“لا حق لها بالوجود دون قانون التجنيد”..الحريديم يهددون بإسقاط حكومة نتنياهو لإعفاء عناصرهم من الخدمة

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/08 الساعة 09:32 بتوقيت غرينتش
يريد الحريديم إسقاط حكومة نتنياهو في حال لم يمرر قانون التجنيد الذي يطلبونه - رويترز

يظهر أمام حكومة اليمين الإسرائيلي تهديد جديد باستمرار وجودها، أطلقته أحزاب اليهود المتدينين الأرثوذكس، المعروفين باسم "الحريديم"، التي هددت بأنه في حال لم تمرّر ما يُعرف بقانون "التجنيد"، الذي يعفي عناصرها من الخدمة العسكرية في صفوف جيش الاحتلال، فإنها ستسقط حكومة بنيامين نتنياهو.

يأتي ذلك كأزمة جديدة تعصف بالحكومة المتطرفة في إسرائيل، بينما ما زالت المعارضة تتحدّاها باستمرار مظاهراتها واحتجاجاتها للأسبوع الحادي والثلاثين على التوالي.

"الجيش مقابل التوراة"

في التفاصيل، فإن الكنيست الذي خرج في إجازة صيفية مؤخراً، ويستعد لانعقاد دورته الشتوية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتوقع أن يشهد جلسات عاصفة عقب إمهال أحزاب الحريديم للحكومة حتى العاشر من أكتوبر لإقرار القانون، فيما بعث الحاخام الأكبر ماغور برسالة تهديد لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، جاء فيها أنه "لا حق للحكومة بالوجود بدون قانون التجنيد"، بزعم أن "الخدمة العسكرية تساوي تعلّم التوراة".

واشترط أن "يكون القانون محصناً، وغير قابل للشطب من المحكمة العليا"، بحيث يصبح نافذاً على الفور. 

تجدر الإشارة إلى أنه مع نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي، انتهى سريان قانون "التجنيد المؤقت"، الذي يعفي الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية، ما يعني أن طلاب المعاهد الدينية عليهم الالتحاق بالجيش، لكن الحكومة أصدرت تعليماتها للجيش بعدم تطبيق القانون حالياً، خشية انهيارها من الداخل.

رغم التزام نتنياهو في الاتفاقات الائتلافية بسنّ قانون التجنيد الإجباري حتى قبل إقرار ميزانية الدولة، فقد أظهر الائتلاف والحكومة اهتمامهما بشكل أساسي بالتعديلات القضائية، ولم تُناقش مسألة قانون التجنيد، لكنّ رئيس حزب "شاس" الحاخام آرييه درعي، ورئيس حزب "يهودوت هاتوراه" الحاخام إسحاق غولدكنوبف، يرفضان أي عرقلة إضافية، ويطالبان بقانون تجنيد جديد قبل مواصلة العمل بالتعديلات القضائية.

الحاخامان وجّها إنذاراً للحكومة قالا فيه إنّه "إذا أرادت الحكومة المضي قدماً في التشريع، فهذا مرتبط بإقرارها لقانون التجنيد".

حاخامات من الحريديم هددوا إسقاط حكومة نتنياهو - رويترز
حاخامات من الحريديم هددوا إسقاط حكومة نتنياهو – رويترز

وكشف غولد كنوبف عن أنه "تلقينا أمراً من مجلس كبار التوراة، مفاده أنه بدون قانون التجنيد، عليكم الاستقالة من الحكومة، لأنه لن يحصل تأجيل إضافي في التشريع".

كما شكلت مجموعة من الأمهات الإسرائيليات اللواتي يوشك أبناؤهن على التجنيد في الجيش، منظمة "أمهات على الجبهة"، ترفض إقرار قانون يمنح إعفاء شاملاً للحريديم من الخدمة العسكرية، وجرى استضافة مجموعة منهن في الكنيست لمناقشة مطالبهن، وأعلنّ رفضهن مبررات الحريديم لعدم الانخراط بصفوف الجيش، بزعم أنهم يرغبون بالتفرغ لـ"خدمة الرب" بدلاً من الخدمة العسكرية.

كيف يمكن لأحزاب "الحريديم" إسقاط الحكومة؟

يحوز الحريديم 18 مقعداً في الكنيست، بالإضافة إلى عدد من الوزراء، لكنهم في القرارات المصيرية، فإنها تتخذ بناء على فتوى دينية من المرجعية الحاخامية لهم، التي تأمرهم بالتصويت على قرار ما، أو بحجب الثقة عن الحكومة في الكنيست أو إعطائها.

هذا العدد من المقاعد لدى أحزاب "الحريديم" يهدد بإسقاطها الحكومة برلمانياً، حين تفقد شبكة الأمان البرلمانية، لأن الحكومة سيكون لديها في هذه الحالة 46 عضو كنيست فقط، أي إنها ستسقط تلقائياً بسبب فقدانها الغالبية.

ويمكن كذلك أن تنسحب أحزاب الحريديم من الحكومة بقرار أحادي، إذ إنها تحوز عدداً من مقاعد الوزراء، وعدداً أكبر من وكلاء الوزارات ومديريها العامين، بجانب تسلمهم لعدد من الهيئات الحكومية المركزية، ما يعني انهيار الحكومة.

لدى الحريديم وزراء يؤدي انسحابهم إلى إسقاط حكومة نتنياهو - رويترز
لدى الحريديم وزراء يؤدي انسحابهم إلى إسقاط حكومة نتنياهو – رويترز

تنامي نفوذ "الحريديم"

وفقاً للهيئة المركزية للإحصاء الإسرائيلية، فإن الحريديم يعتبرون الفئة الأسرع نمواً في إسرائيل، بنسبة نمو سكاني تبلغ 4%، مقابل 2.3% للنسبة العامة بين الإسرائيليين، وعددهم 1.28 مليوناً، بنسبة 13% من بقية اليهود.

وسيشكلون 16% بحلول 2030، ليبلغ عددهم مليوني نسمة عام 2033، ولديهم في الكنيست اليوم 18 عضواً من أصل 64، عدد أعضاء الائتلاف اليميني كله.

رغم كل ذلك، فإنهم يقاطعون سوق العمل، بزعم انشغالهم في دراسة التوراة فقط، وتجنّب التجنيد في الجيش والخدمة العسكرية، ما يتسبب بغضب الأحزاب العلمانية واليسارية منهم، لكن الأحزاب اليمينية، خاصة الليكود، تتغاضى عن هذه العيوب التي تحيط بهذه الجماعة المتشددة الحريصة على التزام شديد بتطبيق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية، وطقوسها، وقوانينها التوراتية في حياتهم اليومية. 

تثير قضية دور "الحريديم" في المجتمع الإسرائيلي جدلاً واسعاً، إذ يطالبهم البعض بالمساواة في تحمّل عبء الخدمة العسكرية، فيما يرفضون التخلي عن دراسة التوراة التي يرونها "حماية روحية لإسرائيل"، وهناك مطالبات في الداخل الإسرائيلي من الأحزاب الليبرالية واليسارية بضرورة أن يشاركوا في الخدمة العسكرية أو المدنية، لكنهم يعتبرون دراستهم في المدارس الدينية بمثابة الخدمة الوطنية بالنسبة لهم.

لكن التهديد الصريح الذي وجهه حاخامات الحريديم إلى نتنياهو يشكل دليلاً جديداً على أن ازدياد نفوذهم يمنح مصداقية للتحذيرات التي تعتبرهم خطراً وجوديّاً على الدولة، في ظل رفضهم المساهمة بالاقتصاد أو الخدمة العسكرية، بالتزامن مع ما تشهده الغالبية العلمانية من تراجع في مواجهة التأثير الديموغرافي للأرثوذكس المتطرفين على هوية الدولة.

هناك تقدير إحصائي يرى أن قوة هؤلاء الحريديم التصويتية قد تزيد 30 مرة على نظيرتها لدى العلمانيين، فمقابل كل ناخب لأحزاب اليسار واليمين، سيكون 30 ناخباً للأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، وخلال فترة تزيد قليلاً على جيل واحد، سيكون بإمكانهم تعيين نصف نواب الكنيست، ولن تكون هناك إمكانية لتشكيل حكومة صهيونية وليبرالية.

مع أن مطالبة الحريديم بالانخراط في الخدمة العسكرية تشكل محور جدل واسع، وموضوعاً للنقاش السياسي والاجتماعي حول المساواة في تحمل أعباء الخدمة الوطنية بين جميع الإسرائيليين، بمن فيهم "الحريديم"، الذين يزعمون قيامهم بدور أساسي في الحفاظ على الهوية اليهودية والتقاليد الدينية في المجتمع الإسرائيلي.

انهيار "جيش الشعب"

كثيرة هي المبررات التي يرفعها الإسرائيليون في رفض سنّ قانون يستجيب لمطالب الحريديم، بالاستنكاف عن الخدمة العسكرية، أخطرها أنه ينهي نموذج "جيش الشعب"، وهو ما ذكره رئيس المعارضة يائير لابيد الذي هاجم الحكومة بسبب هذا القانون، زاعماً أن "أولادنا فقط سيلتحقون بالجيش، ويخاطرون بحياتهم، أما "أولئك" ممن لا يلتحقون، فستزيد مخصصاتهم، وسيكون أولادنا فقط هم السذّج الذين يعملون، ويدفعون الضرائب".

وقال: "هذا ليس قانون تجنيد، بل استسلام غير مشروط للتهرب ورفض الخدمة العسكرية، وتنازل عن القيم التي تأسست عليها إسرائيل".

يعتقد الإسرائيليون أنه ليس من الإنصاف أن يكون هناك يهودي ملزم بأداء الخدمة العسكرية، فيما يتم إعفاء يهودي آخر، فقط لأنه وُلد منتمياً لتيار سياسي وديني محدد، ولذلك، فإن هذا القانون الذي اقترحته الأحزاب الحريدية يكرّس لانعدام المساواة بين الإسرائيليين في كل ما يتعلق بتحمل المسؤولية داخل الدولة، كما حذرت العديد من الجهات الإسرائيلية من هذا القانون، لأنها تصبّ في مسار لا تُحمد عقباه، كونه يؤدي لـ"تفكيك الجيش الإسرائيلي".

رغم كل المخاوف الإسرائيلية من تداعيات القانون، لكن تهديد الحريديم يظهر جدّياّ هذه المرة بإسقاط الحكومة بحسب صحف عبرية، مع أنها ليست المرة الأولى التي يطالبون فيها بسنّ مثل هذه القوانين الخاصة بإعفاء طلاب المعاهد الدينية في أعوام 2007، 2014، 2019، وشكلت جميعها "قنابل تفجير" للائتلافات الإسرائيلية الحاكمة السابقة.

مع العلم أن النتيجة الأهم للتداعيات الناجمة عن مثل هذا المشروع القانوني، في حالة إقراره، أن الأزمة البنيوية العميقة داخل الدولة والمجتمع الإسرائيلي تتوسع وتتعمق، ولا تقف عند حدود القضاء الإسرائيلي، بل تطال القطاعات المختلفة، لاسيما أن الأحزاب الحريدية لا تتورع عن هدم الائتلاف الحكومي، إن لم يستجب لمطالبها، وإصرارها هذا على خيارها يدفع إسرائيل نحو الهاوية، التي ستطيح بهم وبالدولة والجيش، بل بالمشروع الصهيوني، وفق ذات المخاوف الإسرائيلية.

يترقب الإسرائيليون بدء العد التنازلي لانعقاد الدورة الشتوية المقبلة للكنيست، على اعتبار أن الفترة الفاصلة إلى حين انعقادها ستشهد تعاظم ضغط الأحزاب الحريدية، وتزايد تهديداتهم بإسقاط الحكومة، ما يجعل من هذا الموضوع المشحون مشكلة جوهرية تهدّد وجود "جيش الشعب"، ومستقبل الاقتصاد الإسرائيلي، وتحوّله إلى أداة مناكفة في إطار ما بات يُعرف بـ"صراع الهويات" في إسرائيل.

عوامل التفجير

تثار مخاوف في إسرائيل، بأن المشكلة ستتمثل في أن قطاعاً كاملاً من الجمهور الإسرائيلي سيكون معفى من الخدمة العسكرية، ما سيؤدي إلى انهيار التجنيد الإلزامي في صفوف الجيش، وهو ما يقابل بعدم موافقة عامة من عموم الجمهور الإسرائيلي، فضلاً عن الاحتجاج الذي سينشب في أوساط جنود وضباط الاحتياط، لا سيما في ظل الظروف المتفجرة الحالية، مع تحول موضوع الانخراط في الجيش برمّته، والعزوف عنه، موضوعاً على الطاولة في الجدال الدائر على صورة إسرائيل.

كما أن الخطورة التي يطرحها الإسرائيليون من هذا القانون أنه يحوّل جيشهم من مؤسسة عسكرية "مهنية" إلى جيش من "الأجيرين"، لأن التجنيد الإلزامي بالأساس حيوي للحفاظ على التفوق النوعي للجيش، ولكن في حال انتزع الحريديم قانونهم الذي يقاتلون في سبيله سنوات طويلة، فإن ذات الجيش سيصبح مع مرور الوقت باهظاً أكثر، وناجعاً أقل، ويقتصر في تشكيله على القطاعات الضعيفة بين الإسرائيليين، مما يعني المسّ بمبنى قوته البشرية.

حاخامات الحريديم لديهم سلطة على وزراء أحزابهم بأن يصوتوا لإسقاط حكومة نتنياهو - Wikimedia Commons
حاخامات الحريديم لديهم سلطة على وزراء أحزابهم بأن يصوتوا لإسقاط حكومة نتنياهو – Wikimedia Commons

"دولة الشريعة"

في الوقت ذاته، فإن إمكانية نجاح الحريديم في تمرير قانون إعفائهم من الخدمة العسكرية يشكل أحد "عوامل التفجير" داخل المجتمع الإسرائيلي، بحسب تعبير محللين إسرائيليين، لأنه يحمل العديد من الانعكاسات، أولها استنزاف موازنة الدولة لصالح المدارس الدينية، وضخّ الحكومة للأموال الطائلة لصالح هؤلاء "العاطلين" عن العمل والمستنكفين عن الخدمة العسكرية، مع العلم أننا أمام 70 ألفاً من طلاب تلك المدارس، يحصلون على الملايين. 

ثاني هذه الانعكاسات لاستنكاف الحريديم عن الخدمة العسكرية، وهذه المرة بقانون موافق عليه بالقراءات الثلاث، أنه يتزامن مع انتشار ظاهرة رفض الالتحاق بوحدات الجيش القتالية بسبب معارضة الانقلاب القانوني الجاري، ورفض الجنود العلمانيين واليساريين للخدمة في دولة "الشريعة اليهودية"، وفي هذه الحالة سيكون الجيش فارغاً من داخله من الحريديم وخصومه على حدٍّ سواء. 

انعكاس ثالث يتمثل في أن إسرائيل باتت تعاني بالفعل من تراجعات مطّردة في اقتصادها، وزيادة في نسبة التقييمات السلبية للمؤسسات الدولية له، وفي الوقت ذاته، فإنها وفق القانون الجديد، بعد إقراره، ستكون ملزمة بتحويل المزيد من الأموال الطائلة لأولئك المتدينين، الذين لا يعملون في وزاراتها، ولا يخدمون في جيشها.

تحميل المزيد