استمرت العملية العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي 3 أيام في مخيم جنين شمالي الضفة الغربية، في تصعيد استخدم خلاله الطيران لهدم المنازل، والطائرات المسيّرة لمحاولة اغتيال مقاومين، ليكون العدوان الأوسع له في هذه المنطقة منذ عام 2000، في وقت يشن فيه أيضاً عدوانه على قطاع غزة.
انسحاب جيش الاحتلال جرى مساء الخميس 14 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبشكل كامل من مخيم جنين، بعد أن أعاد اقتحامه عقب أقل من ساعة على انسحابه بعد تنفيذ عمليته العسكرية، التي طالت كل ما كان في طريق آليات الاحتلال وجنوده.
جعل مخيم جنين "عِبرة"
يقول منسق القوى والفصائل الفلسطينية في محافظة جنين، راغب أبو دياك، لـ"عربي بوست"، إن "الاحتلال يوغل في عدوانه ضد الفلسطينيين في هذه المحافظة بشكل عام لجعلها عبرة للمناطق الأخرى، التي تنطلق منها أعمال المقاومة الفلسطينية، لا سيما داخل الضفة الغربية".
التصعيد الكبير ضد جنين، يأتي بحسب أبو دياك، بهدف "إطفاء شعلة المقاومة في الضفة الغربية، ووقف الهبّة في الدفاع عن الأرض الفلسطينية، التي تهدف لعيش الأجيال القادمة بكرامة وحرية، لذلك يعتقد الاحتلال واهماً أنه يستطيع وقفها، من خلال تصاعد انتهاكاته في جنين ومناطق الضفة".
يوضح أيضاً أن "الاحتلال من خلال عدوانه على جنين، يريد ضرب المقاومة، وإرسال رسالة إلى المناطق الأخرى، بأن مصيرها سيشابه ما يجري في جنين، من خلال تدمير البنية التحتية، وتدمير ممتلكات المواطنين، وعمليات الاعتقال والإعدام للشبان الفلسطينيين في المخيم".
ويضيف، بشأن التصعيد الحالي، أنه "يأتي تباعاً للعدوان في غزة، الذي تمارسه الحكومة المتطرفة التي أفرزها اليمين الإسرائيلي، الذي له أهداف واضحة بسلب الأرض، والاستيطان، والسيطرة على مقدرات الشعب الفلسطيني".
حاضنة للمقاومين المطلوبين والمطاردين
من جانبه، يشير القيادي في حركة فتح شامي الشامي، في حديثه لـ"عربي بوست"، إلى أنه "على الرغم من حجم هذا الاجتياح، إلا أن الهدف الرئيس للاحتلال لم يتحقق، ويتمثل باعتقال المقاومين المطلوبين أو اغتيالهم".
ويقول إن الاحتلال قام مع بدء حملته العسكرية في مخيم جنين، بنشر أسماء المعتقلين المطلوبين لديه، وقد زاد عددهم عن ألف شخص، بينما أُفرج عن نحو 700 بعد إجراء تحقيق معهم، واحتجازهم.
ويلفت كذلك إلى أن مخيم جنين، شهد خلال الفترة الماضية "عملاً وطنياً مقاوماً مستمراً، وأخرج عدداً كبيراً من المقاومين والمشتبكين، ومنفذي العمليات.
ويضيف الشامي أن مخيم جنين، "شكّل حاضنة شعبية للمقاومين، وكذلك المطاردين، ليس من محافظة جنين فقط، بل من مدن شمال الضفة الغربية أيضاً، بالتالي من هنا جاءت هذه الهجمة الإسرائيلية العنيفة وغير المسبوقة على المخيم".
تطرق القيادي في فتح إلى سبب آخر وراء العملية العسكرية الكبيرة للاحتلال في المنطقة، وهي أن "مخيم جنين كان ملهماً لكثير من المناطق ومخيماتها شمال الضفة الغربية لعمليات المقاومة، وكذلك انتشرت فيه كتائب الأقصى (التابعة لفتح) وكتيبة جنين (التابعة لسرايا القدس- الجهاد الإسلامي)، لذلك كان الاحتلال يحاول ضرب حالة المقاومة في مخيم جنين، من أجل إنهائها في مخيمات أخرى".
يشير المتحدث ذاته أيضاً، إلى أن هذا الاقتحام ليس الأول الذي شهده المخيم والمدينة، بل بعد اجتياحات عدة، إلا أن العملية العسكرية الأخيرة، تُعدّ الأوسع منذ عام 2000″.
انتقام بعد 7 أكتوبر والتغطية على الفشل في غزة
الشامي يلفت أيضاً إلى أن هناك "تحولاً كبيراً حدث بعد 7 أكتوبر، في الضفة، لأن ما جرى هو هزيمة لإسرائيل، بالتالي يقوم برد فعل وانتقام من الشعب الفلسطيني، ليرتكب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وانتهاكات وإجراماً في مخيم جنين وتفجيراً لبيوته".
ويعتبر أن "مما لا شك فيه، أن فشل الاحتلال في الوصول إلى أهدافه في قطاع غزة ينعكس بالتأكيد على ما يجري في الضفة، إذ إن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يحاول الحصول على صورة نصر في الضفة الغربية على الأقل".
بدوره، يرى الكاتب والمحلل السياسي هيثم ضراغمة، في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "حكومة نتنياهو باتت محاصَرة على المستوى الداخلي، فقد أصبح هناك نفور في المجتمع الإسرائيلي منه، لأنه كبدهم خسائر كبيرة، وهناك تراجع في شعبية لحكومته".
ويتابع بأن "ما يهم نتنياهو هو جمهوره الداخلي، وزيادة التأييد له، بعد تراجع شعبيته، وعادة الشعب الفلسطيني هو الضحية للحملات الانتخابية الإسرائيلية، بالتالي أراد نتنياهو أن يحصل على صورة نصر من خلال اجتياح جنين العصية على الجيش سابقاً، إذ لطالما لم يكن الجيش يتمكن من الاقتحام والسير فيها بحرية".
ويوضح ضراغمة أن "نتنياهو أراد كسر شوكة جنين بمقاومتها، مستغلاً الانشغال الدولي بما يجري في قطاع غزة، من خلال ارتكاب مجازره بحق الفلسطينيين في جنين، وأخذ صورة نصر، ليسوقها لمجتمعه الداخلي على أنه قادر على كبح المقاومة".
ويتابع: "يريد نتنياهو أن يعوّض المجتمع الإسرائيلي مما حصل في غزة، من خلال صورة نصر وهمي في جنين".
علاقة السلطة وأجهزتها الأمنية
جرت العملية الإسرائيلية التي استهدفت مخيم جنين، في المنطقة المصنفة "أ" في الضفة الغربية، أي ضمن المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة وفق اتفاقية أوسلو، وهو الأمر الذي لطالما مثل انتهاكاً للمناطق التابعة إدارياً وعسكرياً للسلطة.
حول تزامن هذا العدوان على مدينة ومخيم جنين مع هجوم نتنياهو على أجهزة الأمن الفلسطينية في تصريحاته الأخيرة، قال الناطق باسم الأجهزة الأمنية طلال دويكات، في بيان صحفي، إن "حكومة نتنياهو تسعى إلى البحث عن بدائل غير وطنية لتمرير مشروعها الذي يريد تصفية القضية والوطن بأسره".
وكان نتنياهو تحدّث في تصريحات له عن بديل للسلطة، وبديل لحماس في إدارة قطاع غزة في مرحلة ما بعد عدوانه، ووصف البديل الذي يرجوه بأنه "لا يحرّض على العنف مثل السلطة، ولا يدعم حماس".
وقال في 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، إنه "الوحيد القادر على إبقاء القطاع تحت السلطة الأمنية الإسرائيلية، ومن سيمنع إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية".
وعلق دويكات على ذلك بالقول: "تصريحات نتنياهو ما هي إلا انجراف غير محسوب نحو طبيعته الانتقامية، باستهداف كل ما هو فلسطيني، ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية".
أما الشامي، فأشار إلى أن "أبناء المؤسسة الأمنية، هم جزء من أبناء الشعب الفلسطيني، وشاركوا مقاومة الاحتلال وعمليات تصدٍّ للاحتلال، ومنهم من استُشهد أو اعتُقل، لذلك مؤكد أن يكون عليهم هجمة من الاحتلال الذي لا تزال تهديداته لرجال الأمن الفلسطيني حتى الآن مجرد تصريحات".
وقال القيادي في فتح: "نتنياهو يريد تفجير الأوضاع بالضفة الغربية، وحرباً طويلة في قطاع غزة، لكي يبقى هو على رأس الحكومة الإسرائيلية، وهذا سبب هجومه أيضاً على الأجهزة الفلسطينية".
وكانت السلطة الفلسطينية حذّرت مراراً من أن العمليات العسكرية الإسرائيلية والقرارات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية بحجز أموال فلسطينية، إضافة إلى النشاطات الاستيطانية ومصادرة الأراضي، إنما تدفع السلطة الفلسطينية نحو الانهيار.
وجاءت العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين، بعد ساعات من إعلان هيئة البث الإسرائيلية عن عقد اجتماع أمني برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لبحث تعزيز السلطة الفلسطينية.
وقال معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، التابع لجامعة تل أبيب الإسرائيلية في دراسة حديثة، "إن ضعف السلطة الفلسطينية جنباً إلى جنب مع قوة حماس، بالإضافة إلى تآكل الردع ضد حزب الله (اللبناني) وإيران وزيادة احتمالية نشوب صراع متعدد الجبهات، يشكّل معضلة استراتيجية لإسرائيل".
وأضاف: "في الوقت ذاته، فإن وضع السلطة الفلسطينية متزعزع وإشكالي، لدرجة أنه من المشكوك فيه أنه يمكن استعادتها في ظل الظروف القائمة".
ولم تتحرك السلطة الفلسطينية تجاه ما جرى في مخيم جنين، واكتفى الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، بالقول: "إن ما تقوم به حكومة الاحتلال الإسرائيلي في مدينة جنين ومخيمها، جريمة حرب جديدة بحق شعبنا الأعزل".
الأوسع منذ عام 2000
3 أيام متواصلة أمضت فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على مدينة ومخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، في اجتياح وصفه الفلسطينيون بأنه الأكبر والأعنف منذ عام 2000، في الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
إذ شن طيران الاستطلاع الإسرائيلي غارات عدة على مواقع في مدينة جنين، أدت إلى استشهاد 7 فلسطينيين، من أصل 12 شهيداً، هم حصيلة الأيام الثلاثة، بينما أُصيب أكثر من 20 بجروح مختلفة، بينهم مصابون بجروح خطيرة.
رغم أن مدينة ومخيم جنين تصدّرا منذ عامين المشهد في الضفة الغربية على صعيد مواجهة الاحتلال وتكثيف المقاومة، فإن هذا العدوان كان الأوسع والأشمل من حيث مدته، الآليات العسكرية المستخدَمة، وعدد القوات المشاركة فيه، إذ بلغ عددها 1400 جندي، غالبيتهم من قوات الاحتياط، بحسب قناة "كان" العبرية.
وقام الاحتلال بتدمير المنازل بالطائرات المسيّرة والصواريخ المحمولة على الكتف، إذ تجاوز عددها 40 منزلاً وفق المعطيات الأولية للسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى تدمير هائل في البنية التحتية، في ظل لجوء قوات الاحتلال إلى تجريف كل ما ظهر أمامها خلال الاجتياح للمخيم.
واشتكى المواطنون الفلسطينيون من تجريف الاحتلال لشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وتخريبها بشكل متعمَّد.
ووصلت الانتهاكات الإسرائيلية في جنين، إلى اقتحام المساجد واستخدام مكبرات الصوت فيها لقراءة نصوص تلمودية من قِبل الجنود الإسرائيليين.
واعتقل جنود الاحتلال العشرات من المرضى ومرافقيهم، أمام المستشفى الحكومي في جنين، وأجبروهم على خلع ملابسهم، وقيّدوهم ونكّلوا بهم، بحسب الأهالي.
فيما تجاوز عدد المعتقلين 700، أفرج عن بعضهم لاحقاً، بحسب وسائل الإعلام المحلية.
ترافق ذلك مع الحصار الخانق الذي طوّق المدينة وأحياءها، فضلاً عن مستشفياتها ومراكزها الصحية، وحظر تأمين احتياجات السكان من الطعام والشراب.
كذلك انتشر جنود القناصة على أسطح البنايات، فيما رابطت الدبابات على مداخل المستشفيات، ومنعت أي حركة في محيطها، وأطلقت النار على امرأة حامل مُنعت من دخول المستشفى، وكذلك استُشهد الطفل أحمد سمار، الذي منع الاحتلال مركبة الإسعاف من إيصاله إلى المستشفى، واضطرّ والده للسير به على الأقدام وصولاً إلى هناك، بحسب وكالة الأناضول.
وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي 287 شهيداً.
وبدأ جيش الاحتلال العملية العسكرية الواسعة في جنين ومخيمها، 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، فجّر خلالها 20 منزلاً فلسطينياً، واعتقل 700 فلسطيني، بحسب كمال أبو الرب، القائم بأعمال محافظ جنين لوسائل الإعلام المحلية.
ويكثف جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات اقتحام واعتقال وقتل في بلدات ومدن الضفة الغربية المحتلة، بموازاة عدوان دموي يشنه على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، راح ضحيته حتى الآن أكثر من 18800 شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء.