعة ناديان جديد وقديم.
ويقع النادي القديم بين حمام الجيش من طابق أرضي وطابق أول، ويقع مدخل الطابق الأرضي بالناحية الشمالية الشرقية ويبلغ عرض بابه 1.26م وارتفاعه 2.6م وهذا الطابق عبارة عن قاعة كبيرة بها ستة أعمدة من الحجر الكلسي يقع غرب المدخل الرئيسي.
في حين يتكون الطابق العلوي من قاعتين ورواق يربط بينهما من الجهة الغربية، وإن كانوا في الأصل يشكلون قاعدة واحدة، يرتكز سقفها على أربعة أعمدة مضلعة، ونجد الصحن مفتوحاً يبلغ طوله 2.25 م وعرضه 2.14 م.
وأمام النادي القديم للانكشاريين داخل دار السلطان، يوجد حمام خاص بالجيش الانكشاري الذي يعد أحد الأبنية المكونة للمجمع التاريخي لقلعة الجزائر، ويقع في الجزء الغربي من مساحة مبنية تبلغ 466.70 متر مربع.
الحمام الذي أعيد ترميمه في السنوات الأخيرة، محاط بجناح الأغوات ومسجد الداي والحمام نفسه عبارة عن غرفة باردة بها مرحاض وغرفة دافئة وغرفة ساخنة وغرفة تقنية.