تستمر المأساة التي تسببت بها السيول في ليبيا وأسفرت عن سقوط آلاف الضحايا ومثلهم الآلاف من المفقودين، وسط مئات القصص المروعة التي رواها ناجون من كارثة لم تشهدها البلاد منذ عقود، وهم يهربون من شبح الموت الذي تحول إلى فيضانات من المياه تلاحقهم.
من ضمن تلك القصص، ما ترويه الشابة الليبية ربى (24 عاماً)، والتي اضطرت مع شقيقتها الحبلى وعدد من أقاربهما للتسلق والقفز من سطح لآخر في درنة الليبية بعد انهيار سدين واجتياح مياه العاصفة لشوارع المدينة التي كان لها النصيب الأكبر من الخسائر البشرية.
تقول ربي، بحسب ما تروي لصحيفة New York Times الأمريكية، الأربعاء 13 سبتمبر/أيلول 2023، إنها اضطرت وشقيقتها وعدداً من أقاربهما الأكبر سناً تسلّق سُلم أحد الجيران وصولاً إلى سطح منزله، في محاولة للفرار من قبضة الفيضانات التي كانت تجرف معها الجثث والبنايات.
ومن هناك، قفزوا من سطحٍ لآخر بطول شارعهم الضيق، بعد يومين من محنتها المروعة. وفي النهاية، قرروا الاحتماء بوحدة تخزين صغيرة على سطح واحدة من البنايات، وظلوا هناك لساعات وهم يشاهدون المياه تغمر المدينة.
وقالت ربى إنهم كانوا يسمعون أصوات الجيران العالقين في البيوت نصف المدمرة -سواء بسبب ارتفاع الماء أو تحت الأنقاض- وهم يصرخون طلباً للمساعدة، بحسب ما ورد في مكالمتها الهاتفية من منزل صديقة لها في مدينة المرج المجاورة.
وبمجرد أن هدأت مياه الفيضانات نسبياً، ساعدها عدد من الناجين الآخرين في النزول من السطح إلى بر الأمان مع أفراد عائلتها التسعة، لتخوض المجموعة في المياه التي يصل ارتفاعها إلى الركبة تاركين كل شيء خلفهم.
وأوضحت ربى: "خرجنا حفاة الأقدام وشاهدنا الأصدقاء والأقارب وهم يموتون من حولنا. لم يكن في وسعنا فعل شيء".
آلاف النازحين
والأحد، 10 سبتمبر/أيلول، اجتاح إعصار "دانيال" عدة مناطق شرقي ليبيا، أبرزها مدن درنة وبنغازي والبيضاء والمرج وسوسة، مخلفاً أكثر من 6 آلاف قتيل وآلاف المفقودين، وفق ما أعلنه وكيل وزارة الصحة في حكومة الوحدة الوطنية سعد الدين عبد الوكيل، الأربعاء 13 من الشهر ذاته.
وبعيداً عن الوفيات والمفقودين، تقول جماعات الإغاثة إن أكثر من 34 ألف شخص اضطروا للنزوح.
في السياق، قال كمال أبو بكر، الذي يدير الوكالة الحكومية المسؤولة عن تتبع المفقودين وتحديد هويتهم، لصحيفة "التايمز" البريطانية: "لن تتضح الأرقام النهائية في غضون يوم أو يومين أو حتى ثلاثة أيام. ربما يستغرق الأمر عدة أسابيع، أو شهور، أو حتى سنوات لأن الدمار هائل. لقد فرّقت المياه الجثث على مسافة عشرات الكيلومترات".
بينما قال إسلام عزوز، عامل الإغاثة من درنة، إنه فقد العشرات من أقاربه؛ إذ كان خارج المدينة عندما ضربتها الفيضانات، وقال إنه لم يتعرف على درنة التي نشأ فيها إثر عودته بعد أن ابتلعتها المياه والطين. أما الناجون، فقد كانوا ينتظرون سماع أي خبر عن ذويهم المفقودين، مضيفاً: "وقف الناس ينتظرون بجوار البحر. لقد جرفت المياه 40 جثةً اليوم".
وأوضح فارس التايه، الذي يقود شبكة عمال إغاثة متطوعين، إنه نجح في الوصول إلى درنة بعد ظهر الإثنين 11 سبتمبر/أيلول برغم الطرق المتهدمة الصعبة التي كانت مليئةً بالفارين من الفيضان.
أضاف: "لم نتصور ما رأيناه مطلقاً: جثث في المحيط، وعائلات توفيت بالكامل، وآباء وأبناء وإخوة مكدسون فوق بعضهم البعض. لقد جرفت المياه بنايات كاملة بينما لا يزال سكانها في الداخل".
وتابع التايه، الذي ينظم قافلة مساعدات إلى درنة الآن، قائلاً إن الفيضانات قسمت المدينة بأكملها إلى نصفين. وأردف: "يجب أن تسافر حول المدينة لمسافةٍ تتجاوز الـ100 كيلومتر من أجل الانتقال إلى الجانب الآخر منها".
بنية تحتية متداعية
وقد أثار انهيار السدود القلق حيال وضع البنية التحتية الليبية المتداعية، حيث صرّح عمدة بلدة توكرة لقناة المسار الليبية، الثلاثاء 12 سبتمبر/أيلول، بأن سد وادي جازة في شرق ليبيا امتلأ بالماء وصار على حافة الانهيار، محذراً من أن السد الواقع بين مدينتي درنة وبنغازي يحتاج للصيانة من أجل منع وقوع كارثةٍ أخرى.
وبعد عدة ساعات، أثار مسؤول عسكري في ما يعرف بـ"الجيش الوطني الليبي" المخاوف حيال سلامة سد آخر هو سد وادي القطارة المجاور لبنغازي. وحاولت الحكومة طمأنة السكان في بيانٍ لها وأخبرتهم أن كلا السدين بخير وتحت السيطرة. لكن الحكومة ذكرت كذلك إنها ستُركِّب مضخات ماء لتخفيف الضغط على سد وادي جازة.
بدوره، قال بشير بن عامر، عامل الإغاثة من لجنة الإنقاذ الدولية في ليبيا، إن كلا المدخلين الغربي والشرقي إلى درنة ليسا صالحين للعبور. ولهذا أصبح المدخل الوحيد للمدينة يأتي عبر طريق غير ممهد في الجنوب، مما يبطئ وصول المساعدات وفرق الإنقاذ.
لكن استمرار انسياب المياه في الطرقات زادت المخاوف من عدم صمود الطريق الوحيد العامل هناك تحت وطأة ضغط القوافل المتدفقة على المدينة وفقاً لابن عامر.
وأردف بالقول إن العديد من سكان المدينة الذين شردهم الفيضان (والذين يتجاوز عددهم الـ30 ألف شخص) لم يحاولوا المغادرة. ثم تابع: "ظل غالبية الناس داخل المدينة إما من أجل البحث عن أحبابهم أو من أجل دفنهم".
بينما قال بشير عمر، المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا: "لقد تعرضت البنية التحتية للتدمير، ما يجعل مهمة وصول عاملي الطوارئ الطبية إلى تلك المناطق مهمةً بالغة الصعوبة"، وأردف أن السلطات المحلية اضطرت لتعطيل شبكة الكهرباء خوفاً من تعرُّض الناس للصعق في الفيضانات.
وتعمل منظمة عمر على إرسال الإمدادات وتقديم الدعم الفني للهلال الأحمر الليبي.
وأوضح عمر: "أصبحت هذه المناطق معزولةً تماماً. ليست هناك هواتف، أو ماء، أو كهرباء. أي إن الوضع مأساوي للغاية في تلك المناطق. ويفوق الأمر قدرات السلطات في ليبيا، ولهذا تحتاج البلاد إلى دعم المجتمع الدولي".