في الوقت الذي تحصي فيه الجبهة الداخلية الإسرائيلية خسائرها البشرية من الجنود والمستوطنين، سواء في هجوم "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي بلغ حتى الآن 1400 قتيل، و2400 جريح، وأسر قرابة 200 آخرين، فقد انشغلت الحكومة ووزاراتها ذات الصلة برصد خسائر الاقتصاد الإسرائيلي والتكاليف المالية للحرب التي أطلقها الجيش على غزة وسماها "السيوف الحديدية".
عديدة هي أوجه هذه الخسائر لعل أهمّها تحوّل معظم المدن الإسرائيلية في غلاف غزة إلى مناطق أشباح بسبب تصاعد إطلاق الصواريخ، فيما قلّصت الجهات الأمنية المجال المتاح للطيران المدني في أجوائها، لأن عمليات الإقلاع والهبوط بمطار بن غوريون تأخرت.
وفيما تعافت الأسواق الإسرائيلية بسرعة بعد الحروب التي خاضتها، تختلف هذه الحرب عن أي شيء عرفته سابقاً، ولذلك ستكون آثارها وتكلفتها الاقتصادية عالية جداً، وستتسبب بانخفاضات كبيرة في أسواقها المالية على المدى القصير جداً.
نحاول في هذا التقرير رصد صورة شاملة للخسائر الاقتصادية من جهة والتكلفة الاقتصادية لعملية الحشد العسكري من جهة أخرى، في محاولة للتعرف على إجمالي الخسائر الاقتصادية التي تضرب إسرائيل كل يوم.
التكاليف العسكرية
قبل التحدث عن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي في القطاعات المدنية، لنبدأ من الكلفة العسكرية المباشرة للحرب على غزة. توزعت النفقات العسكرية الإسرائيلية خلال حرب غزة على ثلاثة مجالات أساسية: تجنيد الاحتياط، العتاد العسكري المتآكل، احتياطي الذخيرة والوقود.
يكلّف اليوم الواحد لجندي الاحتياط 600 شيكل، وعقب استدعاء الجيش لـ350 ألف جندي، فإنهم يكلفون موازنة الدولة يومياً ما يزيد عن 200 مليون شيكل، أي 50 مليون دولار، باستثناء تكاليف استخدام منظومة القبة الحديدية، والذخيرة الكثيرة التي تطلقها. إذ تقدر تكلفة كل صاروخ تطلقه بـ120 ألف دولار، بجانب نفقات الصيانة ووقود المركبات المختلفة، بما فيها المجنزرات، الطائرات والسفن الحربية.
تتحدث بعض التقديرات الإسرائيلية أن كلفة يوم القتال الواحد في المتوسط تبلغ 200 مليون شيكل، ومن باب المقارنة فإن كلفة حرب 2014 ذات الخمسين يوماً بلغت 12 مليار شيكل، ما يوازي 3.5 مليار دولار، وكلفة حرب 2012 ذات الثمانية أيام بلغت 50 مليون شيكل، 15 مليون دولار، أما حرب غزة الأولى في 2008 ذات الاثنين وعشرين يوماً فبلغت 3.5 مليار شيكل، مليار دولار، واليوم تتوقع الأوساط العسكرية الإسرائيلية أن تمتد الحرب الحالية على غزة أسابيع طويلة قادمة، مما سيجعلنا نضع تقديرات مكلفة، ومكلفة جداً.
وعند الحديث عن تكاليف سلاح الجو الذي يقصف في غزة منذ أسبوعين، فإن كلفة كلّ طلعة جوية لطائرة إف16 لمدة ساعة واحدة تبلغ 27 ألف دولار، ويتجاوز متوسط تكلفة تحليق مروحية للمدة نفسها 12 ألف دولار، دون احتساب تكلفة الصواريخ أو الذخيرة العسكريّة التي تحملها كل منهما، وتبلغ تكلفة كل قذيفة موجهة 7500 دولار.
تجنيد الاحتياط
توقف الخبراء الاقتصاديون الاسرائيليون مطولاً عند تبعات تجنيد مئات آلاف جنود الاحتياط، ممن تم فصلهم عن سوق العمل، الأمر الذي من شأنه إلحاق أضرار اقتصادية كبيرة، لأن تجنيد 350 ألف جندي احتياط اليوم يبلغ خمسة أضعاف ما تم تجنيده في حرب لبنان الثانية بأكملها، أي أن تكاليف الحرب ذاتها، من حيث عدد الجنود فقط، ستكون أعلى بمقدار خمسة أمثالها.
وبالتالي ستصل تبعات سحبهم من المرافق الاقتصادية للدولة رقماً صادماً يبلغ نحو مليار شيكل أسبوعياً، مما سيعتبر ضربة اقتصادية، مع توقع أن تزيد الخسارة الإجمالية بنسبة أكثر.
وإذا بلغ عدد العاملين في الاقتصاد الإسرائيلي أربعة ملايين نسمة، فإن نسبة جنود الاحتياط الذين تم تجنيدهم تزيد عن 7% من إجمالي العاملين في الاقتصاد، وهو رقم ضخم، ولا توجد بيانات بشأن توزيعهم حسب الجنس، لكن الافتراض أن عدد الرجال أكبر من النساء، مما سيجعل نسبة القوى العاملة للذكور في الاقتصاد الإسرائيلي المغلق هذه الأيام أكثر من 10%، وهذه نسبة من شأنها أن تسرّع في معدلات التضخم.
اليوم، وبعد أسبوعين على اندلاع الحرب، بدأ المجتمع المالي الإسرائيلي يتحدث عن عواقبها بعيدة المدى، تخوفاً من وقوع السيناريو الأكثر تشاؤماً، لأنه يصعب للغاية تقدير التكلفة الإجمالية في هذه المرحلة دون معرفة مدّة الحرب، وعدد القطاعات التي ستشملها، والمناطق التي ستتوقف عن العمل اقتصادياً، لأن هناك أرقاماً مثيرة للقلق إسرائيلياً تشير إلى أن الحرب الحالية ستكلف أكثر بكثير من سابقاتها، خاصة 1973 و2006.
في الوقت ذاته، فإن مبالغ التعويضات لعائلات الجنود والمستوطنين القتلى والجرحى سيستنزف موازنة الدولة، مما سيتطلب قدراً أكبر من الموارد، وستأتي معظم ميزانية هذا القسم من صندوق التعويضات، مما سيسفر عن مزيد من التضخم المصحوب بالركود، ويرجح أن تتسبب في أضرار طويلة الأمد.
خسائر الاقتصاد الإسرائيلي
أما من ناحية الوضع الاقتصادي بشكل عام، فقد تزامن اندلاع العدوان على غزة مع حالة من عدم الاستقرار الذي مرّ به الاقتصاد الإسرائيلي بسبب الانقلاب القانوني الذي شرعت بتنفيذه حكومة اليمين، لكن تأثير الحرب جاء سريعاً، وتخشى إسرائيل أن يتحول إلى تراجع وكساد، بما في ذلك خسارة الفرد الإسرائيلي من دخله، والمستوى الذي حصل عليه طوال الفترة الماضية، كما أخذ معدل البطالة يزداد.
وضعت حرب غزة المجتمع الإسرائيلي في حالة من الاضطراب، والتوتر الأمني، والانشغال بالمواجهة، مما أثّر سلباً على القطاعات الأكثر حساسية كالسياحة، والاستثمار، والصناعة، والزراعة، والتشييد، والبناء.
وكبّدت المقاومة الإسرائيليين أثماناً اقتصادية باهظة رغم محاولات الحكومة التقليل منها، ولذلك يمكن القول إن "تدهور الاقتصاد الإسرائيلي بدأ من اليوم الأول للحرب، وكلّفته مليارات الدولارات، ومسّت مجرياتها بجميع نواحيه".
كما حدث انخفاض في عدد الإسرائيليين المتجهين لشركات التسوق الكبيرة، وكشف اتحاد الغرف التجارية أن انخفاضاً طرأ بنسبة كبيرة على أرباحها بسبب تقلص عدد من يرتادونها، بعد أن شكلت هدفاً لسقوط صواريخ المقاومة، وأدت الحرب إلى تقلّص عدد الإسرائيليين الذين يقضون إجازاتهم في المنتجعات السياحية.
كما واجهت شركة النقل العام الرئيسة "إيغد" انخفاضاً كبيراً في عدد الإسرائيليين الذين يستخدمون حافلاتها، مما نجم عنه خسائر فادحة كبيرة.
لم تقدّر الأوساط الاقتصادية الاسرائيلية بدقة حجم تكاليف وخسائر الحرب، لأنها ما زالت مستمرة، ويتوقع أن تستمر أسابيع أخرى قادمة، فيما جرى تقديم آلاف الدعاوى للمطالبة بتعويضات مقابل أضرار سقوط الصواريخ على مركبات ومبانٍ وزراعة وبنى تحتية وشبكات كهرباء.
وفيما قُدّرت الأضرار اليومية للسوق الإسرائيلية بمئات ملايين الشواكل، فقد اشتكى قطاع الصناعات من خسائر كبيرة نتيجة تراجع حجم التصدير، وأشارت السلطات المحلية لأضرار بمليارات الشواكل نتيجة زيادة المصروفات بسبب حالة الطوارئ.
وتكبّدت آلاف المؤسسات التجارية خسائر مباشرة، مع توقعٍ بأن تغلق بعضها أبوابها بسبب الركود الاقتصادي وتباطؤ النمو، مما يعني فصل آلاف العمال، لأن معدل القوى العاملة يصل مليون مستخدم، منهم 480 ألفاً بالجنوب.
كما ألقت حرب غزة بأضرارها على القطاع الخاص، تمثلت بسحب مليارات الشواكل من صناديق الائتمان في أيام الحرب، يضاف إليها الخسائر الصناعية نتيجة غياب العمال، أو عدم الالتزام بمواعيد إرساليات البضائع، وأصدر وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات أمراً يُلزم بتفعيل قانون العمل في ساعات الطوارئ.
كل ذلك دفع بوزير المالية المتطرف بيتسلئيل سموتريتش للاستنجاد بأسلافه يوفال شتاينيتس وموشيه كحلون وأفيغدور ليبرمان لأخذ استشاراتهم الاقتصادية، خشية انهيار قطاعات مهمة في الدولة عقب إعلان الحكومة أن أولويتها المالية هي الإنفاق على العمليات الحربية في غزة.
كما أضرّت حرب غزة بمعنويات المستثمرين الإسرائيليين، في الوقت الذي بدا فيه اقتصادهم المتطوّر تكنولوجياً وقوامه 250 مليار دولار لن يتأثر بالحرب، لكن النمو تقلّص فعلاً بسببها، وتكلف عدة مليارات من الدولارات، وفي المقابل دفعت الحرب لتنامي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل، وتكثيف أنشطتها بدعوة الأجانب لعدم شراء السلع المنتجة في المستوطنات.
الاستيراد والأمن الغذائي
بعد مرور أيام على اندلاع الحرب، بدأت تظهر صعوبات متزايدة في عملية استيراد المواد الخام والبضائع من الخارج عبر البحر. وقد أفادت صحيفة Calcalist يوم الأربعاء، 18 أكتوبر/تشرين الأول، بأن شركات الشحن رفعت أسعار التأمين على الحاويات والسفن بسبب مخاطر الحرب.
وعلمت الصحيفة أن السفن الأجنبية تخشى دخول موانئ إسرائيل، بينما يواجه أصحاب الشركات التي تستورد المواد الخام من الخارج صعوبةً في إغلاق عطاءات استيراد البضائع. إذ أوضح تال شمعون، الرئيس التنفيذي لشركة Solver الرائدة في تصنيع فول الصويا لخدمة صناعة المواد الغذائية في إسرائيل: "هناك سفن في طريقها إلى هنا محملة بالحبوب والقمح والصويا، لكنها تحاول إلغاء عقودها؛ لأنها لا ترغب في المخاطرة بطواقمها. حيث يقول أصحاب السفن إنهم يعانون من مشكلات في المحرك مثلاً".
الأسواق والمطاعم
عديدة هي مظاهر التبعات الاقتصادية السلبية لحرب غزة على الإسرائيليين، لعل أهمها إغلاق العديد من مراكز التسوق. ومنذ اليوم الثالث من الحرب، ظهرت الرفوف في أكبر سوبرماركت وسط تل أبيب خالية تقريباً من الخضار والفواكه، عقب تضرر الزراعة في مناطق واسعة من مستوطنات غلاف غزة التي تعرضت لهجوم حماس الكبير، ونتيجة له انقطعت خطوط الإمداد من هناك.
فيما تبدو المطاعم الإسرائيلية في معظمها فارغة ومغلقة، فلا أحد يفكر بتناول الطعام خارج المنزل في مثل هذه الأيام، مما يجعل أصحابها في ورطة، وهناك عشرات الآلاف من أصحاب الأعمال الذين يواجهون مشاكل حالياً، ولا يعرفون ماذا سيفعلون الشهر المقبل.
فقد مضى أسبوعان من أكتوبر(تشرين الأول)، ودخلهم يتراوح بين صفر وأرقام قليلة جداً، أغلبها خاسرة ولا شيء، بعض العمال في جيش الاحتياط الذين تم استدعاؤهم، والبعض الآخر يخاف أن يأتي، أو يتواجد في المنزل مع الأطفال، وعندما يفتح بعضهم بضع ساعات، فلا يوجد عملاء.
ووجّه أصحاب العشرات من المطاعم رسائل بفصل عمالهم في ظل إغلاقها، وبحسب بيانات شركة المعلومات التجارية CofaceBDi، ففي الأيام العشرة الأولى من الحرب، بلغت خسارة الإيرادات في هذا القطاع 350 مليون شيكل، ووجهت نقابة المطاعم والمقاهي رسالة لأصحاب المطاعم لتسريح عمالهم، أو منحهم إجازة مرضية، مع أن هذا القطاع يستوعب 200 ألف عامل.
وتشير التقديرات إلى أنه في كل يوم من أيام القتال، تبلغ خسارة هذا القطاع 35 مليون شيكل (حوالي 9 ملايين دولار)، ويقع الضرر الرئيسي في المطاعم الفاخرة، كما تأثرت الأماكن التي تعتمد على خدمات التوصيل مثل مطاعم البيتزا، وقد تم إغلاق بعض المقاهي والمطاعم بسبب الوضع، كما تعاني تلك المفتوحة من انخفاض حركة العملاء، لأنه نادراً ما يغادر الإسرائيليون منازلهم.
مع العلم أن نقابة المطاعم والمقاهي تمثل أكثر من 300 سلسلة، أهمها "شيشيم إلكتريك"، "A.L.M"، "كاسترو"، "المشبير"، "تسومات سريفريم"، "ستيماتسكي"، بجانب 20 ألف متجر يعمل فيها 300 ألف عامل، وتدرّ أعمالها 80 مليار شيكل من حجم الأعمال السنوي، وحجم مبيعات يومي 200 مليون شيكل.
انهيار العقارات
شكل استمرار سقوط صواريخ المقاومة على المدن الإسرائيلية مبرراً لدى بلدياتها لمنع شركات البناء العقارية من فتح مواقعها لأسباب أمنية، مما ألحق أضراراً بالصناعات العقارية، مع تخوف بأنه إذا استمرت الحرب لأسابيع قادمة فستشهد انهياراً للشركات العقارية في مناطق: "تل أبيب، أشدود، جفعتايم، حولون، رمات غان، ريشون لتسيون، هرتسليا، كريات غات، كرميئيل، آرييل، غيديرا، رمات هشارون، بيت شيمش، بات يام، رعنانا، كفار سابا، بئر السبع، وكريات بياليك".
ولأن معظم العاملين في هذا القطاع من الفلسطينيين، فقد أغلق الاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما غادر العديد من العمال الأجانب عقب اندلاع الحرب، وفي حين أن بعض فلسطينيي48 يخافون من القدوم للعمل بسبب مضايقات المستوطنين، فإن المقاولين الإسرائيليين يخافون منهم خشية تنفيذهم لعمليات فدائية، مما دفع اتحاد المقاولين والبناء للتحذير من التداعيات المستقبلية على قطاع العقارات عقب تكبده خسائر بسبب الحرب نتجت بسبب جمود البناء، وعدم نشر مناقصات لتشييد آلاف وحدات الإسكان.
رأت المرافق الاقتصادية أن إطالة أمد حرب غزة قد يسرّع بتدهور صناعة العقارات لأدنى مستوى لها لأكثر من عشرين عاماً، وهي نسبة لم تشهدها إسرائيل منذ انتفاضة الأقصى، وفيما بلغ سوق العقارات في الأشهر الثمانية الأولى من 2023 معدلاً سنوياً أقل من 80 ألف صفقة، فإنه في ظل الحرب الحالية، يرجح أن ينخفض المعدل إلى 70 ألف صفقة سنوياً.
وحذّر المقاولون من نقص حاد في الأيدي العاملة لم يشهدوه منذ عقود، بسبب حرب غزة التي عرّضت سوق العقارات لأخطر أزماته؛ فمواقع البناء مغلقة جزئياً بتوجيهات السلطات المحلية وقوات الأمن، والعمال الفلسطينيون لا يصلون لمواقع أعمالهم، والبناء انخفض إلى الصفر، وهناك نقص بنحو 80 ألف عامل، وخسارة بمليارات الشواكل لا تزال تتراكم، ويتم الكشف عن بيانات الأضرار التي لحقت بالعقارات ساعة بعد ساعة.
وزير الإسكان يتسحاق غولدكنوبف ناشد وزراء الداخلية والاقتصاد والعمل، أن يتحركوا بشكل عاجل لمضاعفة حصة العمال الأجانب في صناعة البناء، وادعى رئيس اتحاد المقاولين، راؤول سارغو أن "الحرب أدت لإغلاق معظم مواقع البناء في الدولة، وبالتالي يجب تسهيل استقدام العمالة الأجنبية، وحظر دخول العمال الفلسطينيين للعمل في صناعة البناء والتشييد، واستيراد العمال الأجانب، حتى لا تتعطّل صناعة البناء، أو انهيارها، خاصة من الصين ومولدوفيا".
تدهور الشيكل
فور اندلاع الحرب على غزة، ظهرت مطالبات بإغلاق بورصة تل أبيب لأبوابها ليوم أو يومين بدافع الحداد، لكنها لم تفعل ذلك خشية تسبب القرار بأضرار نفسية هائلة، وإلحاق أضرار باستعداد المستثمرين الأجانب للاستثمار في إسرائيل مستقبلاً، والأخطر أن تشكل الخطوة استسلاماً لحماس، وإضراراً بالاقتصاد الإسرائيلي، وزيادة في حالة عدم اليقين والذعر، ومظاهر الفوضى، والشعور بانعدام الأمن السائد، مع أن يوم التداول الأول بعد الحرب بلغ 2.2 مليار شيكل، بثلاثة أضعاف أيام التداول في أيام الأحد السابقة، مع 160 ألف صفقة، ضعفي أيام الأحد السابقة.
أورد إسرائيليون تقييمات حول ما سموه "اقتصاد الحرب"، وما تركته من ردود فعل فورية على سوق رأس المال الإسرائيلي وقيمة الشيكل، حيث انخفضت مؤشرات الأسهم بنسب مقلقة لإسرائيل، مما دفعها لإعلان استعدادها للتدخل في السوق، وبيع الدولار، وهي خطوة لم يتم القيام بها منذ أن أصبحت العملة قابلة للتداول بحرّية في 1998، مع أن بنك إسرائيل يمتلك احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي تبلغ 200 مليار دولار، وذكر أنه مستعدّ لبيع 30 مليار دولار من المبلغ لتحقيق استقرار العملة، أي حوالي 15% من إجمالي احتياطياته، وهي خطوة كبيرة وغير مسبوقة.
أظهرت شدّة التراجع في سوق الأسهم المحلية أن الإسرائيليين يعتقدون أنهم يسيرون باتجاه حرب طويلة، وأن هذه ليست حرباً ضد حماس فقط، بل يحتمل أن تكون هناك جبهة ثانية، وإلا فلن يكون هناك سبب للاعتقاد بأن سوق الأسهم بأكملها قد انخفضت بنسبة 10% في أسبوع واحد، خاصة أنه في السنوات الأخيرة، لم تتفاعل سوق الأوراق المالية مع العمليات العسكرية ضد غزة، لأنها جولات قصيرة، وتأثيرها منخفض على الاقتصاد الإسرائيلي.
يقارن الاقتصاديون الإسرائيليون حرب غزة الحالية بحرب لبنان الثانية، حينها شهدنا ردود فعل مماثلة من الأسواق، وشملت انخفاضاً حاداً في سوق الأسهم في الأيام القليلة الأولى، وضعفاً كبيراً في قيمة الشيكل، مع أن ذروة انهيار الشيكل وصلت إلى حدّ اجتيازه بوّابة الأربعة شواكل للدولار الواحد، وهو معدّل لم تصله منذ 2003 إبان حرب العراق، مما دفع بالبنك المركزي الإسرائيلي للتدخل في سوق الصرف الأجنبي، عقب تسببه في ظهور توقعات اقتصادية قاتمة، وقلق مالي بين الجمهور الإسرائيلي.
يذكر أن وكالة موديز للتصنيف الائتماني أخضعت، الخميس 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصنيف إسرائيل (A1) قيد المراجعة، تمهيداً لخفض محتمل، في وقت يواصل فيه الاحتلال حربه ضد قطاع غزة، موضحة "أثبت الملف الائتماني الإسرائيلي قدرته على الصمود في وجه الهجمات والصراع العسكري في الماضي.. ومع ذلك، فإن شدة الصراع العسكري الحالي تثير احتمال حدوث تأثير ائتماني سلبي طويل الأمد".
قطاع الطاقة
بعد وقت قصير من بدء هجوم حماس، تم إغلاق منصة غاز "تمار" لاستخراج الغاز الطبيعي في البحر المتوسط خوفاً من إطلاق الصواريخ عليها.
وسيكون الأمر أكثر صعوبة عليها، من وجهة النظر الإسرائيلية، إذا توسعت الحملة، حيث سيكون هناك ضرر للحفارات الكبيرة، أو محطات الطاقة التي تزود الاقتصاد الإسرائيلي بمعظم الكهرباء، لأن مركزية اقتصاد الطاقة تجعل مرافق إنتاجها هدفاً مرغوباً فيه من المقاومة، ويزداد التهديد كلما زادت دقة الأسلحة الموجودة في أيديها.
وإذا تعرضت محطة توليد الطاقة أو منصة الحفر لضربة مباشرة، فإن الإصلاح سيستغرق شهوراً، وقد كشف الاحتلال أنه أحبط هجوماً لحماس على هذه المرافق خلال هذه الحرب.
انهيار الشركات
مع دخول الحرب أسبوعها الثالث، فإن خسارة الاحتلال وصلت مليارات الشواكل، وهي مستمرة في التراكم، وبحسب تحليل القسم الاقتصادي لاتحاد الصناعيين، فيبدو أن الاقتصاد الإسرائيلي بدأ بالفعل يدفع ثمناً باهظاً للحرب، وقد وصل حتى اليوم 4.6 مليار شيكل (1.14 مليار دولار)، نتيجة عدم ذهاب العمال لأعمالهم، وانخفاض الإنتاجية، وإغلاق نظام التعليم، وطرق المرور، وتعبئة جيش الاحتياط على نطاق واسع، ولم يذهب 1.3 مليون عامل لأعمالهم هذا الأسبوع، 85% منهم من المنطقة الجنوبية على الحدود مع غزة التي تشهد ذروة الحرب، والباقي موزعون على أنحاء الدولة، فيما اضطر 25% من الآباء للتغيب عن مكان العمل لرعاية أطفالهم في منازلهم.
رئيس هيئة أصحاب العمل والشركات رون تومار اعترف أن "الحرب تشكل ضربة قاسية للاقتصاد الإسرائيلي، والقطاع الصناعي يعاني حالياً من نقص العمال نتيجة الحرب، مما قد يجعلنا غير قادرين على توصيل المنتجات لكل منزل، المشكلة الأساسية التي تواجهنا تكمن في اللوجستيات التي قد تسفر عن حدوث نقص كبير في رفوف المحال التجارية".
لا يأخذ هذا التقدير في الاعتبار الأضرار المالية الإضافية والكبيرة جداً، ولن يكون تقديرها الاقتصادي إلا في نهاية القتال، مثل الأضرار المباشرة التي لحقت بالمصانع والأرباح وسمعة العملاء خارج إسرائيل، وإلغاء المعاملات والصفقات، وعدم الالتزام بجداول التسليم، وانخفاض قيمة الشيكل.
لم تقتصر أضرار الحرب الإسرائيلية على غزة على المصالح الاقتصادية الكبيرة، لكنها وصلت الشركات الصغيرة والمتوسطة التي طالبت الحكومة بإنقاذها من الانهيار، معتبرة أن الإجراءات التي اتخذتها وزارة المالية منذ بداية القتال غير كافية، لأنها لا تقدم استجابة فورية، ولن تتمكن العديد من الشركات من البقاء على قيد الحياة إن طال أمد الحرب.
المحامي روي كوهين، رئيس مكتب الشركات الصغيرة، اتهم الدولة بأنها لا تستخلص دروسها من الماضي، ولا تخرج باستنتاجات مفيدة من جميع عملياتها العسكرية السابقة، بدليل أنها تعاملت مع نتائج الحرب الجارية بدون خطة اقتصادية، سواء وقف رسوم ضريبة الأملاك، أو مدفوعات الفائدة على القروض، أو إرسال الموظفين في إجازة غير مدفوعة الأجر، أو التعويض عن النفقات الثابتة، أو إنشاء صندوق ضمان الدولة، العمال لا يعملون، ويقولون إنهم لا يستطيعون القدوم للعمل، فمن سيتحمل مسؤولية دفع تكاليفهم، النفقات 100%، والمدخولات صفر.
وفي حال استمرت الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن الشركات الصغيرة سوف "تجثو على ركبتيها" تحت العبء الاقتصادي، مما يستدعي الحاجة لإنشاء طريق مساعدة عاجلة للشركات المتضررة خلال الحرب، وإذا لم تقدم الحكومة رداً فورياً، فلن تتمكن العديد منها من البقاء على قيد الحياة هذه الفترة بسبب انهيار إيراداتها، و"كلما طال أمد الحرب، فستزداد الأضرار الاقتصادية، وسيكون التعافي بطيئاً".
توقف الطيران والسياحة
عانت المرافق السياحية ودور الترفيه والفنادق والمطاعم من آثار الحرب، وتم إلغاء الكثير من الحجوزات فيها، وألغيت الكثير من الحفلات، وطرأ انخفاض واضح على عدد المحتفين بمناسباتهم فيها، وطرأ انخفاض كبير على عدد الشبان المرتادين للمراقص الليلية؛ ما أثار مخاوف من الكساد التجاري في الأسواق، والمحلات والمطاعم التي أصبحت شبه خالية، وصالات الأفراح التي لا يرتادها سوى المقربين من العروسين!
وجرى إلغاء آلاف رحلات الطيران باتجاه إسرائيل، وبدأ آلاف الإسرائيليين يتقاطرون على المطار طلباً للمغادرة هرباً من الأوضاع الأمنية المتدهورة، أي إن سقوط الصواريخ لم يضرّ فقط المباني والمرافق العامة، بل انسحب على حركة السياحة، وضرب الموسم كله، وقام عشرات آلاف السياح بتقصير مواعيد رحلات الإياب، لأقرب رحلة مغادرة، خوفاً من تصعيد كبير يؤدي لإغلاق المطارات.
وكتبت رابطة وكلاء السفر أن "صناعة السياحة انهارت تماماً، البعض منا يحتفظ بالموظفين، وإذا لم يكن هناك مخطط تفصيلي للعاملين بأجر، فليس لدينا طريقة لدفع رواتبهم، وتم إلغاء الرحلات التي يجب ردّها للمسافرين، رغم دفع المدفوعات الكاملة للفنادق، ورحلات الطيران، وأماكن الجذب السياحي، فيما حذرت الفنادق السياحية من أنه بدون مساعدة الدولة، فإنها قد تغلق أبوابها".
وعبّر مسافرون إسرائيليون عن غضبهم وتذمرهم الشديد بسبب وقف شركات طيران عالمية رحلاتها من وإلى مطار "بن غوريون"، بسبب الوضع الخطير نتيجة الحرب في غزة، ولذلك كان المتضرر الأكبر في العدوان هو قطاع السياحة، ما دفع وزير السياحة حاييم كاتس للمطالبة بموازنة إضافية من الحكومة لإنقاذ المجال السياحي من الانهيار بتمويل إطلاق حملة تسويق، خصوصاً في الدول الصديقة، كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لحثّ مواطنيها على زيارة إسرائيل، وبأسعار مغرية، كما تضرّرت الفنادق جراء إلغاء الحجوزات والمطاعم وشركات النقل، ونقل آلاف المستوطنين من الشمال والجنوب لهذه الفنادق على حساب الدولة.
تعويضات الأضرار
تجاوزت الأضرار التي لحقت بالممتلكات المدنية منذ بداية الحرب عشرة مليارات شيكل، وتعامل موظفو الضرائب العقارية مع 6500 شقة وسيارة في عسقلان وتل أبيب وحدهما تضررت من الصواريخ الفلسطينية، دون أن تُعرف الأضرار في المستوطنات المحيطة بعد، خاصة كيبوتس بئيري، كفار عزة، نتيف عتسراه، رعيم، سديروت، نتيفوت، وأوفاكيم، مع ظهور مطالب من اتحاد الغرف التجارية للحصول على تعويضات من الحكومة، وقد جمع صندوق ضريبة الأملاك حتى الآن 18 مليار شيكل.
وأرسل رئيس غرفة وكلاء التأمين شلومو إسحاق رسالة لوزير المالية بيتسلئيل سموتريتش، يطلب فيها إنشاء شركات تأمينات خاصة لحصر أضرار الإسرائيليين من الحرب؛ لأنهم أفادوا بعدم توفر مقيّم ضريبة الأملاك مما يسبب التأخير، ويعمّق الأضرار لديهم، في ضوء التقدير بأن الحرب ستستمر فترة طويلة، الأمر الذي من شأنه خلق عدم الاستقرار على الجبهة الداخلية.
البروفيسور تسفي إيكشتاين، رئيس معهد أهارون للسياسة الاقتصادية بجامعة رايخمان، أعدّ ورقة موقف نصّت على أن الحرب الحالية تتطلب تغيير الموازنة، وإنشاء موازنة طوارئ لتمويل نفقات الحرب، وتقديم الميزانيات وتعويضات الممتلكات دون انتظار سداد الحسابات بالكامل، لأنه في الوقت الحالي، تتدفق أموال ضخمة من المانحين، وبحسب الحروب الماضية، فإن الزيادة في النفقات لا تتجاوز 15-16 مليار شيكل.
المعلق الاقتصادي يهودا شاروني، اعترف "أننا ندخل فترة من التباطؤ الاقتصادي في الحرب، فهناك انخفاض بنسبة 50٪ في الأعمال التجارية، وستكون هناك حاجة لمراجعة موازنة 2024، والأضرار التي لحقت بإسرائيل تهدّد بخلق أزمة اقتصادية أخرى، وعلى افتراض أن الحرب ستستمر 50 يوماً، فلدينا إنفاق إضافي لا يقل عن عشرة مليارات شيكل، لأن عائدات الضرائب منخفضة، وسيحاول محافظ البنك المركزي عدم تحميل الإسرائيليين عبئاً مالياً إضافياً فوق أعبائهم الأمنية".
فوضى عارمة
اتهم اقتصاديون إسرائيليون أصحاب القرار بالانعزال عن الأزمة الاقتصادية التي تعانيها الدولة بسبب الحرب، وهكذا فإن هجوم حماس لم يفاجئ الجهاز الأمني فحسب، بل النظام الاقتصادي أيضاً، خاصة فيما يتعلق بالشركات التي أغلقت بسبب أوضاع الحرب الناشئة، وهكذا تم إغلاق الاقتصاد الإسرائيلي تقريباً، معظم الشركات الصغيرة مغلقة، أو لا تفتح سوى بضع ساعات في اليوم، وانخفاض حجم الأعمال، والنفقات ثابتة ومرهقة.
كل ذلك يؤكد أن المنظومة الاقتصادية الإسرائيلية بأسرها لا تزال تعيش حالة الصدمة، ومن الواضح أن هذه الصدمة ستكون طويلة ومرهقة، وأوشكت عشرات الشركات الصغيرة خلال الأسبوعين الماضيين على الانهيار؛ لأنها لم تعد قادرة على سداد الأقساط المصرفية والظروف المأساوية، في حين لا يرى وزير المالية حجم الكارثة التي يعيشها قطاع الأعمال بسبب الحرب، والاهتمام باحتياجاتهم اليومية شبه معدوم.
إحدى الإشكاليات التي تواجه الإسرائيليين بتقدير خسائرهم الاقتصادية أنهم لا يعرفون مدى الحرب الحالية على غزة، ونتائجها المتوقعة، ولذلك فهم يذهبون لمحاكاة نتائجها الاقتصادية بما كان عليه الحال عقب حروب 1973 و2006 و2014؛ كونها امتدت فترات زمنية طويلة نسبياً، وألحقت أضراراً بالاقتصاد الإسرائيلي، وتشابهت في عدم اليقين الجيو-سياسي من نتائجها، وأزمة الثقة المتوقعة في الحكومة الإسرائيلية التي تنتظر تشكيل لجان تحقيق في إخفاقها الكارثي صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول أمام مقاتلي حماس.
ولذلك يعتبر الإسرائيليون أن الضرر على الاقتصاد الإسرائيلي سيكون أثقل بكثير بسبب التأثير الرهيب لفقدان الثقة بالحكومة إن لم تخرج بنتائج مرضية لهم، مما سينشر شعوراً بينهم مفاده أنها تخلّت عنهم، ولأن الحرب الحالية اندلعت في الربع الأخير من العام فستكون تبعاتها الاقتصادية أشد وضوحاً في 2024 من حيث انخفاض النمو وزيادة التضخّم، وهناك تخوف أن تكون بمثابة القشة الأخيرة التي ستقصم ظهر الدولة أمام شركات التصنيف الائتماني التي قدمت تصنيفاً سلبياً لها خلال الشهور الماضية.