كشف مصدر حكومي لـ"عربي بوست"، أن تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول عدم تعويم الجنيه المصري من جديد وانخفاضه أمام العملات الأجنبية خلال الفترة المقبلة ضاعفت من المتاعب التي قد تواجه الاقتصاد المصري.
وأضافت المصادر نفسها، أن الحكومة المصرية تُواجه مأزقاً صعباً بسبب هذه التصريحات، وذلك في حال لم تتوافر عوائد دولارية تقلل الفوارق الكبيرة بين سعر الجنيه مقابل الدولار في البنوك الحكومية والسوق السوداء.
"عربي بوست" تواصل مع خبراء اقتصاديين مقربين من الحكومة؛ لمعرفة دلالات التصريح الأخير للسيسي؟ وما الحل الذي يوجد أمام الحكومة؟
رد فعل صندوق النقد الدولي
كشفت مصادر "عربي بوست" أن تصريحات السيسي تتعارض مع برنامج صندوق النقد الدولي، الذي توصل إلى اتفاق مع الحكومة المصرية بشأن حزمة من المساعدات تصل إلى ثلاثة مليارات دولار.
وحاولت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، التخفيف من حدة تصريحات الرئيس المصري، الذي لمح إلى أن الأمن القومي لبلاده سيكون طاغياً على أي اتفاقيات أقرتها الحكومة المصرية.
وأشارت المتحدثة إلى أن "الصندوق يخوض نقاشات مع السلطات المصرية التي تتخذ الخطوات المناسبة، وثمة خطوات كثيرة صائبة أقدمت مصر على اتخاذها لكنها بحاجة إلى تقييم البيئة العالمية المتغيرة وتحديد طريقة تسمح لها بتعزيز تنافسية اقتصادها".
ولم تشر جورجيفا إلى عدم التزام الحكومة المصرية بالخطوات المتفق عليها بشأن خطة الإصلاح، مطالبة بأن تبتعد الدولة عن الأنشطة التي ليست الجهة الفضلى للاضطلاع بها، وأكدت حاجة الحكومة للتفكير بطرق تسمح بتعزيز احتياطيات مصر من العملات.
خبير اقتصادي مقرب من الحكومة المصرية قال إن تصريحات مديرة صندوق النقد تُعبر عن تفهُّمها بشأن المخاوف المصرية من تعويم سعر العملة المحلية مجدداً، موضحاً أن تأجيل خطوات المراجعة الدورية للإجراءات المصرية جرى بالتفاهم بين الطرفين.
وأضاف المتحدث أن الصندوق يدرك أنه الاعتبارات الأمنية في الداخل تعد مدخلاً مهماً لأن يحقق الإصلاح أهدافه، وقد يترتب على ذلك طول أمد فترات سداد دفعات القرض إلى الحكومة المصرية، وهو أمر تقبله القاهرة التي تحاول تجميع مليارات الدولارات قبل الإقدام على أي خطوات مستقبلية.
وأبرمت مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي للتعاون في تنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي مدته 46 شهراً بتمويل من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار على شرائح على مدار عمر البرنامج، ووافق عليه المجلس التنفيذي للصندوق في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
العائدات السياحية والأصول الحكومية هي الحل
قال مصدر "عربي بوست" إن الحكومة المصرية تراهن على العائدات السياحية خلال النصف الأول من العام الجاري والربع الأول من النصف الثاني، في ظل وجود طفرات كبيرة بأعداد السائحين.
وأضاف المصدر نفسه أن الحكومة المصرية تعمل على تبكير موعد افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي من المتوقع أن يجذب أكثر من 2 مليون سائح، ويعود بدخل مهم على خزينة الدولة.
العامل الثاني الذي تعول عليه القاهرة، كما كشف المصدر لـ"عربي بوست"، يرتبط بتسريع وتيرة بيع الأصول الحكومية ضمن برنامج الأطروحات بعد أن تعاقدت مع مؤسسة التمويل الدولية للاستفادة من خبرتها بهدف تسريع عملية خصخصة الشركات المملوكة للدولة.
وأشار المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست"، إلى أنه من المتوقع أن تجني مصر ما يقرب من ملياري دولار في حال جرى تنفيذ خطة العائدات السياحية وبيع الأصول الحكومية بشكل سليم.
إضافة إلى ذلك هناك احتمالات توافد ملايين السياح العرب في فصل الصيف مع إنشاء منتجعات جديدة على ساحل البحر المتوسط بمدينة العلمين الجديدة، وانتظار تقليص فرق العملة بما يدعم زيادة تحويلات المصريين من الخارج التي تقلصت أخيراً.
هل تنقذ مؤسسة التمويل الدولية الاقتصاد المصري؟
وقّعت مصر حديثاً اتفاقيةً مدتها 5 سنوات مع مؤسسة التمويل الدولية، التابعة لمجموعة البنك الدولي، لتكون مستشاراً استراتيجياً لبرنامج طروح الشركات الحكومية، حيث أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أن "مؤسسة التمويل الدولية ستكون لديها القدرة على تسويق الأصول المصرية خارجياً".
وكشف مصدر مطلع بوزارة المالية المصرية لـ"عربي بوست"، أن الحكومة المصرية اقتربت من جمع مليار دولار جراء بيع أصول عدد من الشركات والهيئات التابعة لها، وقد يتوافر لدى الحكومة بحلول أغسطس/آب، ما يقرب من مليار ونصف المليار دولار.
وأضافت المصادر نفسها أن ذلك قد يُساهم في سداد بعض الديون الخارجية المقرر دفعها مع بداية السنة المالية، إلى جانب توفير احتياطي نقدي يقود إلى القضاء على السوق السوداء وإيجاد سعر واحد للصرف.
وأوضحت المصادر أن الهدف هو وصول سعر الجنيه في السوق السوداء خلال الشهرين المقبلين إلى 33 جنيهاً، في حين أن السعر في البنوك الحكومية وصل حالياً إلى 31 جنيهاً، وقد تتناقص قيمته بمقدار جنيه آخر مقابل الدولار بشكل تدريجي وبطيء عقب إجازة عيد الأضحى.
وفي هذه الحالة، وحسب المصادر ذاتها ستكون الحكومة المصرية أمام وضعية أفضل تجعلها قادرة على تقليل الفجوة الدولارية، وقد يعقب ذلك تخفيض جديد في قيمته مع مطلع العام المقبل.
يشير المصدر نفسه إلى أن الصندوق السيادي المصري قارب على عقد عدة صفقات ضمن برنامج الأطروحات الحكومية، بينها بيع أسهم في سبعة فنادق تاريخية لجهاز قطر للاستثمار.
وكان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، قد أعلن في فبراير/شباط الماضي، أن الحكومة ستطرح 32 شركة مملوكة للدولة على مستثمرين استراتيجيين، والطرح العام في البورصة المصرية على مدار عام حتى نهاية الربع الأول من 2024، في إطار ما يسمى ببرنامج الطروح الحكومية.
تصريحات السيسي حول تعويم الجنيه المصري.. دلالات سياسية
يقول خبير في الاقتصاد السياسي إن تصريحات الرئيس المصري ليست لديها أسس اقتصادية وتحمل دلالات سياسية، إذ جاءت في سياق إرسال إشارات طمأنينة للداخل المصري.
وأضاف المصدر نفسه أن السيسي يقترب من تدشين حملته الانتخابية وسيكون من الصعب وجود منافسة قوية فيها، وليس من المنطقي الذهاب نحو تحميل المواطنين مزيداً من فواتير الإصلاح الاقتصادي المتعثر مع معدلات التضخم التاريخية التي تشهدها البلاد في الوقت الحالي.
وأوضح أن الحكومة المصرية تدرك أن تخفيض قيمة الجنيه دون أن يكون ذلك على أسس سليمة سيؤدي مباشرة إلى حالة من الاضطراب الداخلي، لأن أزمة وجود سعرين للعملة المحلية مقابل الدولار لن تنتهي.
وفي الوقت ذاته فإن مصر لم تحصل على الاستثمارات الأجنبية التي كانت متوقعة حينما حافظت لعدة سنوات على سعر موحد للعملة، ولديها قناعة بأن هناك أسباباً أخرى تدفع نحو عزوف المستثمرين عن الاتجاه إلى مصر.
وأكدت مديرة صندوق النقد، في تصريحاتها الأخيرة، أنه بسبب وجود أسعار صرف متعددة للعملات الأجنبية في مصر يحصل بعض الأشخاص على امتيازات بينما يُحرم آخرون منها.
وقالت: "كما نعلم فإن دعم العملة دون وجود ما يكفي من الاحتياطيات من العملات الأجنبية يؤدي إلى استنزاف هذه الاحتياطيات، مما يضر بالاقتصاد، فكيف على مصر التعامل مع ذلك؟".
وتابعت: "المسألة ليست اقتصادية فحسب، بل متعلقة أيضاً بالاقتصاد السياسي، ولكن من المهم اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية هذه الاحتياطيات من العملات الأجنبية، لأنه وبخلاف ذلك، يصبح الأمر غير مجدٍ (أي برنامج تمويل صندوق النقد)".
وتوقع بنك سيتي غروب الأمريكي، الأسبوع الماضي، أن تؤجل القاهرة خفض قيمة عملتها حتى سبتمبر/أيلول المقبل على الأقل، حيث يخفف احتمال تحقيق عائدات مجزية من السياحة ومبيعات الأصول الحكومية الضغط على الاقتصاد.
تصريحات السيسي.. إشارات خادعة للسوق السوداء
كشف خبير اقتصادي في وزارة المالية، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم ينفِ تعويم الجنيه المصري، لكنه تحدث بشكل جزئي عن تخفيض قيمة العملة المصرية في هذا التوقيت بالذات.
وأضاف المتحدث أن تصريح السيسي لديه جوانب سياسية، إذ تستهدف الحكومة منح نفسها فرصة لإنجاز خططها بشأن جذب الدولار من جانب، ومن ناحية أخرى فإنه سيكون من الصعب الوصول إلى سعر مرن قبل انتخابات الرئاسة المقبلة.
وأشار المتحدث إلى أنه سيتم تأجيل خطوة تعويم الجنيه المصري أو تقليصه بشكل بسيط؛ حتى لا يؤثر سلباً على الوضع الداخلي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة سنة 2024.
لم ينفِ مصدر "عربي بوست" وجود أبعاد سياسية دفعت الرئيس المصري إلى إطلاق تصريحاته الأخيرة، لأنها من جانب أرسلت إشارات خادعة للسوق السوداء بأن مصر لن تقدم مجدداً على تخفيض قيمتها، وهو ما أدخل الشك في نفوس المضاربين في العملة، وانعكس ذلك على زيادة عمليات بيع الدولار خلال الأيام الماضية وانخفاضه في السوق السوداء إلى 38 جنيهاً.
وعلى الجانب الآخر، بحسب ما أكده المصدر لـ"عربي بوست"، فإن الرئيس المصري هدف إلى تهدئة الرأي العام المحلي مع وصول التضخم لمستويات قياسية، حيث وصلته تقارير أمنية تشير إلى عدم تحمّل أي تخفيض جديد في قيمة العملة.
كما أن الحكومة المصرية، حسب المصدر نفسه، ستكون مقدمة على مزيد من الإجراءات التي تحمّل المواطنين أعباء جديدة مع بداية السنة المالية، سواء كان ذلك من خلال زيادة أسعار فواتير الكهرباء، أو عبر فرض ضرائب جديدة من المتوقع تنفيذها، وكذلك زيادة أسعار الوقود، وهو ما يفسر قرار زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص.
وقرر المجلس القومي للأجور في اجتماعه الذي انعقد برئاسة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاع الخاص من 2700 إلى 3000 جنيه بداية من يوليو/تموز المقبل.
وأشارت الوزيرة إلى أن القرار يتناسب مع سياسة المجلس في تحقيق التوازن بين مصلحة العمال وأصحاب الأعمال، ويتماشى مع المتغيرات الاقتصادية الجارية وارتفاع معدلات التضخم.
توقعات بتخفيض قيمة العملة المحلية خلال شهرين
يقدر بنك "غولدمان ساكس"، في تقرير حديث له، قيمة ما يحتاجه البنك المركزي المصري للانتقال إلى سعر صرف أكثر مرونة بنحو خمسة مليارات دولار، وهي احتياجات تخص متطلبات النظام المصرفي، وليس كل احتياجات العملة الصعبة في مصر.
ويتوقع خبير اقتصادي بوزارة المالية أن تذهب مصر إلى تخفيض قيمة العملة المحلية خلال الشهرين المقبلين، وأن الموازنة العامة الجديدة للدولة التي تبدأ مع السنة المالية في مطلع يوليو/تموز تقدر قيمة الجنيه أمام الدولار بقيمة تتراوح بين 32 جنيه و37 جنيهاً.
وأضاف المتحدث أن المفاوضات التي جرت سراً بين مصر وصندوق النقد الدولي خلال الشهر الماضي والأيام الأولى من هذا الشهر، توصلت إلى إرجاء قيمة الدفعة الثانية من قرض الصندوق إلى مصر لحين تخفيض سعر العملة، دون التقيد بتوقيت محدد وإن كانت الحكومة المصرية وعدت بتخفيض قيمة العملة خلال الشهرين المقبلين.
وكانت القاهرة تسلمت بالفعل أول دفعة بقيمة 347 مليون دولار عقب الاتفاق مباشرة، وكان من المفترض أن تحصل على الدفعة الثانية بقيمة 347 في مارس/آذار الماضي، لكن تم تأجيل مراجعة الصندوق.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن صندوق النقد سيُدخل تعديلات على قيمة فائدة سداد القرض كلما طال أمده، وهو ما توافق عليه القاهرة التي تسعى لتأمين نفسها قبل أن تتجه إلى أي تعويم جديد يقود مجدداً لخلق سوق سوداء والبحث عن حلول جديدة للقضاء عليها.
كما أن القاهرة لا يمكنها أن تتخلى عن الطريق الذي رسمه صندوق النقد، لأنها بحاجة إليه كشهادة دولية بأن الدولة تسير على الطريق السليم وأنها تنتهج رؤية اقتصادية سليمة بما يساهم في جذب الاستثمارات.