بعد ساعات فقط من وقوع مجزرة مستشفى المعمداني في غزة، التي أسفرت عن استشهاد أكثر من 500 فلسطيني، عبرت أوساط سياسية ودبلوماسية إسرائيلية عن قلقها من ضيق الخناق الدولي عليها.
وصدرت مواقف غربية وعربية ودولية تطالب بحماية المدنيين في غزة، وتحييدهم عن القصف الدموي الذي ترتكبه طائرات الاحتلال، بعد قصف مستشفى المعمداني.
انتقادات حقوقية
وشهدت الأيام الأخيرة ظهور أصوات إسرائيلية ودولية عديدة أبرزت عدم توافق العدوان الجاري على غزة مع مبادئ القانون الدولي واتفاقيات جنيف ومواثيق الحروب.
ولعل ما ساعد على ظهور هذه الأصوات هو الوضع القانوني لقطاع غزة، والحرب غير المتناظرة التي يشهدها في هذه الأيام بين جيش نظامي حديث، وتنظيم مسلح يخوض حرب عصابات.
لكن الاحتلال الإسرائيلي عبر عن قلقه من نجاح التصويت عن القرار في جلسة قادمة إذا زادت حدّة الجرائم التي يرتكبها في غزة، مما سيُحرج باقي الدول، ويُجبرها "أخلاقياً" على إدانة تلك الجرائم، والدعوة لحماية المدنيين الفلسطينيين.
كما تزايدت المواقف الدولية التي تدين العدوان الإسرائيلي في ضوء ما بثّته الصحافة العالمية وشبكات التلفزة من مشاهد مروّعة للمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال.
كل هذا أدى لارتفاع مستوى الحديث عن البعد القانوني للعدوان داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بفضل الجهد الكبير الذي تبذله المنظمات الحقوقية المحلية والدولية في تصويرها على أن ما يحدث من عدوان، غير قانوني.
اللافت أن دولة الاحتلال تحاول الالتفاف على القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة من خلال الادعاء بحقّها في الدفاع عن نفسها لمواجهة أي هجوم مسلح يقع ضدها، متذرّعة بما قامت به الولايات المتحدة عقب هجمات سبتمبر، حين أقرت الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحق الدول في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات "الإرهابية" أيضاً.
لكن دولة الاحتلال جوبهت بموقف قانوني من قبل المنظمات الحقوقية التي أكدت أنه إذا كانت المنطقة التي خرجت منها الهجمات المسلحة خاضعة لاحتلال عسكري من قبل الدولة التي وقع عليها الهجوم، يمكن القول إن ما ينطبق عليها هو اتفاقية جنيف الرابعة.
وبالتالي فإن ما تعرضت له إسرائيل من هجوم "طوفان الأقصى" لا يتطلب هجوماً عسكرياً شاملاً على غزة ردّاً عليه، لا سيما استهداف المواقع المدنية مثل المساجد، الكنائس، المستشفيات، بزعم تحوّلها إلى مقارّ لقيادة حماس.
تعثّر دبلوماسي
انتقاد آخر تلقته إسرائيل منذ الأيام الأولى لهذه الحرب، بسبب حصارها المطبق على الفلسطينيين في غزة، وحرمانهم من الاحتياجات المدنية والمعيشية إلى الحدّ الذي قد يتسبب في إحداث "مجاعة" بصفوفهم، مما زاد من الدعوات الدولية الموجهة للاحتلال للسماح بإدخال الغذاء والدواء.
في الوقت ذاته، فإن القيام بعملية فحص لأداء الدبلوماسية الإسرائيلية يكشف حجم الفجوة بين السياسة الإعلامية التي تم إعدادها في وقت سابق للحرب من جهة، والنتائج المترتبة عليها من جهة أخرى، في ضوء الأضرار التي لحقت بصورتها في الحلبة الدولية.
لأن أداءها العسكري في غزة حتى اليوم أسفر عن أزمات دبلوماسية عديدة لها، في ظل بقاء أسئلة عديدة معلّقة بدون إجابة وجيهة حول انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والاستخدام المفرط للقوة، وجرائم الحرب، والهجمات على مقار للمؤسسات الدولية.
كل هذه القضايا ما زالت على أجندة عدد من الجهات العالمية، ولذلك فقد اصطدم الأداء الميداني للدبلوماسية الإسرائيلية بالوضع الكارثي في قطاع غزة، لا سيما ما ظهر من ظروف ونتائج تسببت في إحراج الجهات السياسية.
مع العلم أنه مع تزايد جرائم الاحتلال في غزة، فلم يكن لديه رسالة مقنعة تعطي تفسيراً لما حصل من دمار كبير، حتى إنه افتقد تبريراً منطقياً لحجم القوة التي وصفها العالم بـ"المفرطة" المستخدمة خلال الحرب، وما اعتبر من تجاهله للمواثيق الدولية.
وبعد اثني عشر يوماً على الحرب، وعدم توافر تبريرات واضحة لما يحدث من جرائم بالفعل، فإن الجهود التي تبذلها العديد من الجهات الإسرائيلية ذات العلاقة: وزارة الخارجية، الجيش الإسرائيلي، مكتب رئيس الحكومة، تتركز في توفير إجابات مقنعة لجمهور عريض من الصحفيين والحقوقيين والقانونيين الذين طرحوا أسئلتهم حول هذه الجرائم.
في الوقت ذاته، أدركت الأوساط الإسرائيلية ذات الصلة، السياسية والدبلوماسية والعسكرية، أنه في اللحظة التي سيرى فيها العالم حجم الدمار في غزة، فسوف يتعاظم الضغط الدولي على الاحتلال، لوضع حدّ لأعماله العدائية.
الأمر الذي دفع إلى صدور مطالبات بإغلاق قطاع غزة أمام الصحفيين الأجانب، وعدم السماح لبعض القنوات التلفزيونية بالعمل بزعم التحريض ضد الاحتلال، مما يعني اقتصار الصور الصحفية التي ستخرج من غزة لتصوير آثار الحرب والدمار، على مكتب الناطق العسكري الإسرائيلي والقنوات الإسرائيلية المتجنّدة في هذا العدوان، والمحرّضة عليه.
الغطاء الدولي
ولقد أساء ظهور مشاهد المجازر الدامية وحجم الدمار في غزة بشكل كبير لصورة الاحتلال على الساحة الدولية، ووضعه أمام سيل من التساؤلات بدون إجابة حتى كتابة هذه السطور.
الأمر الذي استنفر آلته الدبلوماسية من السفارات والقنصليات وممثليه ومندوبيه في المنظمات الدولية لتبرير جرائمه، وتخفيف الضغط الدولي الذي قد يمارَس عليه خلال فترة الحرب التي قد تمتد فترة من الزمن، خاصة مع تصاعد أعداد الضحايا المدنيين، والنقص في الاحتياجات الطبية والإنسانية، وشكاوى منظمات حقوق الإنسان.
كل ذلك كان له التأثير الأكبر فيما تعرض له الاحتلال من احتجاجات وانتقادات، ولعل الأمر الأكثر وضوحاً أن تصريحاته تأخذ كلها سمتاً دفاعياً، لأنها وقعت تحت طائلة الاتهامات أمام الرأي العام العالمي، وبالفعل فقد بدا في صورة مهينة جداً في نظر قطاع عريض من المجتمع الدولي، رغم الدعم الغربي "الرسمي" الذي حصل عليه.
في المقابل، فقد تحدثت أصوات إسرائيلية عن ضرورة استغلال ما وصفته بالغطاء والتمويل الدولي للمضيّ قدماً في مخطط القضاء على حماس بغزة، رغم أنه سيستغرق وقتاً، وتحقيق الأهداف السياسية للعدوان.
لكن ذلك لم يمنع خبراء إسرائيليين من الدعوة إلى توقف الجيش عن ارتكاب مزيد من جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، رغم إدانتهم لما قامت به الحركة من هجوم طوفان الأقصى.
مع أن توجيه الاحتلال للفلسطينيين شمال قطاع غزة للتوجه جنوباً سلّط الأضواء على مخالفة العدوان لكل الجوانب القانونية، ويثير المخاوف بشأن انتهاك أمن الفلسطينيين، مما يستدعي صدور مزيد من ردود الفعل الدولية المنددة به.
ولذلك فقد وصفت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية ما يقوم به الاحتلال من هجمات مكثفة على الأحياء المكتظة بالسكان في غزة، وقتل الآلاف، ومنع إمدادات الغذاء والوقود والكهرباء عنهم، وعدم السماح بدخول المساعدات، بأنها ترقى لمستوى العقاب الجماعي الذي يشكل جريمة حرب، وهو محظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.
تراجع الدعم
ورغم كل هذه الانتقادات الحقوقية والقانونية للاحتلال بسبب جرائمه ضد الفلسطينيين، فإنه لا يزال يحظى بإسناد من المنظومة الغربية بالذات، لا سيما من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
حتى بعد مجزرة مشفى المعمداني، وتبني الغرب لرواية الاحتلال الزاعمة بأن صاروخاً لقوى المقاومة سقط على المشفى، وليس قصفاً إسرائيلياً، وهو ما أعلنه الرئيس بايدن شخصياً ووزير الخارجية البريطاني وساسة غربيون آخرون.
في الوقت ذاته، تزعم المحافل الإسرائيلية أن الإدانات الدولية لجرائم الحرب تأتي لذرّ الرماد في العيون، ومحاولة إبراء الذمّة أمام المنظمات الحقوقية والقانونية الدولية.
لكن هناك قناعة لدى الاحتلال بأن المنظومة الدولية، لا سيما الغربية منها، ستواصل تقديم الدعم لإسرائيل لإنجاز مهمتها في القضاء على القدرات العسكرية لـ"حماس"، باعتبار ذلك هدفاً متوافقاً عليه بينهما، وهو ما ظهر من مواقف على ألسنة معظم القادة الغربيين.
لكن اللافت فعلاً ما ذكرته محافل سياسية إسرائيلية، والحديث على ذمّتها، أن الدول العربية "المعتدلة"، تنظر بذهول إلى القدرات العسكرية التي أظهرتها حماس، مما قد يجعلها ترغب في رؤية ضربة قوية لها؛ أملاً بأن تنهي سيطرتها على القطاع، بزعم أن ذلك سيكون بمثابة ضربة لجماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبرونها تهديداً.
لكن هذه الدول تعيش حالة من الإرباك بين رغبتها في إلحاق الأذى بـ"حماس"، وحاجتهم لإظهار التضامن مع الفلسطينيين أمام رأيهم العام الداخلي، مما يجعلهم يسعون لإيجاد حلّ لهذه المعضلة عبر الدعم العلني لأهالي غزة، وفي الوقت نفسه التعاون بهدوء مع إسرائيل.
المعطيات القائمة اليوم على حدود غزة قد تمنح وجاهة ومصداقية، فحجم المساعدات الإنسانية الكبيرة التي وصلت إلى الجانب المصري من معبر رفح من العديد من الدول العربية، ما زالت هذه الدول مجتمعةً عاجزة عن إدخالها إلى القطاع المنكوب؛ خشية تعرض الشاحنات التي تحمل هذه المساعدات للقصف الإسرائيلي.
في الوقت ذاته، فإنّ سحب كولومبيا سفيرها لدى الاحتلال احتجاجاً على ما يحصل في غزة خطوة كان الأجدر أن تقوم بها الدول العربية التي تستضيف سفراء إسرائيليين على أراضيها، وكذلك يوجد العديد من سفرائها في تل أبيب، لكن عدم استدعاء أحد منهم إلى بلاده للتشاور والاحتجاج دليل جديد على عدم الجدية اللازمة في الضغط على الاحتلال الذي أثخن الجراح في الفلسطينيين، وأوغل في دمائهم بصورة غير متوقعة.
أكثر من ذلك، فإن الضغوط الدولية الممارَسة على الاحتلال لم تفلح حتى الآن في إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، أو السماح بممرات إنسانية للمدنيين، رغم طلبها منه إجلاء عشرات الأجانب من رعايا الدول الغربية وحمَلة الجوازات الأجنبية ممن يريدون الخروج من غزة، ومع ذلك فقد أدارت إسرائيل ظهرها لهذه المناشدات، وأبقت معبر رفح مغلقاً حتى اليوم، الأمر الذي يوشك أن يتسبب في أزمة إنسانية غير مسبوقة، عرفت طريقها الى كل المجالات والقطاعات، مما دفع الأوساط الطبية إلى التحذير من حدوث أوبئة وأمراض معدية بين الفلسطينيين.