أجمع باحثون وأكاديميون فلسطينيون على أن الأدوات الاستعمارية التي استخدمها الاحتلال خلال عقود ماضية، جعلت من الاقتصاد الفلسطيني مشوهاً وهشاً وتابعاً بجدارة لاقتصاد إسرائيل، الأمر الذي يتطلب استراتيجية وطنية أشمل وأوسع تسعى للتحرر من خلال التوجه إلى اقتصاد مقاوم، مؤكدين أن مساعدات الداعمين الدوليين للاقتصاد قد أسهمت في تقويض مشروع التحرر الوطني الفلسطيني عوضاً عن تدعيمه.
جاء ذلك ضمن مشاركاتهم في فعاليات اليوم الثاني لمؤتمر التحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية ما بعد اتفاق أوسلو، في نسخته الرابعة الذي انطلق السبت 6 مايو/أيار 2023، في إسطنبول.
وفي الجلسة الأولى لليوم الثاني والتي جاءت بعنوان "الاقتصاد الفلسطيني في ظل المؤثرات الخارجية"، قال طاهر اللبدي، باحث بالمعهد الفرنسي للشرق الأدنى Ifpo فرع القدس، إن إسرائيل تمنع أي قاعدة اقتصادية فلسطينية كبيرة معادية للاحتلال، لافتاً إلى أنَّ فهم الاقتصاد الاستعماري في فلسطين لا يزال يختزل العلاقات الاقتصادية في حدود السوق فقط، ويتجاهل الصراعات والقوى التي تنشأ في الاقتصاد نفسه.
وتابع اللبدي: "علماء الاقتصاد والتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا قدموا مقاربات بديلة ومواد قيّمة للتفكير بشكل مختلف حول الاقتصاد في هذا السياق، لكنه أمر لا يزال غير مدروس نسبياً في مجال الدراسات الفلسطينية".
وفي عرض ورقته البحثية، أشار اللبدي إلى أن دراسته تناقش الأسس المعرفية التي تقوم عليها الدراسات الاقتصادية كما تحدد موقعها العملي في علاقات القوة المستمرة، وتفتح المجال للاقتصاد لكي يساهم في التفكير العام حول تجديـد الأدوات النظرية والمنهجية لقراءة الواقع الفلسطيني.
التبعية الاقتصادية للاستعمار الاستيطاني
وحول منهجية التبعية الاقتصادية للاستعمار الاستيطاني، قالت رغد عزام باحثة ومحررة اقتصادية في مركز رؤية للتنمية السياسية، إنه بعد حرمان فلسطين من حقها في تقرير مصيرها، أُتبعت لاستعمار إسرائيلي قائم بالعقلية الاستعمارية التي سعت للإبادة الجماعية ومحو وجود السكان الأصليين، ثم العمل على إخضاع وتطويع من تبقى منهم في أرضه، واستغلال كافة مقدرات البلاد وثرواتها لتحقيق مصالح المستعمر.
وزادت: "إنه بعد ممارسة الاحتلال الإبادة الجماعية في شتى المدن والقرى الفلسطينية، اقترح وزير الحرب حينها (موشيه ديان) أن يتم استيعاب العمال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وتوفير فرص عمل لهم بهدف السيطرة عليهم والتحكم في توجهاتهم ودمجهم بما يضمن عدم انخراطهم في أعمال المقاومة ضد الاحتلال".
وبذلك، تضمن حكومة الاحتلال تبعية العمال الفلسطينيين والانصياع لأوامرها، مستغلة في ذلك حاجتهم الماسة لمصدر رزق لهم ولعائلاتهم، وفي الوقت نفسه الاستفادة منهم كأيدٍ عاملة رخيصة التكلفة.
كما أكدت رغد أن هذه الخطوة لم تكن عشوائية لحكومة الاحتلال، بل كانت سياسة انتهجها المستعمر طوال سنواته الطويلة "مع اختلاف مساراتها تبعاً للمتغيرات في البنية الاستعمارية"، وتنبع هذه السياسة من الإدراك المتأصل للفكر الاستعماري بأن الاستقرار الاقتصادي في المناطق المستعمرة شرط أساسي لديمومة الاستقرار الأمني في تلك المناطق.
واستكملت رغد: "الأدوات الاستعمارية التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود الماضية، أودت بمستقبل التنمية الاقتصادية في فلسطين وجعلت الاقتصاد الفلسطيني مشوهاً، هـشاً، وتابعاً بجدارة لاقتصاد الاحتلال".
أما بخصوص الحلول الاقتصادية لفلسطين، فقد أكدت الباحثة أن التوجه نحو اقتصاد مقاوم يسعى لتعزيز قدراته الاقتصادية الذاتية ويهدف إلى تقوية قاعدته الإنتاجية، سيسهم في دعم صمود الفلسطيني على أرضه ويزيد من فرصة تحقيق استقلاله السياسي والاقتصادي، في حال تم ذلك ضمن استراتيجية وطنية أشمل وأوسع تسعى للتحرر.
الدعم المالي الخارجي
وحول التحولات في الدعم المالي الخارجي وأثرها على الاقتصاد الفلسطيني، أوضحت ليلى فرسخ أستاذة مشاركة في العلوم السياسية بجامعة ماساتشوستس في بوسطن بالولايات المتحدة، أن المساعدات المقدمة من المجتمع الدولي لم تنجح في دعم تنمية الاقتصاد الفلسطيني، أو وضع الأسس للدولة الديمقراطية التي يتطلع إليها الشعب الفلسطيني.
وتابعت فرسخ: "مساعدات الداعمين قد أسهمت في تقويض مشروع التحرر الوطني الفلسطيني عوضاً عن تدعيمه، إذ إن معظم برامج المساعدة تم تصميمها وتنفيذها بمعزل عـن الواقع الفلسطيني المأزوم طوال ما يربو على خمسين عاماً من الاحتلال، والسياق الأوسع للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي".
علاوة على ذلك، فقد ساهمت هذه المشاريع في ترسيخ الأجندة النيوليبرالية، وفي الانقسام القائم حالياً بالسياسة الفلسطينية، وفقاً لفرسخ، كما أفرغت مشروع الدولة الفلسطينية من أي مقدرات تحررية، وجعلت الاقتصاد الفلسطيني أقل قابلية للحياة وأكثر اعتماداً على إسرائيل من أي وقت مضى.
المقاطعة الاقتصادية
وعن أثر تجارب المقاطعة الاقتصادية على الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، عرضت سامية البطمة، أستاذة في دائرة الاقتصاد بجامعة بيرزيت، ورقة بحثية تضمنت ثلاث مراحل: الأولى تغطي مقاطعة الدول العربية لإسرائيل بعد احتلال فلسطين عام 1948، أما الثانية فتغطي المقاطعة الاقتصادية خلال الانتفاضة الأولى، والمرحلة الأخيرة تغطي تأثير حركة المقاطعة العالمية منذ عام 2005 .
وبحسب البطمة فإن هناك تأثيراً واضحاً لحملات المقاطعة الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي بمجالات التجارة والاستثمار وقطاعات الزراعة والصناعة والمالية العامة، ولكن تأثيرها السياسي يبقى أقل فعالية.
وحول المقاطعة العربية للمنتجات الإسرائيلية، فقد تسببت في خسارة تل أبيب 44 مليار دولار على مدى أربعة عقود بحسب تقدير الغرف التجارية الإسرائيلية.
كما أدت المقاطعة الفلسطينية للبضائع الإسرائيلية إلى خسائر كبيرة على الجانب الإسرائيلي وفقاً للبطمة، مشيرة إلى أنه بعد مرور ستة أشهر على بداية الانتفاضة انخفض حجم التجارة مع الضفة وغزة بما قيمته 50 مليون دولار.
وأكدت البطمة أن المقاطعة الشعبية لعبت دوراً هاماً في إعادة صياغة الوعي الوطني حول مقاومة الاستعمار وقدرة الفلسطينيين على تفعيل أدوات النضال.
وأشارت إلى أهمية تحويل الضغط الاقتصادي إلى مكاسب سياسية على المدى الطويل، كما حصل في جنوب إفريقيا.
ويُنظم المؤتمر الذي استمر يومين، مجموعةُ العمل من أجل فلسطين، التي تضم منتدى الشرق، ومركز رؤية للتنمية السياسية.
يُذكر أن مجموعة العمل من أجل فلسطين، المنظِّمة للمؤتمر، تشكَّلت قبل 3 سنوات، وتهدف إلى دراسة التحولات في المجتمع الفلسطيني، في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة، والأراضي المحتلة عام 1948، والخارج.