اتخذت الحكومة المصرية مجموعة إجراءات هدفت لزيادة غلّتها من محصول القمح المحلي هذا العام، بينها تعديل سعر القمح المورد، في محاولة للتخفيف من الضغط على الجنيه وسط مشكلات جمة في توفير العملة الصعبة للاستيراد من الخارج، لكنها في المقابل تواجه أزمات مختلفة في توريد القمح جراء تزايد حدة المنافسة بينها وبين شركات القطاع الخاص التي تستخدم القمح في صناعة الدقيق وغيرها من الأغذية؛ ما يجعل رؤيتها لتحصيل 5 ملايين طن هذا العام تصطدم بصعوبات عديدة.
يشير محمد سعيد، وهو أحد مزارعي القمح بمحافظة المنيا، إلى أن الزيادة التي أقرتها الحكومة لشراء إردب القمح (150 كيلوغراماً) ليست كافية كي يحسم المزارعون موقفهم لتوريد القمح إلى الحكومة، وأن مطاحن القمح الخاصة وغيرها من الشركات التي تتعامل مباشرة مع المزارعين تقدمت بعروض فاقت كثيراً ما تعرضه الحكومة، وهو ما يجعل الكفة تتجه نحو توريده إلى القطاع الخاص.
رفعت الحكومة المصرية سعر القمح المورد محلياً 20% الشهر الماضي ووصل إلى 1500 جنيه للإردب، لتصل إجمالي الزيادة في سعر شراء القمح من المزارعين إلى 57% منذ بداية العام، لكنها حددت هذا السعر لسعر الإردب من القمح درجة نقاوة (23.5)، كما حددت سعر القمح درجة نقاوة 23 بـ 1475 جنيهاً، فيما يبلغ سعر درجة نقاوة 22.5 نحو 1450 جنيهاً، وهي أسعار وفقاً لجودة القمح.
سعر القمح قليل والحكومة تتأخر في الدفع
ويوضح سعيد لـ "عربي بوست" أنه تلقى عروضاً عديدة لشراء إردب القمح مقابل 2000 جنيه دون الالتزام بمعايير نقاوته، وهو ما يساعد المزارعين على تحقيق أرباح جيدة، خاصة أن مصروفات زراعته هذا العام تضاعفت.
كما أن القطاع الخاص يعمل على توريد الأموال بشكل مسبق قبل تسلم الكميات المتعاقد عليها بعكس الحكومة؛ إذ تنتظر وزارة التموين وصول المخصصات الخاصة بشراء القمح من وزارة المالية، وقد تتأخر شهوراً بعد موعد التوريد.
وكشف المزارع لـ "عربي بوست" أن نقص السيولة الدولارية وصعوبة توفير العملة الصعبة اللازمة لاستيراده من الخارج، جعل كثيراً من التجار يتواصلون بشكل مباشر مع المزارعين هذا العام قبل موسم حصاد القمح لحجز احتياجاتهم وهؤلاء ليس لديهم غضاضة في زيادة سعر القمح المورد من المزارعين لأكثر من 2000 جنيه للإردب في ظل تراجع قيمة الجنيه والحصول على الدولار بأسعار مرتفعة بالسوق السوداء، ويرون بأن الاستعانة بالمحصول المحلي أكثر فائدة وإن كان بأسعار مرتفعة.
يبدأ موسم زراعة القمح في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني حتى نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، في حين يبدأ موسم الحصاد من منتصف أبريل/نيسان حتى منتصف يوليو/تموز المقبل. وتشير وزارة التموين إلى أنها استلمت ما يقرب من 2 مليون طن قمح من المزارعين حتى النصف الثاني من شهر مايو/أيار، من إجمالي 5 ملايين طن مستهدفة هذا العام.
وقالت وزارة الزراعة المصرية، في تقدير سابق، إن البلاد تسعى إلى تحقيق اكتفاء ذاتي من المحصول الاستراتيجي تبدأ بـ55% بحلول عام 2025، على أن ترتفع إلى 70% بحلول نهاية العقد الحالي، في حين أن مصر تزرع سنوياً ما يقرب من عشرة ملايين طن من القمح المحلي.
ورغم أن الحكومة المصرية ألغت هذا العام التوريد الإجباري إليها بفعل المشكلات التي وقعت العام الماضي، إلا أنها وجدت نفسها مضطرة هذا العام لاتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تهدف للاستحواذ على القدر الأكبر من المحصول المحلي، فحظرت نقل القمح من مكان إلى آخر إلا بعد الحصول على تصريح من مديريات التموين في المحافظات، وطالبت مطاحن القطاع الخاص المنتجة للدقيق بوجوب تدبير احتياجاتها من القمح المستورد وعدم استخدام القمح المحلي إلا بتصريح من الوزارة.
الاستزراع السمكي يعوق وصول القمح للحكومة
يستغرب قيادي سابق بوزارة التموين المصرية من إلغاء الحكومة التوريد الإجباري من الفلاحين، في الوقت الذي يتزايد فيه الإقبال على شراء القمح المحلي من جانب مطاحن القطاع الخاص، "كان عليها أن تُبقي عليه مع زيادة أسعار استلام إردب القمح لتضاهي ما تتقدم به المطاحن الخاصة والمصانع"، على حد تعبيره.
وكشف أن المزارعين يتلقون عروضاً عديدة لسعر القمح قبل فترة وجيزة من حصاده لاستخدامه كأعلاف، تحديداً من جانب صوب الاستزراع السمكي "التابعة لجهات معروفة"، على حد قوله، في ظل تنامي مشكلات دخول الأعلاف المستوردة إلى البلاد وزيادة أسعارها. وبالتالي فإن الحكومة أضحت في منافسة قوية مع مجموعة من الأطراف الأخرى التي تسعى لاغتنام القمح المحلي بأي أسعار.
وأضاف أن الوسائل الرقابية التي تنتهجها الحكومة لمنع تداول القمح في غير الأغراض الرسمية وكذلك لمنع بيعه من داخل شون التخزين دون الالتزام بحظر نقله لا تستطيع تحقيق أهدافها المرجوة، وأن عمليات التهريب تضاعفت بشكل كبير خلال الفترة الماضية.
وستجد الحكومة نفسها غير قادرة على استلام أكثر من ثلاثة ملايين طن على أقصى تقدير، وتضغط على موازنة الدولة المخصصة لاستيراد الحبوب من الخارج، في حين أنها عمدت على زيادة ميزانية شرائه بالعملة المحلية، وبالتالي تكبدت الموازنة قيمة إضافية للشراء من المزارعين ولم تنجح في توفير الدولار.
وبين الحين والآخر تعلن وزارة التموين عن ضبط شحنات مهربة قبل استخدامها في الأغراض غير المسموح بها طبقاً للقرارات الوزارية الصادرة فى هذا الشأن والمنظمة لعمليات التوريد والاستخدام، وتقوم بتوريد الكميات المضبوطة إلى صوامعها واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المهربين.
غير أن المصدر ذاته يشير إلى أن ما يتم ضبطه لا يتجاوز مئات الأطنان في حين أن كميات هائلة بملايين الأطنان يتم بيعها للقطاع الخاص دون علم الحكومة.
وقال وزير المالية المصري، الدكتور محمد معيط، إنه تم تخصيص 45 مليار جنيه لشراء القمح المحلي من المزارعين في موسم هذا العام، اعتباراً من أول أبريل/نيسان الحالي إلى منتصف أغسطس/آب المقبل، بزيادة أكثر من 19 مليار جنيه عن العام الماضي، وتكلفة إضافية لزيادة سعر إردب القمح بنسبة 74% من 865 إلى 1500 جنيه.
الحكومة لا تقول الحقيقة
يقول خبير اقتصادي، على صلة بملف زراعة القمح في مصر، إن الحكومة لا تقول الحقيقة بشأن نقص المياه ومساحات القمح المزروعة هذا العام، وأن الواقع يشير إلى أنها أقل بنصف مليون فدان عن مساحة العام الماضي، وتقدر هذا العام بحوالي 3 ملايين فدان فقط، ويعد ذلك أول العوامل التي تقود لتراجع حصة الحكومة من القمح.
ولم تنجح الحكومة في بناء جدار الثقة بينها وبين المزارعين بعد أن دخلت معهم في صدامات عديدة نتيجة رغبتها في توريد المحاصيل المحلية بأسعار غير تنافسية، وبالتالي فإن استمرار تلك العلاقة المضطربة هذا العام يدفع نحو توريده إلى جهات أخرى دون التفكير في عوامل تأمين احتياجات البلاد من القمح الذي يستخدم في توفير الخبز المدعم.
ووفقاً للمصدر ذاته، كان من المفترض أن ترفع الحكومة سعر القمح بحيث يكون سعر إردب القمح نحو 1800 جنيه على أقصى تقدير لدفع الفلاحين نحو توريد الكميات الأكبر من إجمالي 10 ملايين طن تقريباً إليها.
وتلك الخطوة – بحسب المصدر – كانت ستضرب عصفورين بحجر واحد لأنها ستؤدي لبناء الثقة والاستجابة لمطالب المزارعين وكذلك زيادة الحصيلة الحكومية، إذ تشير أرقام حكومية إلى أن وزارة التموين وردت العام الماضي ما يقرب من 4 ملايين طن.
ويؤكد المصدر لـ "عربي بوست" أن الضغط على العملة الصعبة سوف يستمر في موازنة العام الجديدة مع استيراد الحكومة المصرية ما يقرب من 60% من أغذيتها الرئيسية، كما أن مصر ستظل على رأس دول العالم استيراداً للقمح حول العالم؛ إذ إنها تستورد سنوياً نحو 12 مليون طن من القمح طبقاً لبيانات مؤسسة القمح الأمريكي، وأن الاستهلاك في العام المقبل قد يتجاوز 19 مليون طن سنوياً.
وستكون الحكومة بحاجة لأن تعامل الأقماح المصرية على أنها من أقماح الدرجة الأولى ورفع سعر القمح المستلم، بعد أن دخل التجار وجهات أخرى كمنافس للدولة لشرائها من المزارعين بسبب صعوبة تدبيرهم للدولار لاستيراد قمح لإنتاج المكرونة والرغيف الحر والمخبوزات الإفرنجية والحلويات ودقيق المنازل، وبالتالي فإن الإصرار على شرائه بأسعار زهيدة لن يكون مُجدياً مع التطورات العالمية بشأن وجود صعوبات جمة في توفير الأقماح وتوريدها.
وتشير أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر إلى أنه خلال الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، استوردت مصر قمحاً بـ3.90 مليار دولار مقابل 3.18 مليار دولار في الفترة نفسها من 2021، بارتفاع قدره 724 مليوناً و417 ألف دولار، من إجمالي فاتورة واردات البلاد البالغة 88 مليار دولار.
لكن هذا الرقم مرشح للزيادة؛ إذ أظهرت تقديرات جديدة لوزارة الزراعة الأمريكية، أن مصر ستشهد على الأرجح ارتفاعاً في واردات القمح وتنامياً استهلاكياً، خلال العام المالي 2023-2024.
ويتوقع تقرير الحبوب الصادر عن وزارة الزراعة الأمريكية، تراجع إنتاج روسيا 11% وأوكرانيا 20% وأستراليا كذلك، مقدراً الاستهلاك العالمي للقمح بـ 789.5 مليون طن، بزيادة 2.9 مليون عن العام الماضي.
يلفت التقرير إلى توقعات تقلص المخزونات العالمية على أساس سنوي، بسبب الانخفاضات الكبيرة للعديد من المنتجين المصدرين، بخاصة روسيا صاحبة أكبر تراجع، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي يتوقع تراجع مخزونها إلى أدنى مستوى منذ 2007-2008 عند 15.1 مليون طن.
نزوح السودانيين يزيد من الاحتياجات المحلية
وأوضح مصدر مطلع بوزارة التموين المصرية أن فاتورة استيراد القمح ترتبط بالاحتياج المحلي الذي يفوق كثيراً أفدنة الفلاحين المزروعة والتي ليس هناك حل لزيادتها إلا على حساب زراعات أخرى ستؤثر عدم زراعتها على زيادة أسعار الأعلاف، ومن ثم اللحوم والدواجن.
كما أن نزوح مئات الآلاف من السودانيين الذين لديهم نهم نحو استخدام الخبز مثلما الحال للمواطنين المصريين سيقود لزيادة الاحتياجات المحلية، وأن التعويل سيكون على مساندة منظمات وهيئات دولية بتقديم دعم للدولة المصرية بالعملة الصعبة أو تسهيل استيراده من الخارج بأسعار زهيدة.
ويقدر تقرير مجلس الوزراء المصري بشأن استهلاك البلاد المتوقع في العام المالي الجديد بـ20.400 مليون طن مقابل 20.250 مليون للعام الجاري، أما مشروع موازنة مصر للعام المالي الجديد، الذي يدخل حيز التنفيذ في أول يوليو/تموز المقبل، فيقدر سعر القمح العالمي للطن بـ 340 دولاراً مقابل 330 دولاراً للموازنة الحالية، بحسب تصريحات لرئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري، فخري الفقي.
وذكر بأن الحكومة ستواجه مأزقاً كبيراً في توفير الأقماح لتوفير الخبز المدعم، وإما أنها ستضغط بشكل أكبر على موازنة الدولة لتحمل تكلفة إنتاجه المتزايدة جراء تراجع قيمة الجنيه وارتفاع فاتورة الاستيراد أو أنها ستتجه لتحرير أسعاره، وفي تلك الحالة ستكون أمام غضب شعبي محتمل، متوقعاً أن تتراجع الكميات الموزعة على مخازن التموين لتصنيع الدقيق المستخدم في الخبز المدعم، وأن يبقى التعويل على اتخاذ المزيد من إجراءات التوعية بالتقليل من استخدام الخبز في الوجبات الرئيسية واستبداله بمكونات أخرى.
تنتج مصر سنوياً 100 مليار رغيف خبز، بمعدل 275 مليون رغيف يومياً بسعر مدعم، بحسب بيانات مركز المعلومات بمجلس الوزراء، كما رفعت البلاد مخصصات دعم السلع التموينية لتصل إلى 90 مليار جنيه (ملياران و912 مليون دولار)، في الموازنة الحالية، بغية توفير رغيف الخبز والسلع الأساسية.
وتعاني مصر من نقص كبير في العملات الأجنبية بسبب ارتفاع تكلفة السلع المستوردة، بينما توفر الحكومة الخبز المدعوم لأكثر من 70 مليون نسمة.
وكان وزير التموين المصري علي المصيلحي قد صرح في وقت سابق بأن بلاده تدرس الموافقة على التعامل بعملات شركائها في تجارة السلع الأولية بما في ذلك الصين والهند وروسيا، في محاولة لتقليل الحاجة إلى الدولار.
وأضاف الوزير أن الحكومة المصرية "تفكر بشكل جدي" أن تعمل على الاستيراد من دول مختلفة وأن تعتمد العملة المحلية لتلك الدول مع العملة المحلية، مشيراً إلى أن الأمر لم يتم تنفيذه حتى الآن، إلا أن الحكومة المصرية قد بدأت بالفعل في السعي للتعاون مع الصين أو مع الهند أو مع روسيا، "إنما حتى هذه اللحظة لم يتم تحقيق صفقة".