يعيش نهر النيل في مصر أزمة بيئية تُهدد باختفاء أنواع كثيرة من الأسماك، نتيجة التغيرات التي طرأت على مياهه العذبة ونقص منسوبها، بالإضافة إلى جفاف عدة مناطق محيطة بالنهر.
وتتعدد أسباب تراجع الثروة السمكية في نهر النيل، لكن يبقى السبب الأبرز هو استمرار ملء إثيوبيا لسد النهضة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ملوحة النهر، وتراجع حصة مصر السنوية من المياه.
ملء سد النهضة أحد الأسباب
كما أن إعلان إثيوبيا قبل أيام الانتهاء من الملء الرابع لسد النهضة، يعمّق أزمة الصيد المصري في النيل، خاصة مع ما يمكن اعتباره انتهاء فيضان النيل للأبد، وما يترتب عليه من جفاف مناطق كبيرة بالسودان.
وسيُساهم ملء سد النهضة من الجانب الإثيوبي خسارة مصر 12 مليار متر مكعب من المياه، وذلك بعد تشغيل التوربينات، حسب دراسة أعدها المعهد القومي للتخطيط، التابع لوزارة التخطيط المصرية.
وكشفت الدراسة عن اختفاء حوالي 12 نوعاً من الأسماك المستوطنة في نهر النيل والبحيرات والمزارع السمكية، وبالطبع أهمها السمك البلطي المعروف بـ"سمك الغلابة"، وذلك بسبب انخفاض منسوب نهر النيل.
وأشارت الدراسة إلى أن الطاقة الإنتاجية لأسماك المياه العذبة مهددة، خاصة في بحيرة ناصر، ونهر النيل وفروعه، وغيرها من المسطحات والمجاري المائية والمزارع السمكية، نتيجة تداعيات بناء سد النهضة.
الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، أكد في تصريح لـ"عربي بوست"، أن إعلان إثيوبيا ملء سد النهضة سيتسبب في كارثة لمصر خلال الفترة المقبلة.
وأضاف المتحدث في تصريحه أن انخفاض منسوب المياه في نهر النيل بدأ يظهر فعلياً، كما أن المناطق المحيطة به ظهرت عليها آثار الجفاف مقارنة بالسنوات السابقة، وهذه هي المرة الأولى، وملء سد النهضة أنهى فيضان النيل للأبد، والمياه ستقف في إثيوبيا.
وكشف المتحدث أن حجم التخزين كارثي؛ لأنه في عام واحد تم تخزين 24 مليار متر مكعب فقط، وهو ما يعادل نحو 45% من حصة مصر، وبذلك تكون مصر فقدت مبدئياً 24 مليار متر مكعب من إيرادها السنوي، على أن يعود إليها بعد تشغيل توربينات السد.
تغيير الخارطة السمكية
هذا الانخفاض في منسوب مياه النيل، يساهم بشكل كبير في تغيير الخريطة السمكية في مصر، إما بسبب استحالة عيشها في المياه المرتفعة ملوحتها، أو بفعل انخفاض الإنتاجية نتيجة نقص المياه.
وبحسب توقعات الخبراء فإن مياه نهر النيل ستزداد ملوحتها نتيجة ملء السد الإثيوبي، في حين أن الخطر يهدد إنتاج أسماك البلطي الأكثر شعبية في مصر، والتي تسهم بأكثر من 60% من إجمالي الإنتاج السمكي في مصر.
وأشارت دراسة المجلس القومي للتخطيط إلى أن الموارد المائية العذبة في مصر لا تتجاوز 60 مليار متر مكعب سنوياً، منها 55.5 مليار متر مكعب حصتها من النيل، و4.5 مليار متر مكعب حصتها من المياه الجوفية والأمطار.
وعن تأثير نقص مياه النيل بعد الملء الرابع على الطاقة الإنتاجية لأسماك المياه العذبة، يقول عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة إن المشكلات تتخطى نقص الإنتاج فقط، بل سيكون هناك ارتفاع في الأسعار، وهو ما حدث بالفعل.
وحسب المتحدث ستبدأ الحكومة المصرية الاعتماد على الخارج، وانكشاف الأمن الغذائي من الأسماك، والتأثير السلبي في الأنشطة المساعدة، مثل مصانع الأعلاف والثلج والعبوات والنقل والخدمات التسويقية وغيرها.
ويعمل بقطاع الصيد من نهر النيل وفروعه نحو 30 ألف عامل، يعملون على نحو 9482 وحدة صيد، بقيمة تقدر بحوالي 285 مليون جنيه (حوالي 18 مليون دولار أمريكي)، متضمنة معدات الصيد، بحسب دراسة المعهد القومي للتخطيط.
وأشارت الدراسة إلى أن مصايد الأسماك من بحيرة ناصر تعد الأكثر تضرراً من تداعيات سد النهضة، حيث قُدر إنتاجها في 2019 بحوالي 25 ألف طن، كما قدر إجمالي أنشطة الصيد والخدمات المعاونة بحوالي 722 مليون جنيه (حوالي 45 مليون دولار أمريكي).
حلول للأزمة
ولتقليل أضرار عملية ملء سد النهضة، اقترح المعهد القومي للتخطيط أن تتبنى مصر اتباع آليات غير تقليدية، من بينها إدخال أصناف جديدة من الأسماك تتحمل التغيرات المتوقعة في كميات ونوعية المياه.
أيضاً طالب المعهد، في الدراسة نفسها، بإقامة مشروعات مشتركة بين القطاع الحكومي والخاص والتعاوني، في مجال المصايد الطبيعية والاستزراع السمكي مع الدول الأفريقية، التي تتوفر فيها الموارد المائية.
وأشارت الدراسة إلى استخدام تطبيقات لتحقيق إنتاج سمكي إضافي من المياه المستخدمة، مثل استغلال الأراضي تحت الاستصلاح في تربية الأسماك "مشروع 1.5 مليون فدان"، علاوة على التربية المتكاملة للأسماك والمحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني على المياه الجوفية وتربية الأسماك في النظم المغلقة.
محمد عثمان الرئيس السابق للهيئة المصرية لتنمية الثروة السمكية، اتفق مع تأثير سد النهضة على الإنتاج السمكي من نهر النيل، لكن أشار إلى وجود بدائل يمكن اللجوء إليها.
وأوضح أن سد النهضة سيؤثر في المخزون المائي في السد العالي وبحيرة ناصر، وهو ما ينعكس على المخزون السمكي في البحيرة التي تساهم بنحو 1.5 % من إنتاج الثروة السمكية لكن هناك البدائل المتاحة.
وأشار الى أن هيئة الثروة السمكية وضعت خطة لتقليل الاعتماد على نهر النيل بشكل مباشر والاستعاضة بمعالجة مياه الصرف الصحي بالطرق العلمية والاستفادة من مياه الأمطار والمياه الجوفية إلى جانب التوسع في تدشين المزارع السمكية في قناة السويس وبركة غليون وشرق محافظة بورسعيد.
مزارع سمكية
ودشنت مصر في الفترة الأخيرة المزارع السمكية البحرية على مساحة 32 ألف فدان في محافظتي بورسعيد وكفر الشيخ، اعتمدت خلالهما على استزراع أسماك المياه العذبة على رأسها أسماك البلطي.
وفي شرق بورسعيد تم تدشين مزرعة سمكية على مساحة 19 ألف فدان لتضم نحو 4000 حوض استزراع بحري ومفرخ لإنتاج 160 مليون زريعة سمكية و500 مليون يرقة جمبري سنويا علاوة على حضانة لتجهيز 160 مليون إصبعية و300 مليون يرقة جمبري سنويا.
أيضاً تم تدشين مصنع أعلاف الأسماك لإنتاج 150 ألف طن علف سنوياً، إضافة إلى مصنع فرز وتصنيع وتعبئة وتغليف بتكلفة إجمالية 650 مليون جنيه (حوالي41 مليون دولار أميركي).
وفي عام 2017 دشنت مصر مدينة سمكية متكاملة بتكلفة قدرها 1.7 مليار جنيه وعلى مساحة 13 ألف فدان في منطقة "بركة غليون" محافظة كفر الشيخ شمال البلاد المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
وتمتد هذه المزرعة على مساحة 4 آلاف فدان، وتحتوي على 1359 حوضاً للأسماك والجمبري، ومنطقة المفرخات وإنتاج الزريعة ومنطقة بحثية، ومنطقة صناعية على مساحة 55 فدانا تضم مصنعا للتجهيز والتعبئة والتغليف بطاقة إنتاجية 100 طن فى اليوم.
ويوجد فيها أيضاً مصنع لإنتاج الأعلاف بطاقة إنتاجية 180 ألف طن سنويا، ومصنع لإنتاج الثلج بطاقة إنتاجية 60 طنا في اليوم، ومصنع عبوات الفوم بطاقة إنتاجية 1200 عبوة في اليوم.
ولكن رغم هذه الخطوات التي تعتبر جادة لتعويض قلة إنتاج الأسماك فى مصر من المياه العزبة، وإنشاء مزارع سمكية على مساحات كبيرة، إلا أن المواطن لم يشعر بتحسن، بل بالعكس قفزت الأسعار إلى ما يصل إلى 10 أضعاف في بعض الأحيان.