عُرف اتفاق أوسلو بأنه إعلان للمبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي ولاتفاقية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل عام 1993، ومن حينها طرأ على المجتمع الفلسطيني تغيرات كثيرة ترتبت عليها تداعيات لا يزال الفلسطينيون يعانون منها حتى اليوم.
أثار الأمر نقاشاً بين نخب فلسطينية عدة، تناول التحولات في البنى الاجتماعية الفلسطينية ما بعد اتفاق أوسلو، والنتائج التي ترتبت عليه والتداعيات المستمرة التي انعكست في غالبها سلباً على الشعب الفلسطيني، بسبب الاحتلال الإسرائيلي ولعوامل داخلية أيضاً.
هذا النقاش احتضنه المؤتمر الرابع لمنتدى الشرق ومركز رؤية للتنمية السياسية في مدينة إسطنبول التركية بحضور عدد من النخب الفلسطينية، التي تناولت عبر أوراق بحثية التغيرات في البنى الاجتماعية والاقتصادية ما بعد اتفاق أوسلو، على يومين 6-7 مايو/أيار 2023.
لماذا مرحلة ما بعد أوسلو؟
مدير مركز رؤية، أحمد عطاونة، أوضح لـ"عربي بوست"، أن سبب اختيار مرحلة ما بعد أوسلو للتباحث والدراسة في المؤتمر، أنها تكاد تكون الحقبة الأطول والأكثر تأثيراً على الفلسطينيين منذ الانتداب البريطاني وما تلاه من احتلال إسرائيلي حتى اليوم، بأكثر من اتجاه وأكثر من مستوى.
أوضح أن حضور مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو العميق والقوي، جعل الحالة الفلسطينية بالمستوى الحالي من الإرباك والفوضى، وعدم القدرة على تجاوز العقبات التي تواجه الفلسطينيين.
بحسب عطاونة، فإنه نتيجة لأوسلو، فالمشهد الفلسطيني يظهر اليوم بحالة من الانسداد وعدم التوافق وعدم الوضوح في البرنامج الوطني والمسار الوطني الفلسطيني.
وقال إن "التجزئة التي فرضها الاحتلال على الفلسطينيين زادت من حالة الإرباك، وتركت كل كتلة فلسطينية تبدو وكأنها تبحث عن مقاربة وخصوصية منفردة، فغزة باتت لها خصوصية عالية تخص القطاع وتركيبته، وكذلك الـ48 والضفة، وحتى الشتات الفلسطيني، إلى جانب ذلك، الحديث بات اليوم عن دولة ثالثة هناك في الضفة، وهي دولة المستوطنين، يضاف إليها المخاوف من الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية".
تبعات خطيرة لاتفاق أوسلو
الباحث والأكاديمي في العلوم السياسية والاقتصاد السياسي إبراهيم ربايعة، أحد المشاركين في المؤتمر، علق على ذلك أيضاً في حديث مع "عربي بوست"، مشيراً إلى أن أوسلو كاتفاق مرحلي انتهى عام 1999، وبعد ذلك نحن نعيش تبعاته حتى اليوم.
وقال إن "التبعات التي يعيشها الفلسطينيون بعد اتفاق أوسلو هي تبعات الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل من جانب واحد، وكل التعقيدات في الحالة الفلسطينية والعربية خلقت عجزاً مستداماً، وهذا كله أدى إلى غياب رد الفعل وغياب الاستجابة الفلسطينية العربية الفاعلة التي يمكن أن تغير الواقع".
تناول كذلك التحولات الاجتماعية بالنسبة للفلسطينيين في الضفة، التي تعاني من تصنيفات إدارية وأمنية عدة، إثر تصنيف مناطقها بعد أوسلو تحت مسمى مناطق "أ" و"ب" و"ج".
أشار في هذا الصدد، إلى أن هذه التصنيفات تجعل هناك قناعة بأنه لا يوجد سيادة فلسطينية في الأرض المحتلة، فاليد العليا هي للاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، الذي يهندس الحيز العام، وما ينتج عنه من انعكاسات اجتماعية واقتصادية.
المناطق المصنفة "ج" تتركز فيها التغيرات الاجتماعية إثر هذا التصنيف، بحسب ربايعة، الذي أوضح أن الوجود الفلسطيني يغيب هناك، حيث الكثافة السكانية الفلسطينية قليلة.
تعد منطقة "ج" حزام الاستيطان وتعكس إعادة تشكيل المكان، بسبب ما شهدته من العزوف الإجباري عن الوجود الفلسطيني فيها، بسبب منظومة القوانين الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال، فإن من يعمل في مناطق الأغوار على سبيل المثال، يسكن في الجبل ولا يسكن في الغور، ويتنقل بشكل يومي بينهما، وهذا خلق تكدساً في المدن الفلسطينية والقرى المصنفة "ب"، لأن الخدمات التي يمكن أن يحصل عليها الفلسطيني في هذه المنطقة أكثر وضوحاً وأكثر دقة، مقارنة مع مناطق "ج"، بحسب الربايعة.
أوضح أيضاً أن هناك كذلك بعض المناطق التي نشأت وتكوَّنت كحيز اجتماعي بفعل التداخل في السيادة والسيطرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ليخلق في هذه المناطق في الضفة فقاعات اقتصادية، وهي في الكثير من الأحيان انفجرت، وخلقت حالة من الفقر التنموي.
صفة "مقيم مؤقت" للفلسطيني
من أخطر ما يتعلق بهذا الأمر، ما لفت إليه الربايعة بأن الفلسطيني يحمل في الأرض المحتلة صفة مقيم مؤقت، بالتالي فإن إسرائيل من الممكن أن تمنعه من أن يرجع إلى الأرض المحتلة في حال سافر، أو من الممكن أن تصادر البطاقة الخضراء التي بات يملكها بعد اتفاق أوسلو للتنقل، أو أن يقوم أي مجند إسرائيلي بتمزيقها ببساطة.
لكنه رأى أن "المشكلة القائمة تتمثل بالاحتلال كاحتلال، فهذه سياسة من سياساته للسيطرة والتحكم والرقابة".
عند سؤاله إن كان الاحتلال الإسرائيلي وحده من يتحمل مسؤولية التبعات والتغيرات السلبية في البنى الاجتماعية، أم أن هناك أسباباً داخلية فلسطينية أيضاً، قال إن "الاحتلال هو المسؤول أولاً وأخيراً، ولكن أيضاً التعقيدات في المشهدين العربي والفلسطيني بعد ثورات الربيع العربي والانقسام الفلسطيني فاقما من المشكلة أكثر".
أشار في هذا الخصوص إلى منظومـة سياسات الاحتلال بالاستحواذ علـى أكبـر أرض ممكنة بأقـل سكان، وتكوين المعازل المانعة للكيانية الفلسطينية والمعززة لأدوات التحكم والرقابة والسيطرة.
وشدد على أن "المعازل الاجتماعية التي تسبب بها الاحتلال الإسرائيلي مقسمة إلـى معـازل انتظـار تتسم بعـدم اليقيـن، والمعـازل الضيقـة التـي بـدأت مـع بدايـة الاحتلال عـام 1967، ومعزل عريض عابر للجغرافيا يتمثل فــي المناطق المصنفة "ج"، وهــي معازل مستمرة بالانتشار، وفـق منظومـة استعمارية مدروسة".
وحذر "من استمرار السياسة الإسرائيلية بحشر الفلسطينيين علـى أقـل مسـاحة أرض ممكنة، دون تواصل واتصال مستدام، ما يجعـل هـذه المنظومـة مرشحة للاتساع، وإعادة إنتـاج السياقات الاجتماعية والاقتصادية الفلسـطينية".
القدس ووحدة الساحات الفلسطينية
في سياق آخر، تناول أستاذ العلوم السياسية والباحث الفلسطيني منصور النصاصرة، في حديث خاص مع "عربي بوست"، وحدة الساحات الفلسطينية وهي المعادلة التي فرضتها المقاومة الفلسطينية في جولات التصعيد الأخيرة مع الاحتلال الإسرائيلي.
أشار النصاصرة إلى أن وحدة الساحات الفلسطينية يجب أن تتقدم على خصوصية أي جزء من الأراضي الفلسطينية، إلا أنه رأى أن القدس تعد القضية الجامعة وفي قلب الإجماع الفلسطيني وأنها توحده ولا تفرقه.
فالحديث عن خصوصية القدس والأقصى لا يُجتزأ عن الكل الفلسطيني، والرغبة الفلسطينية أحياناً في إعطائها خصوصيتها لن تعزل قضيتها ولن تجعلها وحدها، بل لتتصدر المشهد في ظل التصعيد الإسرائيلي الخطير ضدها، بل إن ذلك سيتسبب بتوحيد الساحات الفلسطينية بوجه السياسات الإسرائيلية التي تستهدف القدس خاصة، وفق قول المتحدث ذاته.
أشار كذلك النصاصرة في ورقته البحثية التي عرضها في المؤتمر، إلى خطورة ما شهدته فلسطين عقـب توقيع اتفاقيات أوسلو، حيث انتهجت إسرائيل سياسات تهجير صامتـة لتسريع عملية تفريغ شرق القدس مــن سكانها، من خــلال سحب بطاقــات الإقامة والهوية، ومنع لمّ شمل الأسر، وهدم المنازل، وعـدم منــح تصريح للبناء، وفرض ضرائب طائلة على الاقتصاد المقدسي، وتكريس الظروف المعيشية الهشة، التي أدت إلى نزوح "خفــي" لبعـض سـكان القـدس إلـى ما وراء الجدار الفاصل إلـى الضفـة الغربيـة وخارجها.
وقال: "لم تعمل هـذه الاستراتيجيات البيروقراطيـة علـى جعل الحياة اليومية للفلسطينيين فـي شرق القدس هشة فحسب، بـل تمادت إسرائيل في ممارساتها العنيفة الكولونيالية تجـاه السكان الأصليين وكافة مركباتهم".
أكد أنه "بعـد توقيـع اتفاقيات أوسلو، سارعت إسرائيل الخطى فـي عمليـة ضـم الأراضـي الفلسـطينية فـي شرق القدس المحتلة، مقصية سكانها الفلسطينيين. ومــن خــلال استعراض وضـع مدينــة القــدس المحتلة اليوم مــن مختلف الزوايـا، واستناداً إلى بحث ميداني موسع، تشير هذه الدراســة إلــى أنه وبعــد 29 عامـاً مـن توقيع اتفاقيات أوسلو، استطاعت إسـرائيل تأصيل فصـل فلسطينيي القـدس الشرقية عـن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة علــى الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بسياساتها الممنهجة لعزل القــدس عــن الضفـة الغربيـة، ما أدى إلى تفريغ شرق القدس مــن أي كيان سياسي فلسطيني".
ختم النصاصرة بالقول إنه "مع استمرار إسرائيل في سياساتها لفصــل شرق القدس عــن الضفة الغربية، تضاءل دور القيادة الفلسطينية فـي رسم مسـتقبل المدينـة، علـى الرغـم مـن تطلعاتهـا بأن تكـون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية".