سلّط تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، الضوء على حجم المعاناة الكارثية في الخدمات الصحية بقطاع غزة، حيث تعاني من تدهور شديد؛ إذ يضطر الطاقم الطبي المنهك بعد ثلاثة أشهر من الحرب إلى استخراج الشظايا دون مسكنات ألم كافية، وإجراء عمليات بتر دون تخدير، ومشاهدة الأطفال وهم يموتون جرّاء إصابتهم بالسرطان بسبب نقص المرافق والأدوية.
وكشفت عشرات المقابلات مع أطباء ومسؤولين طبيين في غزة عن وضع كارثي متدهور تكافح فيه الخدمات الصحية للتعامل مع عشرات الآلاف من الضحايا، جراء الهجوم الإسرائيلي المستمر على القطاع وآثار الأزمة الإنسانية المتفاقمة.
ويتركز الاهتمام على الخسائر المباشرة الناجمة عن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، لكن خبراء الصحة يشعرون بقلق متزايد على الخسائر البشرية غير المباشرة من الحرب.
أطفال مصابون بسرطان الدم دون علاج
يقول الأطباء إن عشرات الآلاف من المصابين بأمراض مزمنة في غزة ظلوا دون علاج لعدة أشهر، وهم الآن "بدون مناعة"، بعد أن ضعفت أجسادهم بسبب سوء التغذية والبرد والتعب، وفي إحدى الحوادث التي وُصفت لصحيفة "الغارديان" توفي طفل مصاب بمشكلة دماغية قبل ساعات من وصول فريق الأمم المتحدة بالأدوية اللازمة لعلاجه.
الصحيفة نقلت عن أطباء الأورام في القطاع أنهم لم يتمكنوا من علاج المرضى الذين هم في أمسّ الحاجة إلى العلاج؛ مثل الأطفال المصابين بسرطان الدم أو الأورام التي تتطلب جراحة فورية لإنقاذ حياتهم.
في السياق، قال الطبيب صبحي سكيك، مدير عام الأورام في غزة، وهو أيضاً المدير العام لمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني هناك: "لا يتوفر لدينا ما نعطيه لهم، لا نستطيع إجراء العمليات الجراحية ولا نملك أية أدوية"، في حين اضطر قسم الأورام الرئيسي بالمستشفى إلى الإغلاق في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
أضاف سكيك: "يوجد أشخاص مصابون بسرطانات في الكبد والعظام والرئتين. وأنا مضطر لأن أشرح لهم حالتهم وأنه لا يوجد ما يمكننا فعله. لدينا مرضى مصابون بسرطان الدم، وكثير منهم أطفال، ماتوا. لا تتوفر لهم آلية دفاع، ولا جهاز مناعة، وفي هذه البيئة يكونون عُرضة لخطر بالغ".
350 ألف شخص مصابون بأمراض مزمنة
ومن أصل 36 مستشفى في غزة، 15 مستشفى منها فقط لا تزال مفتوحة، وثلاثة فقط لم تتضرر.
ويقول مسؤولو الصحة الفلسطينيون إن 350 ألف شخص في غزة مصابون بأمراض مزمنة وتنقصهم جميع الأدوية تقريباً، ومن بين المخاوف الرئيسية الأمراض النفسية التي تكاد تكون أدويتها منعدمة، إلى جانب أدوية علاج ارتفاع ضغط الدم.
وتنتشر الأمراض بسرعة أيضاً في الأماكن المزدحمة وغير الصحية، حيث يقول حسين عودة (37 عاماً)، الذي يعيش مع عائلته في كلية تدريب مهني تابعة للأمم المتحدة غرب خان يونس منذ دُمر منزله وقُتل كثير من أقاربه في بداية الحرب: "الجميع يسعلون. وجميع الأطفال مصابون بالإسهال أو التهابات الصدر، وتنتشر حالات التهاب الكبد الوبائي (أ) الآن أيضاً".
من ضمن المشكلات الرئيسية الوصول إلى الرعاية الطبية، فالوقود شبه منعدم في غزة، نتيجة القيود التي تفرضها إسرائيل، وبالتالي لا تتوفر وسائل نقل. ويقول أحد مسؤولي الأمم المتحدة في خان يونس إنه بحث عن حمار لنقل والده، الذي أُصيب بنوبة قلبية، إلى المستشفى.
بتر ساق بدون تخدير
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، اضطر طبيب في مدينة غزة لبتر الجزء السفلي من ساق ابنة أخته دون تخدير على طاولة في المنزل بعد تعرضها لإصابة عقب قصف المنزل، وحال القصف الإسرائيلي المكثف في المنطقة دون الذهاب بها إلى مستشفى الشفاء الذي يبعد حوالي ست دقائق بالسيارة.
كما أن انقطاع الاتصالات لعدة أيام، الذي تتسبب فيه إسرائيل، ينتج عنه مشكلات خطيرة لأنه يحول دون استدعاء سيارات الإسعاف.
وتتوجه طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني إلى مواقع الغارات الجوية أو القصف حين يرونها أو يسمعونها، لكن نبال فرسخ، المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، قالت إن المخاوف تشمل آخرين؛ مثل النساء اللائي يصلن لمرحلة المخاض، كما سُجّلت حالات متعددة عن نساء اضطررن للولادة في المنزل أو في الخيام دون رعاية طبية.
وقالت نبال إن 14 سيارة إسعاف دُمرت وتضررت 19 أخرى في القتال على مدى ثلاثة أشهر، ولم يتبق سوى حوالي 24 سيارة، في حين قُتل ثمانية من موظفي الهلال الأحمر وأصيب 29 آخرون.
وقالت السلطات الفلسطينية، الأسبوع الماضي، إن أكثر من 2000 شخص يصابون بالسرطان سنوياً في غزة، من بينهم 122 طفلاً.
"الظروف صعبة وخانقة جداً"
من جانبه، قال الطبيب البريطاني جيمس سميث، الذي سافر إلى غزة مع منظمة "المساعدة الطبية للفلسطينيين" غير الحكومية، إن مستشفى الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة، مثل المرافق الطبية الأخرى، تحول إلى مأوى لآلاف النازحين الذين يقيمون في أي مكان متاح.
وقال سميث إن الازدحام والضوضاء جعلا من تقديم الرعاية مهمة شاقة، مضيفاً: "الظروف صعبة وخانقة جداً".
وقال سميث: "وصل إلى المستشفى صبي في السادسة من عمره وكان ملفوفاً ببطانية ومصاباً بحروق كبيرة في وجهه وجرح خطير جداً في الصدر. ومن حسن الحظ أن وجدناه، وإلا لكان قد مات".
ومحدودية المرافق الطبية تعني الاضطرار إلى الانتظار عدة أيام قبل إجراء العمليات الجراحية لضحايا الحروق، ويؤدي النقص في الإمدادات الأساسية إلى قضاء البعض ساعاتهم الأخيرة في آلام مبرحة.
وقال سميث، الذي عاد من غزة قبل أسبوعين: "أُحضرت إلينا طفلة مصابة بحروق بالغة في وجهها وجذعها وجزء كبير من أطرافها؛ كانت لا تزال على قيد الحياة بطريقة أو بأخرى وتعاني آلاماً مبرحة؛ كانت بحاجة إلى مسكنات لكننا لم نتمكن من توفيرها لها. وفي النهاية، تم تخديرها".
وبلغ إجمالي حصيلة الحرب المدمرة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حتى السبت، 24 ألفاً و927 شهيداً، و62 ألفاً و388 مصاباً، وخلّفت كارثة إنسانية وصحية، وتسببت في نزوح نحو 1.9 مليون شخص، أي أكثر من 85% من سكان القطاع، بحسب سلطات القطاع والأمم المتحدة.