كشف مصدر مسؤول بمصنع أبو قرقاص لإنتاج السكر أن هناك أسباباً خفية وراء غلق المصنع الشهير، ترتبط بتعثر مفاوضات يقودها رئيس الشركة مع بنوك حكومية للتعاقد على قصب السكر من المزارعين لحين وصول قيمة مخصصات وزارة المالية لضمان وصول القصب إلى المصنع.
وأضاف المتحدث أن العاملين في المصنع لديهم معلومات بأنه بالفعل جرى الوصول لاتفاق مع البنوك، لكن سبب عرقلته هو تمسك الحكومة بعدم زيادة قيمة توريد قصب السكر من المزارعين.
وكانت الحكومة المصرية قد أعلنت وقف إنتاج قصب السكر بشركة أبو قرقاص، التي تعد أقدم الشركات العاملة في مصر، ويعود تاريخ تأسيسها لأكثر من 155 عاماً، عن حجم الأزمات التي تعانيها الزراعة والصناعة في مصر.
أزمة زراعية
تأثرت الزراعة في مصر سلباً بمجموعة من العوامل، في مقدمتها نقص المياه الذي قاد لتراجع زراعة قصب السكر في محافظات صعيد مصر (الجنوب).
وكشفت مصادر لـ"عربي بوست" أنه من بين الأسباب هناك فساد إداري سمح بوجود مئات الشركات غير المرخصة تعمل على إنتاج العسل الأسود دون رقابة.
وأضافت المصادر ذاتها أن هناك تواطؤاً من الحكومة التي تحاول إملاء شروطها لشراء قصب السكر من المزارعين بما يخدم خططها، مع الضغوط الكبيرة على الموازنة العامة، نهاية بدخول شركات أجنبية على خط الصناعة الأكثر نجاحاً في مصر.
وتقدم حسانين توفيق، عضو مجلس الشيوخ بمحافظة المنيا، بطلب مناقشة عامة بجلسات المجلس لوزير التموين ووزير الزراعة، لاستيضاح سياسة الحكومة بشأن الآليات العادلة لتسعير المحاصيل الزراعية خاصة الاستراتيجية، منها كقصب السكر.
ووصف النائب البرلماني توقف مصنع أبو قرقاص بـ"الكارثة" ولن تكون الأخيرة، في ظل افتقاد الدولة لسياسات زراعية تُراعي فيها مصلحة المزارعين بالدرجة الأولى.
وتعد هذه هي المرة الأولى التي يتوقف فيها مصنع سكر أبو قرقاص بمحافظة المنيا، والذي بُنيت ووضعت لبناته وصوامعه عام 1869 لاستقبال قصب السكر.
ومع إقفال المصنع، ستغيب المشاهد المعتادة لقطار الديكوفيل وهو يلف قرى ونجوعاً ليحمل قصب السكر، ويغيب كذلك مشهد اصطفاف سيارات النقل المحملة بالمحصول، في انتظار توريده للمصنع.
سد النهضة أحد الأسباب
وكشف مصدر مطلع بوزارة الموارد المائية والري لـ"عربي بوست" أن إغلاق المصنع التاريخي ضحية للفشل الحكومي في التعامل مع التأثيرات السلبية لسد النهضة على الزراعة في مصر، بعد أن بدا التأثير واضحاً على السد العالي بدءاً من هذا العام.
وأضاف المتحدث أن الأمر انعكس على ضعف الإنتاجية نتيجة لتراجع الأصناف المزروعة، والتي يعد أكثرها شيوعاً "سي 54 /9″، والتي يعتمد على زراعتها منذ 35 عاماً.
ومن بين أسباب إغلاق المصنع، يقول مصدر "عربي بوست"، اعتياد الفلاحين إغراق المحصول بالمياه خلال الأربعة أشهر الأخيرة قبل الحصاد في يناير/كانون الثاني، وهو أمر لم يتحقق بالقدر الكافي هذا العام، وبالتالي تأثرت الإنتاجية سلباً.
ويوضح المصدر أن الخطط الحكومية لزراعة قصب السكر حتى عام 2028 تستهدف مضاعفة زراعة بنجر السكر؛ لأنه لا يحتاج إلى كميات مياه هائلة كالتي يحتاجها قصب السكر، والوصول بزراعة القصب إلى أقل معدلاتها، لحين التعرف على الآثار المترتبة على بناء سد النهضة.
وقال المصدر نفسه إن القاهرة سعت خلال المفاوضات الأخيرة مع أديس أبابا لإطالة أمد ملء خزان سد النهضة ليستمر حتى عام 2026، غير أن الحكومة الإثيوبية رفضت، وهو الأمر الذي ستكون له نتائج سلبية على إنتاج السكر خلال العامين المقبلين.
وتوقع المصدر أن يتراجع إنتاج مصر الحالي من السكر من 2.8 مليون طن، بينها 1.8 طن من بنجر السكر، إلى 2 مليون طن فقط بحلول العام المقبل، وهو الأمر الذي سيترك تأثيرات سلبية على مصانع قصب السكر الحكومية.
ومن المتوقع، حسب المصدر نفسه، أن تتجه بعض المصانع الحكومية للإغلاق ولو بشكل مؤقت حتى تعود الإنتاجية بشكل مرتفع حال جرى التوصل لاتفاق مع أديس أبابا لإدارة سد النهضة وتشغيله.
تراجع إنتاج المنيا
وبحسب تصريحات أدلى بها الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية المصرية، اللواء عصام البديوي، فإن محافظة المنيا كانت تنتج 950 ألف طن من القصب.
وحسب المتحدث، كان المصنع يستقبل منها 750 ألف طن حتى عام 2020، ولكن في 2023 استقبل المصنع 90 ألف طن، ما أدى إلى خسائر بنحو 112 مليون جنيه.
وكشف المتحدث أن إدارة الشركة اجتمعت مع المزارعين لزيادة وارداتهم إلى مصنع أبو قرقاص، وأصبح 1500 جنيه بدلاً من 1000 جنيه، لكن كمية القصب المورد للمصنع انخفضت في 2023 إلى 10 آلاف طن، وهي كمية تكفي للعمل خمسة أيام فقط.
لذلك اتخذت الشركة قراراً بعدم عمل مصنع أبو قرقاص في القصب هذا العام، ورفعت كمية البنجر إلى مليون طن، وحولت توريدات القصب إلى مصنع جرجا بمحافظة سوهاج (جنوب)، مع تحمّل مصنع أبو قرقاص تكاليف النقل بالكامل.
هل يتضرر العمال من الإغلاق؟
من جهته، كشف مصدر مطلع بوزارة العمل المصرية لـ"عربي بوست" أن مصنع أبو قرقاص يعد أحد أفرع شركة السكر، التي تمتلك ثمانية مصانع لإنتاجه، وهي مملوكة للحكومة المصرية، وتتبع قطاع الأعمال العام.
وقال المصدر إن هذه المصانع كان يملكها أحد الباشوات في فترة الملكية يدعى عبود باشا، قبل تأميمها في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، بعدها جرى فيها العديد من التوسعات، وتعد من أنجح شركات قطاع الأعمال.
وأضاف أن المصنع يعمل به آلاف العمال، وليس هناك ضرر عليهم حتى مع قرار وقف إنتاج قصب السكر، لأن هناك خطوطاً أخرى تعمل على بنجر السكر.
وأشار إلى أن ما حدث هو توقف أحد خطوط الإنتاج، كما أن رواتب هؤلاء لن تتأثر؛ لأن مصانع السكر بالأساس تعمل في فترات قصيرة على مدار العام، وتنتظر موسم الحصاد، وبالتالي فالأمر معتاد عليه.
ما حدث هذا العام، حسب المتحدث، نتيجة عدم قدرة المصنع على الحصول على الكميات الموردة من قصب السكر، حيث اتجه المزارعون لبيع المحصول إلى تجار "العوادي" بأسعار تتجاوز الـ2200 جنيه و2500 جنيه للطن الواحد.
لافتاً إلى أن هؤلاء بدورهم يقومون بتوريده إلى مئات الشركات العاملة في إنتاج العسل الذي يلقى تجارة رائجة هذا العام مع النقص المستمر في السكر بالأسواق المصرية.
وسطاء وتجار وراء الأزمة
يستكمل المصدر: هذا العام انتشر وسطاء مجهولون عرضوا على مزارعين 112.500 ألف جنيه لشراء الفدان الواحد من قصب السكر، بينما عرضت الحكومة ما يقرب من 60 ألف جنيه، وهي تعلم جيداً أن تكلفة زراعة فدان القصب تتخطى 30 ألف جنيه على مدار عام كامل.
هؤلاء الوسطاء يقومون ببيعه لشركات استثمارية دخلت مجال صناعة السكر في مصر، ودفعت أكثر وزاحمت الشركات الحكومية، بعد أن كانت مسيطرة بشكل كامل على السوق.
وكشف المصدر عن أن لديه معلومات بأن تلك الشركات قامت أيضاً بالتعاقد من الباطن مع تجار العوادي بأسعار مضاعفة عن التي حددتها الحكومة، وبالتالي أضحى المزارعون والتجار والوسطاء مستفيدين.
كما أن هذه الشركات، حسب المتحدث، استفادت ببيع السكر في السوق المحلي بسعر مرتفع تجاوز 50 جنيهاً للكيلو، وتلجأ إلى التصدير بالتوافق مع الحكومة المصرية، شريطة أن تستورد كميات أخرى مماثلة وضخها بالسوق المحلية، لكن الأزمة تكمن في أن المنتج المستورد يكون أقل كفاءة من السكر المصري.
وفي شهر يناير/كانون الثاني 2018، وقّعت الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية المصرية (حكومية)، وشركة القناة للسكر التابعة لمجموعة الغرير الإماراتية، اتفاق مشروع استثماري متكامل يتضمن استصلاح وزراعة محصول بنجر السكر.
وأعلنت الحكومة المصرية العام الماضي الانتهاء من تنفيذ وتشغيل مصنع سكر القناة، وقالت إنه أكبر مصنع لإنتاج السكر في العالم، ويقام على مساحة 240 فداناً وملحق به مزرعة على مساحة 181 ألف فدان، باستثمارات أوصلتها الإمارات إلى ما قيمته مليار دولار، ينتج سنوياً بين 900 ألف طن ومليون طن سكر أبيض، وهو ما يمثل 35 ٪ من حجم إنتاج جميع مصانع السكر في مصر.
وتعد شركة سكر القناة إحدى الشركات التابعة لشركة "الخليج للسكر الإماراتية"، واللافت أنها تصدر 80% من إنتاجها إلى الدول الخليجية ودول شرق أفريقيا، وتستورد نحو 95% من السكر من البرازيل.
ولدى الشركة أكبر مصفاة مستقلة للسكر في العالم لإنتاج فقط 3% من الإنتاج العالمي، بحسب ما نشرته وسائل إعلام مختلفة، وهو ما يجعل هناك توقعات بأن بنجر السكر أو القصب الذي يذهب إلى الشركة يتم تصديره إلى الخارج.
تواطؤ حكومي
بحسب أحد العاملين بشركة أبو قرقاص، تحدث إليه "عربي بوست"، فإن القصة أبعد من مجرد توريد قصب السكر أو البنجر إلى الشركة الإماراتية التي تعتمد بالأساس على استيراد السكر من الخارج إلى جانب الحصول على العوادي أو البنجر من المزارع التابعة لها.
وبالتالي، حسب المتحدث، فإن تأثيرها يبقى بسيطاً، ولا يمكن أن يؤدي لاختفاء "العوادي" التي كان يصل منها ملايين الأطنان في السابق، والأمر يرجع إلى الحكومة التي تعد المتواطئ الأكبر في الأزمة الراهنة.
ويعدد المصدر أسباب ذلك، بأن الحكومة قصرت في ترخيص المصانع الأهلية التي تسببت في الأزمة الحالية، ويعد ذلك تواطؤاً منها مع بعض شركات الأغذية الكبرى التي تستفيد من العسل ومستخرجاته.
كما أنه كان يجب عليها أن ترفع سعر طن توريد قصب السكر من المزارعين بدلاً من التمسك بموقفها الرافض لأي زيادة، فالعقلية القديمة لا تصلح أزمات السكر العالمية في هذا التوقيت، لأنها تحدد قيمة شراء القصب بالمبلغ الذي تحدده في الموازنة العامة لدعم السكر الذي يحصل عليه المواطنين شهرياً من بطاقات التموين، وكان بإمكانها أن تضاعف السعر وتستفيد من ارتفاعات أسعار السكر في الأسواق وتعويض موازنتها.
ويشير إلى أن الحكومة لم تراقب عملية تطوير مصنع أبو قرقاص، والذي كلف 7 مليارات جنيه دون أن يشعر العاملون بأن هناك تطويراً يُذكر، وكان يمكن توفير تلك الأموال لتلافي الأزمة الحالية.
كما أن الحكومة، حسب المتحدث، لا تراقب خطط الشركة التي كانت تقول إنها سوف تحقق مبيعات تبلغ 17 مليار جنيه بنهاية العام الحالي، وهو أمر لم يحدث، بل إن العمال يستغربون من الحديث عن وجود خسائر، في حين أن هناك عملية تطوير أخيرة للشركة قبل عام ونصف تقريباً.
ويؤكد أن الخطأ الثالث والأفدح الذي وقعت فيه الحكومة أنها قامت بتعيين أحد اللواءات مديراً للشركة، ورغم أنه شغل من قبل منصب محافظ المنيا، لكنه ليس لديه خبرات تؤهله لأن يبقى على قيادة أحد أنجح شركات قطاع الأعمال العام، في حين أنه من المعهود أنه يتم اختيار أحد المهندسين من داخل الشركة لقيادتها ارتكاناً على الخبرات السابقة التي لديه.
ورفض نواب برلمانيون غلق المصنع أو نقله إلى أماكن أخرى، مشددين على ضرورة توفير محصول قصب السكر، لتشغيل المصنع لضمان زيادة الإنتاج لتوفير كافة احتياجات المواطنين.
وقدمت النائبة آمال عبد الحميد، عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، طلب إحاطة إلى الحكومة بشأن المصنع، موضحة أن الحكومة من المفترض أن تولي اهتماماً كبيراً بتطوير زراعة المحاصيل الاستراتيجية، لتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي من منتجاتها الغذائية كأحد أركان الأمن الغذائي المصري، والمحاصيل السكرية في المقدمة خاصة قصب وبنجر السكر.
وحذرت من أن توقف مصنع أبو قرقاص عن إنتاج السكر لأول مرة منذ تاريخ إنشائه بمثابة "جرس إنذار" للحكومة يستدعي تحركاً عاجلاً ومدروساً حتى لا نتفاجأ بتوقف مصانع أخرى عن الإنتاج.