لم يشكل عام 2023 استثناء للفرنسيين الذين طغى على سنواتهم الأخيرة أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، دفعتهم للخروج إلى الشارع باستمرار للاحتجاج، وجعلت علاقتهم بحاكميهم أكثر تعقيداً مما كانت عليه تاريخياً.
ولعل من آخر وأبرز القضايا التي وسعت هوة الخلاف بين المواطنين ومدبري شؤونهم، الحرب المتواصلة على غزة، إذ بينما سلك الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، نهجاً ينتصر لتل أبيب، اختارت الفئات الشعبية رفض قتل المدنيين، ودعت إلى وقف إطلاق النار.
إلى جانب ذلك، لم تخلف شوارع العاصمة باريس وضواحيها هذه السنة أيضاً موعدها مع ما اعتادته من احتجاجات وإضرابات، لأسباب مختلفة، وجهها المشترك أن سكان "عاصمة الأنوار" بالكاد يرمقون مخرجاً لنفق المشاكل المظلم الذي يحيط بهم من كل جانب.
غزة.. تضامن شعبي وتخاذل رسمي
في مقابل الموقف الفرنسي الرسمي المنحاز إلى إسرائيل، أبدت فئة عريضة من الشعب تضامنها اللامشروط مع الفلسطينيين، ودعت إلى نبذ وإدانة "الإبادة الجماعية" التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة.
كثير من هؤلاء الرافضين لاستهداف المدنيين غير مسلمين أو عرب، لكن كثيراً منهم أيضاً كذلك، تحدوا قرارات المنع القضائية بعدد من المدن، على رأسها باريس، ودأبوا على التجمع والتظاهر بانتظام في الأماكن السياحية الرئيسية والساحات العمومية، مُحدثين شرخاً كبيراً بين سياسة الإليزيه ونبض الشارع.
هذا المنع والتضييق الممنهج، الذي ينسجم مع دعم الحكومة لتل أبيب، انتقده سياسيون وحقوقيون، فاعتبروه ضرباً لمبادئ الجمهورية وتجاهلاً للقيم التي تزعمها.
كانت فرنسا من الدول الأولى التي اتخذت موقفاً حازماً ينتصر لإسرائيل عقب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأعلنت فرنسا دعمها حق تل أبيب في الدفاع عن نفسها، ووقفت بقوة إلى جانبها في مواجهة حركة المقاومة، التي قال الرئيس إيمانويل ماكرون "إنها تتخذ المدنيين دروعاً بشرية".
ورغم تنامي الأصوات المحلية المنددة بالمجزرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حق مدنيي قطاع غزة، والتحذير من تداعيات تفاقم الأزمة الإنسانية، لم يحد موقف الإليزيه عن دعم خطوات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة.
وحاول الرئيس إيمانويل ماكرون تدارك نتائج ذلك، في ارتباك دبلوماسي لقي انتقاداً شديداً من قبل حلفائه قبل معارضيه؛ خشية فقدان دور بلاده التاريخي التقليدي، إذ حاولت باريس تصعيد حدة لهجتها تجاه تل أبيب، دون جدوى.
دعم فرنسا لإسرائيل شكل استثناءً في أوروبا، إذ كانت الدولةَ الوحيدة التي تمنع منح تراخيص لتنظيم مظاهرات تضامناً مع الفلسطينيين، بل أحياناً فقط للدعوة إلى وقف إطلاق النار.
هذا الموقف المتمسك بدعم إسرائيل أثار ردود فعل غاضبة اكتست أحياناً طابعاً عنيفاً، كما حدث خلال مسيرات تضامنية مع فلسطين يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين تم استهداف السفارتين الفرنسيتين في لبنان وتونس من قبل المتظاهرين.
موقف باريس كلفها داخلياً الكثير، ولعل من أبرز التصدعات التي أحدثها، ضغطاً غير مسبوق مارسه سياسيون ودبلوماسيون دعوا حكومة ماكرون إلى السير على نهج سابقاتها في لعب دور متوازن بين طرفي النزاع.
آخر تلك المواقف عكسته مذكرة أرسلها دبلوماسيون فرنسيون إلى رئيس بلادهم، أعربوا من خلالها عن أسفهم إزاء موقف باريس في الحرب على قطاع غزة.
بحسب صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، أعرب نحو 10 دبلوماسيين فرنسيين يعملون في الشرق الأوسط والمغرب العربي، عن انتقادهم لموقف باريس المؤيد لإسرائيل في قضية غزة، وذلك في بيان أرسلوه إلى وزارة الخارجية.
تهديدات للمتضامنين مع غزة
التضييق على المتضامنين مع سكان غزة والمدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني بلغ حد إعلان وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، عن ملاحقة جمعيات، واللجوء إلى إجراءات قضائية ضدها عبر المادة 40 من قانون العقوبات بتهمة "التحريض على الإرهاب".
في هذا السياق، ذكر المسؤول الحكومي أن "عدداً من الجمعيات احتفلت على نطاق واسع بالهجوم الدموي الذي نفذته حركة حماس، والذي خلف 1300 قتيل، وأثار ذلك الفخر والتضامن في جميع أنحاء فلسطين وأيضاً في جميع أنحاء العالم".
وذكرت وزارة الداخلية الفرنسية في تقريرها للمدعي العام، أن "رسالة حماس أثارت العديد من التعليقات من مستخدمي الإنترنت الذين عبروا عن رضاهم عن الأعمال الإرهابية".
وككثير من الدول الحليفة لإسرائيل، عاقبت فرنسا عدداً من المشاهير، على رأسهم لاعبو كرة القدم بسبب إبداء تضامنهم مع فلسطين، مثل لاعب المنتخب الجزائري يوسف عطال.
رغم كل تلك القيود والتهديدات والمضايقات، يواصل مسلمو وعرب فرنسا، الذين يشكلون مكوناً مهماً بالبلد، التظاهر من أجل الضغط على باريس كي تتخذ موقفاً ينتصر لحماية المدنيين وإدانة القتل الوحشي لهم.
مقتل الفتى نائل
في الـ27 من شهر يونيو/حزيران 2023، اندلعت في ضواحي ومدن فرنسا احتجاجات عارمة إثر مقتل شاب من أصول جزائرية على يد رجل أمن.
قتل الفتى نائل البالغ من العمر 17 عاماً والذي كان يقيم في نانتير، بضواحي باريس؛ "لعدم امتثاله للوقوف عند نقطة تفتيش مرورية"، وفق رواية الناطق الرسمي باسم الحكومة، أوليفييه فيران.
استنكاراً للحادث، خرج مئات المهاجرين ومعهم الفرنسيون إلى الشارع تضامناً مع أسرة القتيل وتنديداً بـ"عنف الشرطة"، خاصةً أن مقتل نائل أعاد إلى الواجهة أحداثاً مماثلة، إذ قُتل على يد الشرطة نحو 15 شخصاً خلال العامين الماضيين.
إثر تصاعد الضغط واشتداد حدة الاحتجاجات، قررت النيابة العامة توقيف الشرطي المشتبه في إطلاقه الرصاص على الشاب، لكن القضاء أطلق سراحه بكفالة في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، استجابة لطلب محاميه، إذ أوضحت الأجهزة القضائية أن معايير الحبس الاحتياطي للشرطي لم تعد متولفرة في هذه المرحلة من التحقيق.
قانون الهجرة.. بصمة اليمين المتطرف
آخر الأزمات السياسية التي بالكاد استطاعت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تجاوزها نسبياً، قانون الهجرة الجديد الذي لقي معارضة شديدة من فرقاء سياسيين يساريين ويمينيين متطرفين، صوتوا لصالح رفضه قبل أن يتم تعديله بعد عرضه على لجنة برلمانية مختلطة، ما جعل أحكامه أكثر صرامة.
وخلافاً لوعود الرئيس ماكرون خلال حملته الانتخابية، تضمن القانون عدداً من المواد تشدد شروط الحصول على الإقامة وتلغي عدداً من الامتيازات التي كان يتمتع بها المهاجرون، انصياعاً لضغط اليمين المتطرف، الذي اتهم اليسار ماكرون بتقديم "تنازلات" له.
فضلاً عن فرض مدة خمس سنوات من الإقامة لاستفادة المهاجرين من الدعم الاجتماعي والتمييز بينهم وبين المواطنين، يسمح القانون ببناء مراكز احتجاز حدودية لتسريع ترحيل طالبي اللجوء المرفوضة طلباتهم، كما يفرض شروطاً أكثر تشدداً على المقيمين الراغبين في إحضار أفراد من عائلاتهم.
التشريع الجديد كشف بجلاءٍ انقسامات حادة داخل التحالف الحاكم، إذ صوت 27 نائباً ضد القرار، بينما امتنع 32 عن التصويت، أي ما يقرب من ربع النواب المؤيدين لماكرون.
واحتجاجاً على بعض مقتضياته، استقال وزير الصحة أوريليان روسو، الذي كان عضواً بالحزب الشيوعي في شبابه. من جهتها، لم تخف رئيسة مجلس النواب في البرلمان وعضو حزب ماكرون، يائيل براون بيفيت، "عدم ارتياحها الشديد من بعض الإجراءات في مشروع القانون"، وفق قولها.
قانون التقاعد.. رفض شعبي وإصرار حكومي
في العاشر من يناير/كانون الثاني 2023، قدمت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن تعديلاً ينص على تمديد سن التقاعد القانوني من 62 إلى 64 عاماً بحلول عام 2030.
ولم تحظ الخطوة بشعبية كبيرة، وأدى تمسك الحكومة بها إلى مظاهرات حاشدة واحتجاجات وإضرابات عامة على مدى أكثر من ثلاثة أشهر، اتهمت خلالها الشرطة بـ"الاستخدام المفرط للقوة" و"الاعتقالات غير المبررة"، بحسب منظمة العفو الدولية.
وفي الأول من أبريل/نيسان 2023، ألغت المحكمة الإدارية في باريس أمراً أصدره مدير الشرطة بحظر التجمعات، وحكمت بأنه ينتهك حرية التظاهر.
خلال التعبئة الشاملة، عطلت وسائل النقل وأغلقت الموانئ ومصافي النفط، وتناثرت آلاف الأطنان من القمامة على أرصفة الباريسيين. فيما تم تأجيل أول زيارة رسمية للملك تشارلز الثالث إلى فرنسا، والتي كان من المفترض أن تكون أول زيارة له إلى الخارج بصفته ملكاً.
في مواجهة موجة الرفض داخل المؤسسة التشريعية أيضاً، اضطرت إليزابيث بورن إلى تفعيل المادة 49.3 لتمرير النص، والتي تسمح باعتماد مشاريع القوانين دون تصويت البرلمان.
عقب ذلك، أيدت أعلى هيئة دستورية في فرنسا حكومة ماكرون، ورفض المجلس الدستوري مطالبات المعارضة بإجراء استفتاء شعبي على القرار، رغم إلغائه بعض التعديلات بحجة انطوائها على خلل قانوني.