لم يكن محمد إسماعيل، سائق إحدى شاحنات البضائع على الطريق البري بين مصر والسودان، يتوقع أنه سيضطر للعودة إلى منزله بعد قرابة شهر ونصف من بدء رحلته لتوصيل شحنات من الأغذية جاء بها من مدينة قنا بجنوب مصر، ووصل بها إلى مدينة أبو سمبل بالقرب من معبر قسطل، بعدما تعرّض لانخفاض حاد في الدورة الدموية، كان سيفقد على أثره حياته نتيجة طول فترة الانتظار وتراجع الخدمات العامة في مناطق اصطفاف الشاحنات.
روى إسماعيل أصعب أيام حياته لـ"عربي بوست"، كما يصفها، قائلاً إنه ظل لأيام طويلة دون أن يتمكن من النوم بشكل طبيعي، وفي أحيان كثيرة لم يجد قوت يومه ليضطر تارة لتقاسم لقمة العيش مع أحد السائقين الذين لديهم فائض من الطعام، وفي الأغلب لا يكون صالحاً للاستخدام، لكنه يسد جوعهم انتظاراً لوصول شاحنات تحتوي على أطعمة كانت تأتي من مدينة أسوان للمناطق اللوجستية قرب الحدود كل 3 أو 4 أيام.
خلال الأسبوعين الأخيرين من رحلة إسماعيل التي لم تكتمل، نفذت أمواله تماماً، رغم أنه احتاط حذراً من أي ظروف أو أوضاع غير طبيعية قد يتعرّض لها، لكن ارتفاع أسعار الغذاء وألواح الثلج التي كان يضطر لشرائها بأسعار مضاعفة مع قلتها وزيادة الإقبال عليها، وكذلك طول فترة انتظاره جعلته مضطراً لأن يتقاسم احتياجاته اليومية مع زملائه من السائقين، غير أن المعضلة كانت في نفاد المستلزمات الطبية والعقاقير التي كانت تُستخدم لتخفيف الآلام الناتجة عن حرارة الشمس.
إمكانيات شحيحة
أرجع السائق المصري أسباب تأخر الوصول إلى المعابر السودانية لبطء الإجراءات، مشيراً إلى أن هناك أعداداً قليلة من الموظفين العاملين بالمعابر الحدودية، وقد يكون هناك جهاز أو جهازي كمبيوتر فقط، بحسب ما يؤكده عدد من السائقين الذين وصلوا إلى هناك.
وكذلك، فإن السقوط المتكرر لشبكات الإنترنت في السودان وضعفها على الجانب المصري من الحدود يجعل الإجراءات تأخذ وقتاً طويلاً، أو قد لا تنتهي إجراءات دخول شاحنة من الأساس على مدار يوم كامل، وفي كلتا الحالتين، يكون المبرر سقوط شبكة الانترنت في السودان التي تعاني بشدة جراء الحرب الدائرة حالياً، بحسب المتحدث ذاته.
وكشف عن حالة من "الانفصام التام بين الأجهزة الأمنية والإدارية الموجودة على المعابر وبين السلطات المحلية في مدينة أسوان، إذ لا يوجد هناك اتصال مباشر يمكن أن يساهم في إرسال إمدادات للسائقين أو التدخل لتسهيل مهمة العبور"، على حد تعبيره.
وفي النهاية، فإن السائقين يجدون أنفسهم بلا معلومات كافية تساعدهم على تقدير الموقف، ومن هنا تتزايد حالات السخط في بعض الأحيان، والفوضى في أحيان أخرى.
وأخذت الأزمة في التصاعد خلال هذا الشهر بعد أن عادت حركة التجارة بشكل جزئي بين مصر والسودان منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي، وأمام تصاعد احتياجات السودانيين، وجدت شركات الشحن المصرية أنها يمكن أن تحقق مكاسب عديدة جراء الأزمات الغذائية والخدمية هناك، وهو ما دفع بشاحنات عديدة نحو الحدود، وفي المقابل فإن الحاجة المصرية للسلع السودانية كانت دافعاً في المقابل لتجار سودانيين كانت لديهم الرغبة في استئناف نشاطهم مرة أخرى، وهو ما تسبب في أزمة التكدس.
تعالت المطالبات من قبل سائقي سيارات النقل الثقيل العالقين داخل معبري أرقين وقسطل الفاصلين بين الحدود المصرية والسودانية، بتسهيل الإجراءات الخاصة بدخول شاحنات البضائع من الجانبين، وتوفير مياه وأدوية ووجبات غذائية خاصة بعد نفاد المواد الغذائية والأدوية والمياه منهم بسبب طول فترة الانتظار التي تجاوزت الأسابيع قبل تمكنهم من توصيل الشاحنات إلى داخل السودان.
ووفق شهادات وصور وثقها عدد من السائقين، الذين استغاثوا على المعابر الحدودية بين البلدين وصلت طوابير الشاحنات بالقرب من معبر "قسطل" لأكثر من 1500 شاحنة، وعلى مسافة أكثر من 35 كيلومتراً، إضافة إلى تكدّس 2500 شاحنة أخرى على الجانب المصري.
خسائر فادحة
وتعرّض حمدي عبد المجيد، وهو صاحب شركة شحن، لخسائر مادية فادحة خلال الشهرين الجاري والماضي، مشيراً إلى أنه قام بتسيير 3 شاحنات إلى المعبر المصري، وبعد أن ظلت قابعة لمدة 45 يوماً، ونجحت في العبور من معبر "قسطل"، إلا أن الشاحنات لم تصل بعد إلى الموردين السودانيين، والذين فشلوا في الوصول للشاحنات التي تكتظ بالأغذية ومواد البناء.
ولا توجد وسيلة اتصال بالشركات التي كانت من المفترض أن تتسلم الشاحنات، ويتم التواصل مع الموردين للتنسيق مع شركات أخرى يمكنها استلام الشحنات. ووفقاً للسائق ذاته فإنه تكلف مصاريف باهظة جراء الانتظار الطويل للشاحنات قبل دخول المعابر.
ويضيف أن السيارات المصرية كانت في السابق تصل إلى المدن السودانية لتوصيلها إلى الجهات المتعاقدة عليها، لكن الوضع الآن أضحى مختلفاً، وأضحى لزاماً على سائقي الشاحنات تفريغ البضائع داخل المعابر الحدودية فقط، دون السماح بالوصول إلى المدن السودانية لسوء الأوضاع الأمنية، وفي ظل تزايد حالات اختطاف الشاحنات من جانب قوات الدعم السريع التي تنتشر في عدد من الولايات السودانية والطرق الرابطة بينها.
وتابع قائلاً: "إن إجراءات التفتيش تأخذ وقتاً طويلاً، كما أن إجراءات تفريغ الشحنات عقب تخطي المعابر تأخذ وقتاً أكثر، وتبقى المشكلة الأكثر صعوبة في عدم وصول مستلمي الشحنات وهو ما يتسبب في تكدس الشاحنات في ظل حالة من الفوضى تسيطر على المناطق القريبة من الحدود جراء توالي عمليات الفرار من الحرب الدائرة، وقد يمر يوم كامل دون أن تُفرغ 4 سيارات شحناتها في ظل اكتظاظ آلاف السيارات".
ولفت إلى أن حركة التجارة بين البلدين كانت رائجة بصورة كبيرة، وهناك آلاف من السائقين والعاملين بشركات الشحن، وكذلك تجد الموردين والمستوردين لديهم مصلحة مباشرة في عودة حركة التجارة البرية بعد توقفها منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، كما أن الحالة السودانية الصعبة في ظل الاحتياج للواردات بأنواعها المختلفة يجعل هناك فرصة لتحقيق مكاسب مرتفعة من جانب التجار والموردين في مصر.
لكن ذلك كله قد يذهب هباءً في حالة الخسارة البشرية مع تردي الأوضاع الإنسانية ومعاناة السائقين، وكذلك مع الخسارة المادية التي تكون فادحة حال لم تفلح شركات الشحن في توصيل البضائع، وفقاً لما يؤكده عبد المجيد.
وبحسب تقديرات غير رسمية فقد بلغ عدد السائقين المتوفين بالحدود السودانية نحو 17 حالة، من بينها 3 حالات داخل الحدود المصرية قبالة معبر أرقين الحدودي، وتم تسليم جثامينهم لذويهم بالمحافظات المختلفة عبر مستشفى أبو سمبل (جنوب مصر).
وتشير تلك المعلومات إلى أنه تم دفن اثنين من السائقين المتوفين أخيراً في الصحراء السودانية بعد تحلل جثمانيهما، وهما كمال أبو رية من القاهرة، وأحمد عبد الجليل، من قرية كفر سليم شلقان، التابعة للقناطر الخيرية في القليوبية.
تدخلات حكومية لتهدئة الأوضاع
ويوضح مسؤول محلي بمحافظة أسوان الجنوبية بالقرب من الحدود المصرية السودانية لـ"عربي بوست" أن الأزمة هدأت عما كانت الأوضاع عليه قبل أسبوعين أو أكثر، وذلك بعد تدخلات عاجلة من الحكومة المصرية التي قامت بتنظيم حركة السفر عبر نظم التفويج الجديدة، وإتاحة مراكز خدمات للأماكن التي تصطف فيها الشاحنات، ومن خلال إعادة التواصل المفقود بين جهات إدارية مصرية وسودانية على الحدود لضمان عدم حدوث أي أزمات إنسانية للسائقين العالقين.
وكشف المسؤول أن الجهات الأمنية المصرية واجهت مشكلات في عملية تنظيم انتظار الشاحنات نتيجة ضعف التواجد الأمني في تلك المناطق، ما تسبب في انتشار ما يمكن وصفه بـ"سماسرة" التخليص الجمركي، وهؤلاء استطاعوا تمرير وصول بعض الشاحنات إلى المعابر دون الاضطرار للانتظار فترات طويلة بمقابل مادي هائل، قبل أن تتدخل جهات أمنية مصرية وتضيّق الخناق على هؤلاء لتسريع حركة سير الشاحنات.
وقبل أسبوع تقريباً، بدأت وزارة النقل المصرية في توسعة وتطوير المناطق اللوجستية الحالية في كل من أسوان وأبو سمبل، لاستيعاب حركة الشاحنات المتزايدة ومنع تكدسها وتكليف الهيئة العامة للطرق والكبارى بتنفيذ أعمال التوسعة والتطوير لهذه المناطق اللوجستية، كما تم البدء في إنشاء مناطق خدمية تشمل دورات مياه وكافتيريات مع تواجد نقاط إسعاف لتقديم الخدمات والإسعافات الطبية السريعة اللازمة والتعامل مع حالات الطوارئ.
ووافق رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، على إقرار نظام جديد لتفويج الشاحنات المتواجدة في محافظة أسوان للمتجهين إلى منفذ أرقين البري، وفي أبو سمبل للمتجهين إلى منفذ قسطل البري، مع تقديم كل أنواع الرعاية الصحية وخدمات الإعاشة والتغذية لجميع سائقي الشاحنات، وسيتم تحريك هذه الشاحنات وفق نظام التفويج بالأعداد التي تتوافق مع طاقة المنفذ.
وألقت وزارة النقل المصرية اللوم في اكتظاظ الشاحنات على الجهات الحكومية السودانية واتهمتها ببطء إجراءات تخليص الجمارك في معبري أرقين وقسطل، مشيرة إلى أن الأخير "يقوم بالعمل لفترة محدودة يومياً، ويأتي ذلك بالتزامن مع زيادة حجم الصادرات المتجهة إلى السودان، مما أدى لحدوث التكدس".
تبادل الاتهامات
في المقابل، فإن مصدر قريب من دوائر حكومية سودانية ألقى باللوم على الجانب المصري، مشيراً إلى أن بطء الإجراءات الجمركية على المعابر يأتي بالأساس من الجانب المصري، الذي تتكدس من ناحيته الشاحنات بشكل أكبر، وأن تشديد الإجراءات الأمنية المصرية في ظل مخاوف من انفلات الأوضاع الأمنية على الحدود يقود إلى تعطيل وصول الشاحنات.
وكشف عن الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان إلى مصر، ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي تناول تلك المشكلة، وأن القاهرة وعدت بمزيد من التسهيلات لوصول الشاحنات إلى المعابر الحدودية وعدم حجزها لفترات طويلة في أماكن التفويج الجديدة التي أقرتها، لافتاً إلى أن السودانيين يبقون أكثر حاجة للشحنات المصرية في ظل نقص الإمدادات الواضح في كل السلع والخدمات، وليس من مصلحة أحد في السودان تعطيل حركة التجارة في هذا التوقيت الصعب.
وارتفع معدل التبادل التجاري بين مصر والسودان، العام الماضي، إلى نحو 1.5 مليار دولار، بعدما سجّل نحو 900 مليون دولار في عام 2021، وفق أرقام رسمية مصرية، ويستحوذ السودان على 13.2% من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين مصر والقارة الإفريقية، ووصلت صادرات السودان لمصر في 2022، لنحو 504.5 مليون دولار.
وتُصدّر مصر للسودان مواد البناء والتشييد بمختلف أشكالها، وأجهزة كهربائية، وكيماويات، ودهانات، وأغذية مُصنعة، بينما تُشكّل اللحوم الهيكل الأساسي لواردات مصر من السودان، إضافة إلى بعض المنتجات الزراعية والمواد الزيتية.
مخاوف من تسلل عناصر إرهابية
وبحسب مصدر أمني مصري، تحدث لـ"عربي بوست"، شريطة عدم ذكر اسمه، أن العمل في معبري أرقين وقسطل يستمر طوال اليوم دون انقطاع، لكن هناك حالة من الضغط الشديد على المعابر الحدودية منذ اندلاع الحرب، وهناك مخاوف من تسلل عناصر وصفها بالإرهابية، سواء كان ذلك من خلال حركة البضائع أو عبر حركة الفارين من الحرب، وهو ما انعكس على تشديد الإجراءات الخاصة بالدخول والخروج، بخاصة أن طول فترة توقف حركة التجارة، والتي استمرت لما يقرب من شهرين تسبب في زيادة هائلة في أعداد الشاحنات من الجانبين، وتسعى لاستئناف حركة التجارة بشكل طبيعي.
وأوضح أن الأيام الماضية كانت شاهدة على اتصالات بمستويات حكومية وأمنية مختلفة على الجانب السوداني، ليس فقط من أجل تسهيل عملية مرور الشاحنات عبر الحدود لكن أيضاً بهدف تسهيل وصول الشاحنات وشركات النقل السودانية لاستلام البضائع، وهناك تنسيق يجري مع السفارة المصرية في السودان بهذا الشأن.
وشدد على أن وزارة الداخلية المصرية، بالتعاون مع وزارات أخرى، بينها النقل والتموين، وكذلك عدد من الأحزاب والمبادرات الحكومية مثل "حياة كريمة" التابعة لوزارة التضامن، استطاعت أن توفر الإمدادات والمؤن المطلوبة للسائقين في المنطقة المحايدة بين الحدود المصرية السودانية والتي تتكدس فيها الشاحنات على نحو أكبر، والآن هناك قدرة على الوصول بالأغذية والمستلزمات الطبية بشكل يومي.