بالتزامن مع دخول العدوان الإسرائيلي على غزة أسبوعه الثالث، أصدرت شعبة مكافحة "الإرهاب" في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تحذيراً لجميع الإسرائيليين المتواجدين في العديد من دول العالم لمغادرتها فوراً، والعودة إلى إسرائيل.
وبررت هذه الشعبة موقفها بارتفاع مستوى التهديدات ضد الإسرائيليين في الخارج، كاشفة عن ارتفاع التحذير من السفر إلى عدد من الدول لأعلى مستوى، مطالباً إياهم بالمغادرة في أسرع وقت ممكن، والتوصية باتخاذ المزيد من الاحتياطات في تنقلاتهم بانتظار عودتهم.
تهديدات بالاستهداف
وزعم مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أنه "بعد بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد تم رصد تفاقم كبير للتهديدات ضد اليهود والإسرائيليين في جميع أنحاء العالم، ولذلك يقوم بإبلاغهم بالتغييرات الإضافية".
وكجزء من التهديد المتطور، قامت وزارة الشؤون القانونية بتحديث معلومات حول رفع مستوى تحذير الإسرائيليين من السفر في عدد من الدول، لاسيما المحيطة بإسرائيل، وفي ظل التطورات والأحداث، قد تزداد صعوبة عودتهم إليها بسبب تقليص الرحلات الخارجية عقب استهداف المقاومة الفلسطينية لمطار بن غوريون بالصواريخ.
ويتركز التحذير الإسرائيلي حول دول تركيا والمغرب ومصر والأردن والإمارات والبحرين وماليزيا وإندونيسيا وجزر المالديف، بزعم توفر معلومات عن محاولات تقوم بها جهات معادية، لم تسمّها، لاستهداف الإسرائيليين في الخارج.
لكن الحديث يُسلّط الضوء تحديداً على محاولات إيران وتنظيمات الجهاد العالمي والحركات الإسلامية، بزعم أن الأحداث الأمنية غير المعتادة في الأراضي المحتلة، لاسيما العدوان الإسرائيلي على غزة، قد يزيد الدوافع لتنفيذ هجمات ضد الإسرائيليين في الخارج من قِبل مجموعات معادية مختلفة.
وتتوجّه التحذيرات الإسرائيلية في أن الساحات التي يُرجح فيها حدوث مثل هذا "الأنشطة العدائية" التي قد تستهدف الإسرائيليين بدرجة أكبر هي الدول القريبة من إيران، أو أفريقيا والشرق الأوسط، مع التركيز على شمال سيناء ومناطق آسيوية.
وتأتي هذه التحذيرات استمراراً لما شهده العامان الماضيان من كشف وإحباط العديد من النوايا المعادية لمهاجمة أهداف إسرائيلية ويهودية، في جورجيا وقبرص وأذربيجان والبحرين واليونان ودول أخرى في حوض البحر المتوسط، بما فيها المنطقة الكردية في العراق، حيث يحظر القانون الإسرائيلي دخول الإسرائيليين.
وقد وصل التخوف الإسرائيلي إلى حدّ تحذير المواطنين الإسرائيليين من زيارة دول القرن الأفريقي والساحل وبعض دول وسط أفريقيا، كما تم التركيز على شمال سيناء.
أيضاً تم التحذير من زيارة مناطق في آسيا كأفغانستان، جنوب الفلبين، وباكستان وبنغلاديش ومنطقة كشمير في الهند، أما أولئك المقيمون في سيناء، فقد أوصى مجلس الأمن القومي بمغادرة المواقع السياحية المعروفة في الشريط الساحلي وشرم الشيخ.
تقليل وجود الإسرائيليين
تتحدث المعلومات الإسرائيلية أن مصدر المخاوف يتركز في استمرار محاولات عناصر معادية إقامة اتصال مع الإسرائيليين تحت ستار أنشطة تجارية مع إسرائيليين في تلك البلدان، من أجل استدراجهم، وإلحاق الأذى بهم، وصولاً لقتلهم أو اختطافهم من خلال استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، أو المراسلات عبر البريد الإلكتروني.
ولذلك تجددت التوصية للإسرائيليين الذين لم يغادروا تلك الدول بعد باتخاذ جميع الاحتياطات الموصى بها، لتقليل التجمعات في الأماكن العامة قدر الإمكان، وعدم ظهورهم بالرموز الدينية اليهودية، وتجنب الذهاب إلى الأماكن التي تم تحديدها على أنها يهودية، أو ذات انتماء إسرائيلي، وإظهار المزيد من اليقظة.
أكثر من ذلك، فقد توسعت التحذيرات الإسرائيلية لتصل إلى حدّ حظر الإسرائيليين للصعود على رحلات الترانزيت في الدول المعادية (سوريا، لبنان، العراق، إيران واليمن) والدول ذات مستوى التهديد العالي مثل ليبيا، الجزائر، باكستان، أفغانستان والصومال، والتوصية عند التخطيط لرحلة للخارج التأكد أن مسارها لا يمر فوق هذه البلدان.
ومن الواضح أن هذه التحذيرات الإسرائيلية الموجهة للإسرائيليين تعكس تهديداً ملموساً وحقيقياً في ضوء المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، فيما أعلنت وزارة الخارجية عن إخلاء عدد من سفاراتها حول العالم.
وطالبت إسرائيل سفراءها بالعودة إلى تل أبيب، لاسيما أولئك المقيمين في البحرين والأردن والمغرب ومصر وتركيا، فيما طالبت الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية سحب رعاياها في بعض دول المنطقة توخّياً للحذر.
وقالت وزارة العدل الأمريكية إنها رصدت تزايداً في التقارير الواردة عن تهديدات لليهود في الولايات المتحدة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، وقد وجّهت مكتب التحقيقات الاتحادي "إف بي آي" ومكاتب الادعاء العام في عموم الولايات المتحدة بالعمل مع أجهزة إنفاذ القانون المحلية للتصدي للتهديدات، وحثّ ممثلي ادعاء اتحاديين على التواصل مع شخصيات قيادية ودينية في المجتمعات المذكورة.
وتنطلق التحذيرات الإسرائيلية من مغبّة بقاء الإسرائيليين في الدول المذكورة أعلاه وسواها من حقيقة أن الأيام الأخيرة شهدت تفاقماً كبيراً للاحتجاجات ضد الاحتلال في مختلف دول العالم، مع التركيز على الدول العربية والشرق الأوسط، بجانب مظاهر العداء والعنف ضد رموز إسرائيلية.
بالإضافة إلى التصعيد الجاري في الخطاب الإعلامي والسياسي السائد في تلك الدول: رسمياً وشعبياً ضد إسرائيل، بما فيها الدعوة لاستهداف الإسرائيليين واليهود حول العالم انتقاماً مما يتعرض له الفلسطينيون من مجزرة مستمرة منذ أكثر من أسبوعين بقذائف جيش الاحتلال الاسرائيلي.
وليس صعباً ربط المخاوف الإسرائيلية على مصير الإسرائيليين المنتشرين في العديد من دول العالم بتطورات العدوان الجاري على غزة، في ضوء الاعتقاد السائد لدى حماس وإسرائيل أن المرحلة المقبلة من العدوان، ومع اقتراب العملية البرية، وما قد تتضمنه من وقوع خسائر بشرية فلسطينية ضخمة، تجعل إمكانية تعرّض الإسرائيليين في تلك الدول لعمليات انتقام أمر قائم، وبقوة.
تفسير آخر يتعلق بما تبديه المحافل الإسرائيلية من تقدير مفاده أن إيران وميليشياتها المسلحة المنتشرة في الدول المشار إليها أعلاه قد تعمد لاختطاف إسرائيليين أو قتلهم، ردأ على ما يحصل في غزة، وكجزء من شعارها المسمى "توحيد الساحات" مع المقاومة الفلسطينية.
الاستعداد لاغتيال قيادات حماس في الخارج
التفسير الثالث لتزامن التحذيرات الإسرائيلية من سفر الإسرائيليين إلى دول بعينها، والطلب منهم العودة على الفور، يرتبط بتهديدات علنية أطلقتها محافل قريبة من دوائر صنع القرار في تل أبيب باغتيال عدد من قادة حماس الموجودين في بعض دول المنطقة.
وقال يعكوف ناغال، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إن "إسرائيل سوف تستهدف كبار قادة حماس، مهما طال الزمن، وأين اختبأوا، ويجري الآن بناء قاعدة بيانات خاصة بهم".
وأضاف المتحدث أن "جناح حماس السياسي المقيمين في الخارج، خاصة إسماعيل هنية رئيس مكتبها السياسي، ونائبه صالح العاروري، وخالد مشعل رئيس الحركة في الخارج، ليسوا في مأمن من الإضرار بهم، وبممتلكاتهم، حتى لو وجدوا في بيروت أو الدوحة أو لبنان أو إسطنبول، أو في أي مكان آخر في العالم، لأننا سنطاردهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط".
فيما ادعى يارون فريدمان، المستشرق الإسرائيلي "المعتدل"، أن "الجيش الأمريكي يقترب من رأس أفعى حماس، لأن أكبر قاعدة له في الشرق الأوسط تقع في قطر على بُعد كيلومترات من مكاتب قادتها.
وأضاف المتحدث أنه من أجل المختطفين الإسرائيليين يجب اعتقال هؤلاء القادة خلال ساعات، وهذا ليس بعيد المنال، لأنه في صباح السابع من أكتوبر، أدى أربعة من قادتها صلاة الشكر على نجاح العملية، وهم: هنية، العاروري، مشعل، وخليل الحية.
وأضاف المتحدث أن "الخطوات الحاسمة والمهمة لتحقيق انتصار في هذه الحرب هو اعتقال رأس ثعبان حماس على أراضي قطر، مما يدعو لاستخدام الأمريكيين لنفوذهم عليها للقبض على قيادة الحركة حتى يتم إطلاق سراح المختطفين في غزة".
على الصعيد العملي، فقد تزامنت التحذيرات المتعاقبة لعدم سفر الإسرائيليين إلى عدة دول، وعودتهم منها على الفور، مع تحريض إسرائيلي لا تخطئه العين بضرورة الانتقام من حماس مما أوقعته في الاحتلال من هزيمة نكراء يوم السبت "الأسود".
وحثّ جهاز الموساد على ضرورة "التكفير" عن فشله الاستخباراتي بتنفيذ عمليات اغتيال في الخارج تطال قادة حماس المنتشرين في دول المنطقة، رغم أن هذه العمليات قد تستغرق أشهراً، وبعضها سنوات.
مع العلم أن مسؤولية تصفية قيادات حماس في الخارج تقع على عاتق الموساد الذي نفذ عمليات مشابهة طالت منفذي ومخططي عملية ميونيخ ضد الرياضيين الإسرائيليين في ألمانيا عام 1972.
ولا تتردد المحافل الاستخبارية الإسرائيلية في ترجيح فرضية مفادها أنه في يوم الأحد التالي لوقوع هجوم حماس في يوم السبت الذي سبقه، أمر رئيس الموساد ديفيد بارنياع بتشكيل فريق متخصص لمطاردة قادة حماس في الخارج، رغم أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً، سواء عند وضع أحدهم قيد المتابعة والملاحقة، مروراً بتحضير البنية التحتية الاستخباراتية المحيطة به، وصولاً لبدء التخطيط لعملية الاغتيال، وانتهاءً بالتنفيذ.
صحيح أن كل ذلك قد يستغرق عدة أشهر، وصولاً إلى سنة أو أكثر، لكن الأمر يستدعي إخلاء الدول المرشحة لأن تشهد عمليات اغتيال من الإسرائيليين خشية الانتقام منهم، أو القبض عليهم.
ورغم وجود رغبة إسرائيلية تجاه تنفيذ اغتيالات لقادة حماس، لكن التخوف يكمن في أن عدداً منهم مقيمون في دول تقيم معها إسرائيل علاقات دبلوماسية، رسمية أو سرية، مما قد يضرّ بعلاقاتها الخارجية.
لكن حجم الانتكاسة التي وقعت بها إسرائيل قد تدفعها للتحلّل من بعض الالتزامات تجاه تلك الدول، وتقدم على اغتيال قادة حماس على أراضيها، والمخاطرة بتضرر العلاقات الخارجية معها، مما قد يسوّغ تزايد التحذيرات لإخراج الإسرائيليين من تلك الدول، لاسيما التي يقيم فيها قادة حماس، خاصة تركيا.
الاختطاف وضرب السفارات
ليست المرة الأولى التي تحذر فيها إسرائيل رعاياها من استهدافهم في الخارج على خلفية اندلاع انتفاضات شعبية فلسطينية أو عدوانات يشنّها الاحتلال عليهم، فقد شكلت المواقع اليهودية والإسرائيلية أهدافاً لمختلف المنظمات الفلسطينية المسلحة لسنوات عديدة.
وكان لكل منها أسبابها الخاصة، لاسيما استهداف السفارات الإسرائيلية والطائرات التي تقلّ إسرائيليين، وما زال الأرشيف الإسرائيلي يحتفظ بالعشرات من الهجمات الفدائية التي استهدفتهم خارج إسرائيل، لاسيما مهاجمة القنصليات والبعثات الدبلوماسية، وإلقاء قنابل يدوية على مكاتب شركات إسرائيلية، وما زال الإسرائيليون عالقين في مسألة اختطاف المواطنة الإسرائيلية الروسية إليزابيث زوركوف في العراق منذ مارس/آذار 2023.
في الوقت ذاته، فقد كشفت أجهزة الأمن الإسرائيلية طريقة جديدة لاختطاف إسرائيليين أو استهدافهم في الخارج من خلال استخدام حسابات وهمية على شبكات التواصل الاجتماعي، وإقامة اتصالات معهم، بزعم أن لديهم علاقات تجارية مع أطراف في العالم، ومعتادون على السفر للخارج.
وقد فتح العملاء ملفات تعريف وهمية لنساء يبدو أنهن يعملن في مجال الأعمال والسياحة، على منصة "إنستغرام"، تمهيداً لتنسيق اجتماعات مع الإسرائيليين في الخارج، ومحاولة "جذبهم" تحت ذرائع تجارية، أو "رومانسية".
إن هذا النوع من النشاط الأمني يتم في مجموعة متنوعة من الدول التي تقيم علاقات مع إسرائيل، بما فيها بعض الدول العربية وتركيا ودول الخليج والقوقاز وأفريقيا وأوروبا، ما دفع الأمن الإسرائيلي لمطالبة الإسرائيليين بإظهار الوعي واليقظة فيما يتعلق بالاستفسارات على الشبكات الاجتماعية من الملفات الشخصية التي لم يتم التعرف عليها من قبلهم، ومنع إقامة علاقات معهم.