تحوّلت غرفة الفلسطيني غيث منذر، طالب الطب بجامعة عين شمس، من غرفة للسمر والضحك مع أصدقائه وزملائه إلى مكان كئيب بإضاءة مظلمة تضامناً مع أهله في قطاع غزة.
ويعيش أهل منذر في غزة ويلات قصف الاحتلال الإسرائيلي المستمر، والترحال من مكان إلى آخر، مع تعرض مناطقهم إلى ضربات متلاحقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يقول الطالب الفلسطيني إن حياته داخل أحد الأحياء الشعبية بوسط القاهرة تحولت إلى جحيم منذ أن بدأت الحرب، لأن منزل والده تعرض للقصف الإسرائيلي.
وأضاف أنه من حسن حظ عائلته أنهم خرجوا من المنزل باتجاه وسط القطاع قبل اشتداد القصف خلال الأيام الأولى من الحرب، لافتاً إلى أنه يبقى بعيداً عنهم بجسده إلا أن روحه تبقى معلقة معهم وسط الصعوبات والمتاعب التي يعانونها في القطاع.
أزمات اجتماعية واقتصادية
حينما يفقد غيث اتصاله بوالديه أو أسرته الكبيرة يتملكه الذعر والخوف، ولا يعرف على وجه التحديد ماذا يفعل؛ لكي يطمئن على أسرته مع انقطاع شبكات الاتصالات لفترات طويلة عن قطاع غزة.
وأضاف المتحدث أنه ظل طيلة عشرة أيام أو أكثر لا يعرف شيئاً عن عائلته، وخلال هذه الأيام لم يكن يعيش حياته بشكل طبيعي، وتوقف عن تناول الطعام لفترات طويلة، وأصيب بنوبة جفاف قبل أن ينقذه أصدقاؤه داخل السكن.
وتمنى الطالب الفلسطيني أن يكون مع أهله في قطاع غزة، ويرى أن الغربة عن وطنه ثمنها فادح، فهو لا يشعر بالطمأنينة على أهله ويبقى بشكل مستمر يتوقع الأسوأ، الأمر الذي كان سبباً في انقطاعه عن الجامعة لأيام طويلة مع فقدانه القدرة على التركيز.
وليس الطالب منذر الوحيد الذي يعيش في مصر وقلبه مع أهله في غزة، فأغلب الشباب الغزاوي الذي وصل طلباً للعمل في أرض الكنانة يعيش وضعاً نفسياً صعباً.
ويعيش طالب غزة بين التوفيق بين همّ ما يعيشه أهله المحاصرون في القطاع، وبين رغبته في أن يلتزم بدراسته حتى لا يجد نفسه مضطراً لإعادة العام الدراسي.
وتعتمد دراسة الطب لوحدها في مصر بشكل أساسي على الامتحانات العملية المستمرة طوال العام، وفي نفس الوقت، فإن دراسة الطب تُكلف حوالي 6000 دولار سنوياً، الأمر الذي يصعب على طلاب قطاع غزة توفيرها في ظل هذه الظروف.
يعبّر موقف غيث عن حالة عامة يعانيها الطلاب الفلسطينيون في مصر، بخاصة مَن جاؤوا من قطاع غزة، يعانون منذ اندلاع الحرب من أزمات اجتماعية وإنسانية واقتصادية وعلمية.
ويحتاج هؤلاء أيضاً إلى تدخلات من جهات عديدة فاعلة محلية ودولية؛ للتخفيف من التأثيرات الصعبة جراء الحرب التي لم تضع أوزارها بعد.
وتشير إحصائيات حكومية إلى أن عدد الطلاب الفلسطينيين في مصر يبلغ 13 ألف طالب وطالبة، بينهم 6000 طالب يدرسون في الجامعات المصرية، وفقاً لوزارة التعليم العالي.
ويدرس هؤلاء الطلاب في مختلف التخصصات والمراحل الدراسية، وينتمون إلى مختلف الفصائل والمدن الفلسطينية، ويتوزعون على عدة محافظات مصرية.
ترحيل سداد الأقساط وليس الإعفاء منها
خلال أيام العدوان ظهرت نداءات من الطلاب الجامعيين من أبناء قطاع غزة في الجامعات المصرية، موجهة لوزارة التعليم العالي لاعفائهم ولو مؤقتاً من الرسوم المطلوبة والمصروفات لانقطاع قدرة ذويهم على إرسال الأموال لهم.
واستجابت وزارة التعليم العالي في مصر لتلك المطالب، وبحسب الدكتور شريف، رئيس قطاع شؤون الطلاب الوافدين في المجلس الأعلى، فإن الوزارة قررت تأجيل سداد أقساط الرسوم الجامعية للطلبة الفلسطينيين المنحدرين من قطاع غزة الذين لم يستطيعوا سدادها حتى الآن.
ولم يُحدد القرار مدة التأجيل، ومن المتوقع أن تمتد طوال فترة الدراسة وفقاً للتوجيهات الصادرة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
وقال سليم قنيطة، وهو طالب بكلية الطب جامعة القاهرة، إن الوضع المالي الذي يواجهونه في مصر لا يشكل أزمة مقابل ما يتعرض له أهله في القطاع من تشريد وغياب كامل للمياه والغذاء في أحيان طويلة.
وأضاف المتحدث أنه يفكر بالعودة إلى قطاع غزة مع بدء الهدنة وترك دراسته، غير أن أهله رفضوا تلك الخطوة، وأن ما شجعه على التراجع عنها إدارة الجامعة التي اتخذت قراراً بتأجيل أي مصروفات مالية على الطلاب الفلسطينيين لحين نهاية العام الدراسي أو استقرار الأوضاع في القطاع.
ويشير قنيطة إلى أن دراسته يتخللها بشكل مستمر امتحانات "الميد تيرم" أو الاختبارات العملية، لكنه يفقد القدرة على التركيز، ولا يتحمل الجلوس أمام الكتاب الدراسي لبضع دقائق قبل أن يشرد تفكيره فيما يحدث لأهله في القطاع.
وقال المتحدث إنه فقد 40 شخصاً من عائلته الكبيرة، وفي كل ساعة يحاول أن يتواصل مع والديه للاطمئنان عليهما، حيث أن أسرته تقطن الآن بإحدى مدارس الأونروا في جنوب قطاع غزة بعد النزوح إليها في الأيام الأولى من الحرب.
يلفت قنيطة إلى أن ما تنشره وسائل الإعلام الدولية عن الأوضاع في غزة لا يساوي شيئاً أمام جحيم الواقع هناك، وهو ما يترك تأثيرات سلبية عليه، ولا يتخيل أنه ينام ويصحو ويأكل ويشرب بينما أهله يضطرون لشرب المياه المالحة وفي أحيان أخرى لا يجدونها.
غزاويون سيصبحون بلا مأوى
ويؤكد أن أهله ليس بإمكانهم إرسال أي أموال إليهم في الوقت الراهن رغم وجود هدنة، لكن الأزمة في أن الاحتلال قصف البنوك، والأكثر من ذلك أن رواتب أهله توقفت منذ اندلاع الحرب وليس بإمكانهم التحكم في أي أموال لديهم في البنوك.
وأشار المتحدث إلى أنه طوال الفترة الماضية تمكن من تمضية حياته بما لديه من أموال وصلت إليه مطلع أكتوبر الماضي، لكنها قد تنفد الأسبوع المقبل على الأكثر.
ويضيف قائلاً: "الأزمة الأكبر تتمثل في عدم قدرته على سداد إيجار سريره داخل الغرفة التي يقطن بها في أحد شوارع منطقة فيصل بالجيزة، والوضع ذاته بالنسبة لباقي زملائه في السكن".
"أبناء غزة لديهم نفس الحالة النفسية، وبحاجة لمن يعالجهم؛ بسبب الظروف التي يمرون بها، فهم لا يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وفقدوا القدرة على التفكير بسبب قسوة المشاهد التي تأتي إليهم".
وفي وقت سابق، أشارت السفارة الفلسطينية في القاهرة إلى "أن التباحث جارٍ ومستمر مع الأشقاء في جمهورية مصر العربية لاتخاذ إجراءات إضافية من شأنها التيسير على الطلبة؛ وذلك تقديراً للظروف العصيبة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني".
شهادات القيد والإقامة تؤرق الكثيرين
ويلفت عدي محسن، وهو طالب فلسطيني بكلية التربية، إلى أن المساعدات تأتي بشكل أكبر حتى الآن من الجمعيات الأهلية المصرية التي أخذت على عاتقها التواصل مع الكثير من الطلاب عبر الوصول لبياناتهم من خلال الجامعات المصرية المختلفة.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن تلك الجمعيات قامت بتسديد رسوم الإيجار للبعض، ومنحت بعض الطلاب مبالغ مالية، وسددت رسوماً جامعية لآخرين قبل سريان قرار تأجيل الرسوم.
يؤكد أن شعور فقدان الأحباب والأهل أثناء الغربة لا يضاهيه شعور، تحديداً أنه يأتي نتيجة لعدوان إسرائيلي غاشم، وهو ما يجعل الطلاب يواجهون كوابيسهم اليومية، ويمر أمامهم شريط الأخبار وهم يتلمسون أماكن الاستهداف والقصف والإعلان عن أسماء الشهداء.
وقال: "أهالينا كثيراً ما يطالبون بعدم التواصل معهم مرات عديدة طوال اليوم؛ لأنهم لا يجدون الكهرباء اللازمة لشحن هواتفهم، في حين أننا نكون بحاجة للاطمئنان عليهم، وفي كل مرة نشعر أنها قد تكون المكالمة الأخيرة".
ويتابع: "فقدت عدداً كبيراً من أسرتي يفوق أكثر من 200 شهيد، وما نحصل عليه من صور للشهداء على هواتفنا المحمولة يجعلنا غير قادرين على تحمّل صعوبتها".
"والأصعب من استشهاد الرجال والنساء والأطفال هو حرب التجويع التي يخوضها الاحتلال ضد أهالي القطاع وحرمانهم من الطعام والشراب"، مشيراً إلى أن "منطقة دير البلح التي يقطنها أهله لا يستطيعون فيها الحصول على أي أنواع من الغذاء على مدار أكثر من يوم".
وشدد على أنه يجد صعوبة في توفير قوت يومه أثناء إقامته بالقاهرة، لكن ذلك لا يؤرقه أسوةً بفشله في التواصل مع أهله لأكثر من شهر تقريباً، لافتاً إلى أنه تواصل معهم بشكل مستمر طيلة الأسبوع الأول من الحرب، قبل أن يقصف الاحتلال بنايةً كان في أعلاها الموزع الرئيسي للإنترنت بالمنطقة، ومن ثم انقطعت الاتصالات.
ويخشى الطالب من أن تدمير البنية التحتية والمقرات الحكومية الرسمية في قطاع غزة بالتزامن مع انقطاع الاتصال بين بعض الطلاب وذويهم سيتسبب في عدم حصولهم على شهادات القيد من الجامعات، ويعوق بالتالي حصولهم على الإقامة في مصر.
"مشرَّدون" ينتظرون الإعانات
يوضح عدي أن هناك طلاباً غزاويين أضحوا مشردين وغير منتظمين في دراساتهم الجامعية وبعضهم ينتظر المعونات والمساعدات من الجمعيات الأهلية أو المصريين العاديين، لكن المشكلة أن عدد الطلاب كبير، ولم تتمكن هذه المبادرات من تغطية الاحتياجات والحالات الواردة لها، وبالطبع تلك المساعدات ستتضاءل حتماً إذا استمرت الحرب لفترة أطول، بسبب الحالة الاقتصادية التي يمر بها المصريون.
وقال مصدر بـ"منصة اللاجئين" لـ"عربي بوست" إنهم دعموا طلبات الطلاب الفلسطينيين الموجهة للحكومة المصرية وكل من لديه صلاحيات بمجلس الوزراء المصري لمخاطبة رؤساء مجالس الجامعات وعمداء الكليات لإصدار قرار بإعفاء كليّ لمصروفات الطلاب الفلسطينيين للعام الدراسي الحالي؛ بسبب الظرف الاستثنائي الذي يمرون به، مشيراً إلى أن ما يحدث في غزة على مسمع ومرأى من العالم ليس بحاجة إلى إثباتات وأدلة لإصدار قرار كهذا، فالمادة ٢٧١ من اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات تعطي حق استثناء بعض الطلاب الوافدين من معاملة الأجانب، وإعفائهم من كل أو بعض الرسوم ومصروفات الدراسة.
ومنذ يومين وجَّه شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بإعفاء الطلاب الفلسطينيين من المصروفات الدراسية واستضافتهم بمدينة البعوث الإسلامية، إضافة إلى صرف مبلغ مالي شهرياً لكل طلاب فلسـطين الوافدين للدراسة بجامعة الأزهر، ومعاهد البعوث الإسلامية.
وطالب عدد من السياسيين وأعضاء مجلس النواب في مصر الحكومة المصرية بإعفاء الطلاب الفلسطينيين في مصر من الرسوم الدراسية في المدارس والجامعات المصرية الحكومية والخاصة، مراعاة للظرف القاسي الذي يمر به الأشقاء.
وقالت "كتلة الحوار الوطني" إنها أرسلت خطاباً لكل من رئيس الوزراء المصري ووزراء التعليم والتعليم العالي ناشدتهم فيه إعفاء الطلاب الفلسطينيين من الرسوم الدراسية.
وأوضح مصدر مطلع بالسفارة الفلسطينية بالقاهرة، لـ"عربي بوست" أن عدداً من الشخصيات الفلسطينية المهمة بالقاهرة تعمل على تلبية احتياجات الطلاب المالية، وأن هناك قاعدة بيانات تفصيلية بحالات الطلاب، وكيفية التواصل معهم، بخاصة من المنتمين إلى قطاع غزة، مشيراً إلى أن السفارة تحرص على أن يظل جميع الطلاب في جامعاتهم ومدارسهم، وسهلت خلال الأيام الماضية مهمة عودة عدد قليل منهم إلى غزة، تزامناً مع بدء الهدنة.
يشير المصدر إلى أن الحكومة المصرية استجابت لمسألة ترحيل المصاريف وليس إلغاءها دون تحديد موعد زمني للسداد، تسهيلاً على الطلاب، لكن تبقى هناك مشكلات أكبر على مستوى دفع القيمة الإيجارية للأماكن التي يسكنون بها، إلى جانب توفير أموال تمكنهم من العيش مع الارتفاع المستمر في تكاليف الحياة المعيشية في مصر.