تناول تقرير لموقع The Intercept الأمريكي، قصة استشهاد الصحفي مصور قناة "الجزيرة" سامر أبو دقة، حينما كان برفقة مراسل القناة وائل الدحدوح، الذي أُصيب أيضاً بقصف الاحتلال الإسرائيلي على مدرسة فرحانة في خان يونس، في قطاع غزة، بعد ظهر الـ15 من ديسمبر/كانون الأول 2023.
كان مدير مكتب الجزيرة في غزة، وائل الدحدوح، برفقة أبو دقة لتغطية قصف مبكر على المنطقة، قبل أن تستهدفهما غارات الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر.
تمكّن الدحدوح بطريقةٍ ما من شقّ طريقه عبر الأنقاض والوصول إلى سيارة الإسعاف الواقفة على بعد مئات الأمتار، قبل إجلائه إلى مستشفى قريب، لكن أبو دقة الذي أُصيب في النصف السفلي من جسمه عجز عن المشي إلى سيارة الإسعاف، وظلَّ مستلقياً على الأرض.
ومضت الساعات تباعاً، بينما ظلَّ عمال الطوارئ عاجزين عن الوصول إليه دون موافقة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومع مفارقة الروح لجسده تدريجياً، نشرت الجزيرة عدَّاداً على الهواء مباشرةً، لعرض الدقائق والساعات التي مضت منذ إصابة أبو دقة، وعندما وصلت أطقم الطوارئ في النهاية بعد مضي أكثر من خمس ساعات، كان أبو دقة قد فارق الحياة.
الاحتلال عرقل إنقاذ أبو دقة
على مدار تلك الساعات الخمس، ضغطت المنظمات الإنسانية وزملاؤه من الصحفيين على جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ متكرر، من أجل تسهيل إجلاء أبو دقة، وفقاً لأشخاص مطلعين على تلك الجهود وسجلات الدردشة التي حصل عليها موقع "ذا إنترسبت" من عدة صحفيين.
ويُظهر الجدول الزمني المفصل للساعات التي سبقت استشهاد أبو دقة أن القوات الإسرائيلية لم توفر ممراً آمناً لأطقم الطوارئ طيلة ساعات، رغم علمهم بوجود صحفي في حاجةٍ إلى مساعدة عاجلة.
وفي النهاية، استلقى أبو دقة جريحاً ينزف على بعد كيلومترين فقط من أقرب مستشفى، لكن أحداً لم يستطع الوصول إليه طيلة أكثر من خمس ساعات، وأمام أنظار زملائه والعالم بأسره تقريباً.
تشير الكثير من الأدلة إلى تعرُّض صحفيي الجزيرة لقصف إسرائيلي مستهدف، حيث قال الدحدوح: "لم يكن هناك أحد سوانا في تلك المنطقة، ولهذا لم يكن هناك مجال للخطأ من جانب الجيش الإسرائيلي، نظراً لوجود المسيّرات الكبيرة والصغيرة في سماء المنطقة، لقد كانوا على علمٍ بكل ما نفعله طوال الوقت، وقد تعرَّضنا للاستهداف أثناء عودتنا، لا شك في ذلك".
وصل الدحدوح وأبو دقة إلى مدرسة فرحانة بعد ظهر ذلك اليوم لتغطية آثار القصف الإسرائيلي لتلك المنطقة، بحسب ما قاله الدحدوح للموقع الأمريكي، وشقَّ الثنائي طريقهما نحو المدرسة داخل سيارة إسعاف وهما يرتديان خوذات وسترات واقية من الرصاص تحمل كلمة "صحافة press".
كان الثنائي بصحبة عمال الدفاع المدني الفلسطينيين في الزي الرسمي، الذين نسقوا مع الجيش الإسرائيلي وحصلوا على موافقته للتواجد في المنطقة من خلال الصليب الأحمر، بحسب الدحدوح.
"خلِّي حدا يجيبه"
وقضى الدحدوح وأبو دقة قرابة الساعتين ونصف الساعة في التصوير داخل المدرسة والمنطقة المحيطة، بينما كان صوت طنين الطائرات المسيّرة في السماء واضحاً طوال الوقت، وفي الساعة الـ2:30 مساءً تقريباً، بدأوا رحلة العودة إلى سيارة الإسعاف عندما ضربهم القصف الإسرائيلي.
فضغط الدحدوح على جراحه ومشى متعثراً حتى وصل إلى سيارة الإسعاف، التي كانت على مسافة تتراوح بين 800 و1000 متر، وبمجرد وصوله طلب من عمال الطوارئ الدخول وإنقاذ أبو دقة على الفور، لكنهم أصروا على إجلاء الدحدوح أولاً وقالوا إنهم سيرسلون سيارة إسعاف أخرى لاستعادة أبو دقة.
وظهر الدحدوح في مقاطع الفيديو من مستشفى ناصر وهو يئن أثناء علاج جراحه، ويطلب منهم إنقاذ أبو دقة، حيث ظل الدحدوح يكررها قائلاً: "نسِّقوا مع الصليب (الأحمر)". وأردف: "خلِّي حدا يجيبه".
هذا هو ما كان يفعله وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في رام الله، إذ صرّح العمري للموقع الأمريكي بأنه تواصل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أول مرة في تمام الساعة 3:35 مساءً، وطلب منهم التنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لتسهيل عملية إنقاذ أبو دقة.
وقال العمري إنه ظلَّ على تواصل وثيق مع الصليب الأحمر محلياً وخارجياً، وإنهم بذلوا "جهداً كبيراً" في محاولة التنسيق مع السلطات الإسرائيلية.
بينما قال الدحدوح إنه علم لاحقاً بأن سيارات الإسعاف التي اقتربت من المنطقة في البداية لإنقاذ أبو دقة، خلال وقت مبكر من المحنة، قد تعرضت لإطلاق النار على مقربة منها بواسطة القوات الإسرائيلية، ما أجبر سيارات الإسعاف على العودة وانتظار موافقة جيش الاحتلال الإسرائيلي للعبور، وفي الوقت ذاته، بدأت الأخبار تنتشر عن وضع أبو دقة الأليم.
الاحتلال لم يتجاوب رغم الضغوط
المراسلة والمنتجة المستقلة المقيمة في القدس، أورلي هالبيرن، علمت بما حدث عندما أرسل لها أحد معارفها رابط الخبر في الساعة 3:08 مساءً، وقررت أورلي النشر عن الموضوع في مجموعة واتساب تضم أكثر من 140 صحفياً من رابطة الصحافة الأجنبية، وهي منظمة غير ربحية في القدس تمثل مراسلين من أكثر من 30 دولة.
بحسب لقطات الشاشة التي حصل عليها الموقع الأمريكي من مجموعة واتساب، فقد سردت أورلي ما حدث في الساعة 4:27 مساءً بالكلمات التالية: "أُصيب سامر أبو دقة بجراح خطيرة، ولا يزال عالقاً في المدرسة. وسيارة الإسعاف تنتظر من القوات الإسرائيلية السماح لها بإجلائه، لكن هذا لم يحدث بعد… وقال مدير مكتب الجزيرة وليد العمري إن الصليب الأحمر يحاول التنسيق مع جيش الدفاع، لكن ليس هناك أي تقدم حتى الآن، لقد مضت ساعتان منذ قصفهما، ربما يمكننا جميعاً الاتصال بمتحدث الجيش الإسرائيلي لمطالبتهم بأن يسمحوا بإجلائه".
ثم أردفت في منشور آخر بعدها بثلاث دقائق: "المهم الآن هو إنقاذ المصور. ويجب على الإسرائيليين أن يسمحوا بوصول سيارة الإسعاف إليه"، وأشارت أورلي إلى إيلين كروسني، السكرتيرة التنفيذية للرابطة، مضيفةً: "هل تستطيع رابطة الصحافة الأجنبية أن تتواصل مع جيش الدفاع أيضاً؟"، وفي تمام الساعة 4:57 مساءً، ردّت إيلين: "سأشارك في هذا الأمر".
في الوقت ذاته، عمل صحفيون آخرون داخل المجموعة على تأكيد موقع أبو دقة، ونشر أحدهم صورة خريطة تُظهر موقع المدرستين في خان يونس- حيفا وفرحانة- بينما أكّد صحفي آخر أن أبو دقة كان موجوداً في فرحانة.
وشاركت أورلي بعدها معلومات الاتصال الخاصة بثلاثة مسؤولين إسرائيليين في تمام الساعة 5:17 مساءً، بينهم المكتب الصحفي لوحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، بالإضافة إلى معلومات الاتصال لثلاثة من كبار المتحدثين العسكريين في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الساعة 5:27 مساءً، بعد ثلاث ساعات كاملة من إصابة أبو دقة في القصف، كتبت إيلين أن السلطات الإسرائيلية لم تمنح فرق الطوارئ الإذن بالوصول إليه: "لم تحصل سيارات الإسعاف على الموافقة بعد، لكنني على تواصل مع جيش الدفاع، وهم على علم بهذا الأمر. كما يعرفون أن أعضاء رابطة الصحافة الأجنبية في حالة استياء شديد".
بينما واصلت أورلي حث الصحفيين في المجموعة على مراسلة المتحدثين الرسميين دانيال هاغاري أو ريتشارد هيشت بشكل فردي، من أجل الضغط عليهما لتسهيل جهود الإنقاذ.
"سامر قد مات"
بالتوازي مع ذلك، بذلت مجموعة أصغر من كبار أعضاء الرابطة جهوداً أكثر تركيزاً أسفرت عن بعض الردود من الجيش، ولكن دون اتخاذ إجراء فعلي، ففي الساعة 5:31 مساءً نشر صحفي في المجموعة الأصغر أنه قد راسل مسؤولاً في الجيش، وتلقى الرد بأن الجيش على علم بالموقف ويتعامل معه.
وبعدها بدقيقتين، تلقى الصحفي رسالةً أخرى تقول إنه قد جرى إخطار القيادة الجنوبية في الجيش، لكن هناك مشكلات في "طريق المرور" من المدرسة إلى المستشفى.
ثم تلقت المجموعة الأصغر رسالةً أخرى في الساعة 6:22 مساءً، تقول إن الجيش لا يزال يعمل على الأمر.
وفي الساعة 6:27 مساءً، بعد أربع ساعات من إصابة أبو دقة، تلقت أورلي رسالة من منتجها في غزة تقول إن سيارات الإسعاف لا تزال عاجزةً عن الوصول إلى المدرسة، فبعثت أورلي إلى المجموعة بأن عليهم مطالبة الجيش الإسرائيلي بإرسال جرافة لإفساح الطريق.
وفي الساعة 7:23 مساءً، بعد خمس ساعات من النزيف، تلقت المجموعة الأصغر خبراً بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيرسل جرافةً في غضون 10 دقائق، وأنها ستستغرق 20 دقيقة للوصول إلى الموقع.
لكن الموافقة جاءت بعد فوات الأوان، حيث أخلت جرافة يقودها فلسطيني الطريق لعبور سيارة الإسعاف، ثم تمكنت أطقم الطوارئ الفلسطينية من الوصول إلى المدرسة لتجد أن أبو دقة قد فارق الحياة.
وفي تمام الساعة 7:55 مساءً، نشرت أورلي على المجموعة رسالةً تلقتها من منتجها في غزة، ومفادها أن سامر قد مات.