ارتفعت أسعار الخضراوات في مصر لدرجة أصبح معها المصريون غير قادرين على تنويع الأطباق على مائدة واحدة، فأصبح أغلبهم يكتفي بالطبق الرئيسي، أما طبق السلطة الذي كان من الضروريات فقد أصبح رفاهية.
أزمة ارتفاع أسعار الخضراوات في مصر بدأت تتضح معالمها على المجتمع المصري، ولعل أبرز حادثة حصلت في الأسبوع الأخير، عندما هجم مواطنون على شاحنة تحمل البطاطس فسرقوا حمولتها نهاراً في منطقة سوق العبور، في محافظة القليوبية شمالي القاهرة.
وتتشابك مجموعة من العوامل في أزمة ارتفاع أسعار الخضراوات في مصر، منها رفع معدلات التصدير، وهي سياسة تنتهجها الحكومة بحثاً عن الدولار، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم، والاحتكار وجشع التجار.
في هذا التقرير يبسط "عربي بوست" أسباب ارتفاع أسعار الخضراوات في مصر، والحلول الممكنة لاحتواء الأزمة، وكيف يتعامل المواطن المصري مع هذه التغيرات؟
أسر تُغيّر سياستها الشرائية
"عربي بوست" التقى إبراهيم محمود، وهو موظف حكومي ورب أسرة مكونة من خمسة أفراد، والذي قال إن طبق السلطة أصبح من الرفاهيات، إذ يُحاول الحفاظ على أقل أصناف الخضراوات التي يشتريها كل جمعة، والتي يحتاجها في الطبق الرئيسي للوجبة.
وقال المتحدث إنه كان يشتري الخضراوات أسبوعياً من أحد الأسواق القريبة من منزله، ليُوفر بضعة جنيهات، مع وجود فارق في الأسعار بين تجار السوق وبين محال بيع الفاكهة والخضراوات.
وبالنسبة للكمية، يقول المتحدث إنها تكفي أسبوعاً أو أكثر وهي: ثلاثة كيلوغرامات من الطماطم، ومثلها من البطاطس والفلفل، إلى جانب كميات أقل من البصل والليمون والخيار والجزر والباذنجان، وفي كل الأحوال لم يكن يتخطى حاجز 200 جنيه.
لكن مع ارتفاع الدولار وجد محدثنا نفسه مضطراً لشراء نصف هذه الكمية وبضعف الثمن، وبالتالي كان عليه أن يُغير من سياسته الشرائية، واكتفى بكيلوغرام واحد من كل صنف، والذهاب مرة أخرى إلى السوق كلما اقتضى الأمر ذلك.
وأشار المتحدث إلى أنه كان يعتمد بالأساس على الخضراوات لتكون بديلاً لتراجع قدرته على شراء البروتينات مثل الدواجن واللحوم وبيض المائدة، والآن المشكلة أضحت في الخضراوات أيضاً، مع ارتفاع أسعار النشويات مثل الأرز والمكرونة بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة.
وعادة ما يدخل البصل والطماطم والبطاطس في أغلب وجبات المصريين، وتعد من أرخص الخضراوات في البلاد، خاصةً أن مصر لديها اكتفاء ذاتي من زراعة تلك المحاصيل، وحافظت طوال السنوات الماضية على استقرار في أسعارها وتوفيرها للمواطنين.
وقفزت أسعار الخضراوات في مصر كالبصل والطماطم والبطاطس والخيار خلال هذا الشهر بنسب تتراوح ما بين 10 و50%، إذ ارتفع سعر كيلو البصل 6 أضعاف، ووصل إلى 35 جنيهاً، بينما وصل سعر كيلو الطماطم إلى 25 جنيهاً، في حين لم يتراجع سعر كيلو البطاطس عن 15 جنيهاً للكيلو منذ ثلاثة أشهر.
ولم يتخطَّ سعر كيلو البصل العام الماضي حاجز الخمسة جنيهات للكيلو الواحد، في حين وصل سعر كيلو الطماطم ما بين 3 إلى 5 جنيهات، وتراوحت أسعار البطاطس ما بين 6 إلى 8 جنيهات للكيلو، وحينما كان سعرها يرتفع كان يصل إلى 12 جنيهاً.
ارتفاع أسعار الخضراوات في مصر.. المقاطعة هي الحل
ارتفاع أسعار الخضراوات في مصر دفع العديد من الأسر إلى رفع شعار المقاطعة، منهم المواطنة سميرة، التي تحدثت لـ"عربي بوست" عن الأزمة التي تعيشها أسرتها بسبب التضخم، الذي أثر على القدرة الشرائية للمواطنين.
سميرة رَفعتْ بدورها شعار "المقاطعة لحين انخفاض أسعارها" لعدد من الخضراوات، وعلى رأسها البصل، وترى أنها ليست بحاجة لشرائه مادام السعر يرتفع بطريقة غير منطقية وفي فترة وجيزة.
وتؤمن المواطنة سميرة بأن جشع التجار هو الذي يتسبب في تلك الزيادة، وتعتبر أن شعور التجار بتراجع عمليات الشراء يدفعهم نحو تخفيض الأسعار، خاصة في السلع التي نحقق فيها اكتفاءً ذاتياً من الإنتاج.
وتشير إلى أن ارتفاع أسعار الطماطم في هذا التوقيت يبدو منطقياً قبل بدء حصاد ما يُسمى "بالعروة" الجديدة، ودائماً ما يشهد ارتفاعاً في أوقات معينة في كل عام، لذلك تلجأ لتخزين كميات كبيرة وعصرها وتحويلها إلى "صلصة" قابلة للاستخدام في إعداد وجبات الطعام الرئيسية.
وقالت إن هذا الأمر تُطبقه أيضاً مع أنواع أخرى من الخضراوات والفاكهة التي يمكن تخزينها، وتقوم بشرائها في أوقات تشهد انخفاضاً في الأسعار، مثل الليمون، والثوم، والمانجو، والبامية، والبسلة، والبطاطس المستخدمة في الطهي.
تلفت ربة المنزل أنها اعتادت هي وأطفالها منذ سنوات أن تجعل الخضراوات مكوناً رئيسياً للوجبات اليومية، وحرصت على أن تكون لديهم عادات غذائية صحية، والآن لا تجد المبررات الكافية لشرح لماذا تخلت عن عادتها، وتحاول جاهدة أن يبقى الحد الأدنى من الخضراوات حاضراً على المائدة.
التوسع في التصدير
أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، أن أسعار الطعام والمشروبات ارتفعت على أساس سنوي بنسبة 71.9%، واللحوم والدواجن 97%، والخضراوات 98.4%، والأسماك والمأكولات البحرية 86%، كما ارتفعت أسعار الدخان 57%.
وطبقاً للبنك المركزي، فإن التضخم الأساسي في مصر، الذي يستثني سلعاً أسعارها متقلبة مثل الغذاء والوقود، تراجع قليلاً إلى 40.4% من 40.7% في يوليو/تموز و41% في يونيو/حزيران.
وكشف أستاذ بكلية الزراعة، جامعة القاهرة، أن الدولار هو سبب ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية، مع تراجع قيمة الجنيه وارتفاع أسعار الأسمدة، والتقاوي، والمعدات الزراعية، وتضاعف أسعار النقل والتخزين، الأمر الذي تسبب في زيادة أسعار الخضراوات التي تُحقق فيها البلاد اكتفاءً ذاتياً.
وأضاف المتحدث لـ"عربي بوست" أنه من بين الأسباب أيضاً سوء الإدارة والمشاكل التموينية، مع الاتجاه نحو التوسع في تصدير الفاكهة والخضراوات، دون النظر إلى طبيعة الاستهلاك المحلي، رغم أن الحكومة تُصدر قرارات بوقف تصدير محاصيل أو فواكة بعينها لحين استقرار الأسعار.
وأوضح أن أزمات سوء الإدارة تظهر بوضوح من خلال ارتفاع أسعار الأرز، التي تضاعفت العام الماضي، بعد أن اتخذت وزارة التموين والتجارة الداخلية قراراً بتحديد سعر إجباري دون النظر إلى طبيعة السوق والعرض والطلب.
هذا القرار، حسب المتحدث، دفع المزارعين والتجار إلى حجز كميات كبيرة من الأرز، لأنهم كانوا على علم بارتفاع الأسعار، وبعد أن كان سعره في السوق لا يتجاوز 20 جنيهاً وصل إلى 30 جنيهاً وأكثر، رغم أن الأرز من المحاصيل التي تحقق فيها البلاد اكتفاءً ذاتياً.
يوضح المصدر لـ"عربي بوست" أنه مع سوء الإدارة ستصبح المحاصيل الزراعية التي كانت تُحقق اكتفاءً ذاتياً بحاجة للاستيراد أيضاً، لأن الحكومة ليس لديها سياسة واضحة بشأن ما يمكن استيراده من الخارج وما يمكن توفيره محلياً، والتوسع في عملية التصدير؛ بحثاً عن الدولار، سيؤثر سلباً على مستوى توفير احتياجات المواطن المصري.
وقررت الحكومة المصرية الأسبوع الماضي وقف تصدير البصل لمدة 3 أشهر، اعتباراً من 1 أكتوبر/تشرين الأول إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 2023، وقالت إن ذلك يأتي في إطار "ضبط الأسعار في الأسواق".
وكان القرار قد صدر في وقت سابق بوقف التصدير بشكل فوري، لكن سرعان ما تراجعت عن تطبيقه، وأشارت إلى أنها تواصلت مع وزارة التجارة والصناعة، والتي أكدت أنه جرى إرجاء تنفيذ القرار لعدة أيام، حتى يتسنى الانتهاء من تسليم شحنات البصل المتفق عليها مسبقاً.
وصدّرت مصر العام الماضي 280 ألف طن من البصل إلى الخارج، فيما كشفت البيانات الحديثة للمجلس التصديرى للحاصلات الزراعية، عن زيادة صادرات البصل الطازج لتسجل 525 ألف طن.
وبلغت قيمة صادرات الموسم التصديري الماضي نحو 178 مليون دولار، خلال أول 9 أشهر من الموسم التصديرى من سبتمبر/أيلول 2022، وحتى مايو/أيار 2023، ويحتل البصل المرتبة الثالثة في صادرات مصر الزراعية.
وشهد إجمالي الصادرات المصرية من المنتجات الزراعية منذ بداية يناير/كانون الثاني حتى يوليو/تموز 2023، زيادة قدرها 717 ألف و896 طناً عن الفترة ذاتها في السنة الماضية، التي سجلت 3 ملايين و936 ألف طن، ذلك وفقاً لما أعلنه وزير الزراعة المصري.
سياسة الحكومة بحاجة إلى تعديل
أعلنت وزارة الزراعة أن مصر صدرت نحو 5.1 مليون طن من الخضراوات والسلع الطازجة، بقيمة 2.6 مليار دولار، خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2021، وارتفعت صادرات الحاصلات الزراعية بنهاية عام 2022 إلى 6.5 مليون طن.
وكشف مصدر بوزارة الزراعة لـ"عربي بوست" أن ما يتم تداوله داخل أروقة الجهات الحكومية بأن سياسة التصدير أدت لتجويع المواطنين، وهناك تقارير أمنية تم رفعها للجهات المسؤولة برصد زيادة الغضب الشعبي، وأن الوضع معرض للانفجار قبيل الانتخابات.
وأضاف المصدر نفسه أن هذه التقارير طالبت بضرورة تعديل عاجل وجذري في تعامل الحكومة مع تصدير المحاصيل الزراعية والخضراوات، بحيث تكون الأولوية القصوى لسد الاحتياج الداخلي.
يوضح المصدر أن هناك ارتياحاً بسبب قرار وقف تصدير البصل، لكنه للأسف قرار جاء متأخراً للغاية، ويواجه صعوبات في تنفيذه، لأن هناك تعاقدات مستقبلية قد تضاعف الضغط على الدولار في حال صدور أحكام بتعويضات ضد الجهات المصرية.
وقال مصدر "عربي بوست"، إن ما حدث مع البصل تكرَّر من قبل مع الدواجن وبيض المائدة وغيرها من السلع والمنتجات الاستراتيجية، وأن الدولار يبقى مسيطراً على جميع ما يعانيه القطاع الزراعي.
وأشار المتحدث إلى أن قدرة الدولة المصرية على توفير المياه اللازمة في الزراعة حتى الآن، بالرغم من أزمة سد النهضة، تخفف من الأزمة بالرغم من فداحتها على مستوى قطاع كبير من الأسر المصرية، كما أن مخزون السد العالي يستطيع أن يعوض نقص المياه.
يذكر أن الجنيه المصري تعرض لسلسلة انخفاضات متتالية أمام العملات الأجنبية، وتراجعت قيمته بأكثر من 50% رسمياً و75% بأسعار السوق السوداء رغم محاولات البنك المركزي دعم العملة المحلية.
وكان متوسط سعر صرف الجنيه المصري، في مارس/آذار 2022، نحو 15.7 جنيه أمام الدولار الواحد، ليستقر حالياً عند 30.9 جنيه (السعر الرسمي) بعد خفضه 3 مرات، فيما يصل سعر السوق السوداء إلى ما يقرب من 40 جنيهاً.
أسباب أخرى للأزمة
مصدر مطلع بشعبة الخضراوات والفاكهة باتحاد الغرف التجارية قال لـ"عربي بوست" إن عدم وجود آلية واضحة تضمن الالتزام بالمساحات المزروعة من الخضراوات والفاكهة يعد أبرز أسباب الأزمة.
وقال المتحدث: "لا يبدو أنه ستكون هناك انفراجة قريبة، لأن المزارعين في مصر هذا العام خفضوا مساحات زراعة البصل، بسبب انخفاض سعر الطن منه، والذي لم يكن يتجاوز 2000 جنيه، وكان ذلك بمثابة خسارة لهم، ولم تتدخل الحكومة لتعويض خسائرهم".
وأضاف أن المشكلة الأخرى تتعلق بالتغيرات المناخية التي تسببت هذا العام في تلف كثير من المحاصيل، خاصة الطماطم، والتي تأثّرت سلباً بالموجة الحارة التي تعرضت لها البلاد خلال الفترة الماضية، كما أن الخضراوات التي ليست قابلة للتخزين تعد الأكثر تأثراً.
وأشار إلى أن المزارعين أضحوا أكثر قدرة على التواصل مع مصانع التجفيف التي تقوم بالتصدير إلى الخارج، في ظل تزايُد الإقبال من جانب دول أوروبية اعتمدت هذا العام على الاستيراد من مصر مع انخفاض المساحات المزروعة بها لقلة أسعارها، مع تأثرها أيضاً بالتغيرات المناخية، وتعرضها لأزمات اقتصادية، جراء تأثيرات الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وطالب المتحدث ذاته بأن تُحجم الحكومة من الزراعة العشوائية، ودعم المستلزمات الزراعية بقدر الإمكان، وتدخلها في توفير تقاوي محلية بأسعار منخفضة، بدلاً من الاعتماد على الاستيراد من الخارج.
أيضاً طالب بزيادة حصة الأسمدة المدعمة للمزارعين، والأهم من ذلك أن تكون جميع الجهات المرتبطة بحجم الاستهلاك المحلي من الخضراوات والفاكهة حاضرة قبل توقيع أي اتفاقيات تصديرية، والرقابة على الشركات والمصانع التي تقوم بعملية التصدير بأسعار منخفضة بحثاً عن الدولار، في وقت تتعرض فيه البلاد داخلياً لأزمات قوية.
وكان المستشار الإعلامي لوزارة الزراعة، أحمد إبراهيم، أكد أن الحكومة المصرية بصدد اتخاذ قرارات أخرى مماثلة مرتبطة بالسلع المهمة الاستراتيجية بوقف تصديرها في حالة وجود ممارسات احتكارية أو محاولات من بعض التجار بتخزينها والتلاعب بالأسعار.