رغم وجود عدة إجازات رسمية خلال الأسبوعين الماضيين في مصر مثل عيد الفطر وعيد تحرير سيناء وعيد شم النسيم، إلا أن أصحاب محال المشغولات الذهبية فضلوا العمل أثناء أيام الإجازة مع زيادة الطلب وارتفاع سعر الذهب.
ويأتي ذلك نتيجة تخوفات قطاعات كبيرة من المواطنين في مصر إقدام حكومتهم على تعويم جديد للجنيه عقب عودة عمل البنوك والمؤسسات الحكومية الرسمية، ما حول سوق الذهب إلى ما يشبه حالة الكر والفر بين مواطنين يحاولون الحفاظ على مدخراتهم، وأسعار الذهب التي سبقتهم وارتفعت إلى مستويات قياسية خلال الأسبوع الماضي.
وشهد سعر جرام الذهب زيادة قدرها 300 جنيه يومياً، يومي الأربعاء والخميس الماضيين، ما أدى إلى وقف بعض محال المشغولات الذهبية البيع والشراء بسبب تقلبات السوق على مدار اليوم الواحد وعدم استقرار سعر الذهب الذي يشهد زيادة آنية.
وعبر سوق الذهب عن حالة فقدان ثقة المواطنين في اقتصادهم الوطني، ومنح احتمالات إضافية لإمكانية تراجع قيمة الجنيه بعد أن جرى تداول سعر جرام الذهب على قيمة سوقية للجنيه وصلت إلى 50 جنيهاً في مقابل الدولار، في حين أن أسعاره في البنوك الرسمية لم تتجاوز بعد 31 جنيهاً للدولار الواحد.
وكان اللافت أن الحكومة لا تتدخل للسيطرة على سوق الذهب. وصرح الدكتور علي المصيلحي وزير التموين والتجارة الداخلية، السبت 29 أبريل/نيسان، أن الوزارة لا تستطيع فرض آليات للسيطرة على أسعار الذهب، فالسوق عرض وطلب. وأردف: "كمية الذهب في مصر محدودة جداً وهناك فجوة في الأسعار. من يملك ذهباً لا يبِعه".
الحل من وجهة نظر الوزير هو أنه سيتقدم بمقترح لمجلس الوزراء للموافقة على السماح للمصريين العائدين من الخارج بإدخال كميات محدودة من عملات الجنيه الذهب دون جمارك، لأن جلب تلك الكميات سيعمل على زيادة المعروض في السوق وبالتالي تنخفض الأسعار.
وأوضح خبير اقتصادي مقرب من الحكومة المصرية أن حجم مبيعات الذهب تضاعف خلال أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وتسبب في خفض سعر الدولار في السوق السوداء بقدر قليل، لأن قطاعاً كبيراً من المواطنين أدرك أن مكاسب الذهب قد تفوق الدولار الذي يحافظ على ثباته النسبي في السوق السوداء خلال آخر أسبوعين من شهر رمضان، وعقب انقضاء إجازة العيد، مشيراً إلى أن ما يحدث في سوق الذهب يترك آثاراً إيجابية وسلبية في الوقت ذاته.
فوضى سوق الذهب تساعد الحكومة على تأخير التعويم
وكشف مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" أن الوضع الحالي لسوق الذهب يروق للحكومة، لأنه يساعد على عدم اتساع الفجوة الحالية بين سعر الدولار وسعر صرف الجنيه في البنوك الحكومية والسوق السوداء، ويدعم مساعي الحكومة نحو التباطؤ في الإقدام على خطوة التعويم الرابع للجنيه مع إمكانية تحريك سعره بشكل تدريجي في البنوك الرسمية.
لكن المشكلة التي لا يدركها البعض -بحسب المصدر- هي أن الإقبال المتنامي على الذهب يجعل هناك حالة فوضى في سوق مبيعات المشغولات الذهبية قد يكون لديها انعكاسات مباشرة على الاقتصاد المحلي.
وأوضح أن بعض تجار الذهب قاموا بتقدير السعر الدولاري يوم الخميس بـ45 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، في حين أن بعض المحال مع زيادة الإقبال على الشراء وتراجع المتاح من المشغولات الذهبية مع ارتفاع الطلب قامت بتقدير السعر الدولاري بـ50 جنيهاً، ومع ذلك استمرت عملية إقبال المواطنين، ما يشي بأن قيمة الجنيه لم يعد لديها أهمية تذكر لمن يسعون للحفاظ على مدخراتهم، ويجعل هناك هواجس مستمرة بأن تصل قيمة العملة المحلية إلى هذا السعر.
وتجاوز سعر الذهب محلياً في مصر سعر صرف الدولار بالعقود الآجلة والتي تقدر بنحو 44 جنيهاً، ولامس سعر غرام الذهب عيار 21 الأكثر انتشاراً في مصر حاجز 3000 جنيه قبل أن يتراجع السبت إلى 2700 جنيه، في ظل هدوء حذر سيطر على الأسواق انتظاراً لما ستقدم عليه الحكومة مستقبلاً بشأن تعويم الجنيه، وكذلك انتظاراً لأسعار الذهب العالمية قبل انعقاد اجتماع البنك الفيدرالي الأمريكي في 2 – 3 مايو/أيار المقبل.
وشهدت أسعار المعدن النفيس عالمياً ارتفاعات جديدة لتلامس الأوقية مستوى 2000 دولار، قبل أن تعود وتتراجع بشكل طفيف، ليستمر التذبذب هو المسيطر على تحركات الذهب للأسبوع الثاني على التوالي، بينما تنتظر الأسواق بيانات مهمة هذا الأسبوع تبدأ في الصدور يوم الخميس المقبل، بحسب "غولد بيليون".
وسجلت أسعار الذهب الفورية أعلى مستوى عند 2000.86 دولار للأونصة قبل أن تعود إلى مستوى 1988.68 دولار للأونصة. وانخفضت أسعار الذهب منذ تسجيلها أعلى مستوى في عام 2023 عند 2048.76 دولار للأونصة بنسبة 2.9%، وذلك بعد تصريحات من قبل أعضاء البنك الفيدرالي بشأن ضرورة استمرار رفع الفائدة من قبل الفيدرالي لمواجهة التضخم المستمر، وهو الأمر الذي أثر بالسلب على سعر الذهب الذي يعد مخزناً للقيمة ولا يقدم عائداً.
سوق الذهب.. حبس للسيولة في أصول غير منتجة
وأشار خبير اقتصادي على صلة بملف السياسات المالية المصرية، إلى أن ما يحدث في سوق الذهب المصري حالياً يشبه "الجنون"، وأن تداعياته ستكون خطيرة، لأنه لا يستطيع أحد إيقاف موجة الشراء التي تأخذ في التصاعد يوماً تلو الآخر.
كما أنه لا أحد يستمع لأية نصائح توجهها غرفة تجارة الذهب أو حتى تجار المشغولات أنفسهم بأن الزيادات الحالية قد تتراجع وأن الوقت ليس مناسباً للشراء، ما يبرهن على فقدان الثقة في كافة أطراف المنظومة الاقتصادية ذات الارتباط بالجهات الحكومية.
ولفت إلى أن الأسعار وصلت إلى مستويات قياسية ومبالغ فيها، وما يحدث الآن اندفاع نحو الشراء دون تفكير في عواقب هذا السلوك، وهو أمر تكرر من قبل مع أسهم البورصة المصرية التي كان متوقعاً ارتفاعها قبل أكثر من عقد لكنها في نهاية الأمر مُنيت بخسائر فادحة.
وأشار إلى أن الجزء الأكبر من المواطنين الذين يقدمون على شراء الذهب معذورون لأن سعر الجنيه في تراجع مستمر، كما أن فرص الاستثمار ضئيلة للغاية ويصعب تحقيق الأرباح وفقاً لحالة الاقتصاد المصري الراهنة مع مضاعفة أسعار الخدمات التي تفرضها الحكومة على أصحاب المشروعات الصغيرة.
وتابع قائلاً: "ما يحدث الآن يعد خطراً داهماً على الاقتصاد والاستثمار والإنتاج والصناعة المحلية، وأن الاقتصاد المصري بحاجة إلى سيولة في الأصول الإنتاجية بما يساعد أولاً في دوران عجلة الإنتاج، إلى جانب رفع معدلات التصدير والاستفادة من دخول عملة صعبة إلى البلاد تقلص الفجوات التمويلية المتصاعدة، وما يحدث الآن هو حبس للسيولة في أصول غير منتجة، وبالتالي فإن الاقتصاد لا يستفيد منها".
سعر الذهب.. ثلاثة خيارات أمام المواطن
ويبقى من يستثمرون أموالهم في الذهب أمام خيارات عديدة، فإما الاتجاه نحو البيع مع تحقيق هامش ربح جيد، ويكون ذلك على المدى القصير، وهو أمر لا يحدث إلا قليلاً، بحسب أحد تجار الذهب الذي تواصل معه "عربي بوست".
أما الخيار الثاني فيتمثل في البيع بخسارة في حال حدوث تراجع في أسعاره، وهو أمر غير متوقع في ظل زيادة توقعات انخفاض قيمة الجنيه دون توفير عوائد دولارية تضمن عدم وجود سعرين للصرف. أمام الخيار الثالث فيتمثل في تخزين الذهب لسنوات طويلة وبيعه وقت الحاجة.
وأوضح المصدر ذاته أن كثيراً من رجال الأعمال والمواطنين يرون أن هناك أكثر من احتمالية لتحقيق مكاسب سريعة وقوية عبر المضاربة في الذهب، لأن انخفاض قيمة الجنيه المحلي بمقدار جنيه واحد يتم تسعيره بمقدار 5 جنيهات أو أكثر في العقود الآجلة، كما أن اتجاه الأسعار عالمياً نحو الصعود يجعل هناك فرص أخرى للمكسب.
وأشار إلى أن تضييق أجهزة الأمن على تجار الدولار وإلقاء القبض على عدد من المضاربين فيه كان سبباً في الاتجاه نحو الذهب، وأن قطاعات من التجار والمواطنين المضاربين في الدولار تحولوا إلى الذهب مؤخراً، وهو ما تسبب أيضاً في زيادة الأسعار بشكل مبالغ فيه خلال الأيام الماضية.
وكانت منصة "آي صاغة" (منصة لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت) قد أعلنت تعليق نشر سعر الذهب خلال تعاملات الخميس والجمعة الماضيين لحين ضبط السوق لعملية التسعير، وأرجعت ذلك لما سمّته "استمرار حالة التلاعب التي انتهجها القائمون على السوق منذ قرار تحرير سعر الصرف بالعام الماضي، والتي أدت لاعتماد تسعير محلي غير عادل يتسم بالمبالغة، ولا يرتبط بمحددات السوق بأسعار البورصة العالمية، وسعر صرف الدولار الرسمي وآلية العرض والطلب".
وأكد المدير التنفيذي للمنصة، في بيان صحافي، أنها (المنصة) ليست جهة تسعير، لكنها تلعب دوراً وسيطاً بين جهات التسعير من تجار الذهب الخام، والمستهلكين. وتحاول المنصة توضيح اتجاهات العرض والطلب داخل السوق، وتسلط الضوء على أي تلاعب وتداول أسعار غير منطقية، تحقق مصالح وأهواء البعض داخل السوق.
وأضاف أنه فور إعلان المنصة على صفحاتها تعليق نشر الأسعار، طالبها البعض بعدم التعليق وطالبها آخرون بالتراجع، وطالبها البعض بالإبلاغ عن تلك الممارسات للجهات المعنية، أو اتخاذ موقف حاسم تجاه المتلاعبين.
وأشار، إمبابي، أن الظرف الحالي ظرف صعب، والسوق يشهد متغيرات كثيرة، والأسعار المتداولة بالأسواق المحلية انفصلت فعلياً عن الأسعار بالبورصة العالمية، وارتبطت الأسعار بالأهواء والمصلحة، وألمح لوجود تلاعب من جانب التجار بتأكيده على أن "ذريعة العرض والطلب يلجأ إليها المتلاعبون لإخفاء جريمتهم في حق المواطنين، والسوق يتفاعل مع حركة ارتفاعات السعر العالمي، وينفصل عنه وقت التراجع".
ويتم تداول أسعار الذهب بما يزيد عن 30% على المعدلات السائدة على شاشات بورصات الذهب العالمية طوال الأيام الماضية، متأثراً بتوقعات زيادة الفائدة على الدولار، وكذلك مع تزايد إقبال المواطنين، بحسب ما أوضحه يسري محروس صاحب أحد محال المشغولات الذهبية بمحافظة الجيزة، مشيراً إلى أن ما يحدث الآن يشبه الفقاعة التي قد تنفجر في وجه الجميع بسبب عدم ثقة المواطنين في الاقتصاد المحلي.
الذهب وسيلة للحفاظ على السيولة
ولم تنجح جهود الحكومة المصرية نحو توجيه أموال المواطنين نحو البنوك؛ لأن شهادات الادخار التي تطرحها المصارف من وقت إلى آخر بسعر فائدة يقل كثيراً عن معدل التضخم الأساسي والذي تجاوز 40%، باتت لا تُجدي نفعاً ولا تُقنع كثيراً المدّخرين في ظل غلاء متواصل لأسعار السلع الغذائية والاستهلاكية، وتآكّل قيمة العملة، وفشل اقتصادي كبير لا تخطئه العين.
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست" أن أغلب عمليات الشراء تتم للسبائك الذهبية، والتي تبدأ من 2 ونصف غرام في سوق الذهب المصرية، وتزداد مع الوقت، فيما تقل بشكل كبير عمليات الشراء للمشغولات الذهبية والتي تعاني ركوداً شديداً خلال الفترة الأخيرة نتيجة الإقبال الكبير على شراء سبائك الذهب عيار 24، والتي يبلغ سعر الجرام الواحد منها 3200 جنيه.
ويؤكد أن قيمة ما يقتنيه المواطنون يتوقف على قدرة الشخص وحاجته للشراء أو البيع، وينفي أن تكون عمليات الشراء بهدف المضاربات في المقام الأول، وأن حالة الاندفاع نحو الذهب ترجع لرغبة الجمهور في الحفاظ على قيمة السيولة المتوافرة لديهم بالجنيه، وعدم قدرتهم على توظيف الأصول المالية في مشروعات تجارية أو صناعية تواجه التصاعد الهائل في التضخم وتدهور العملة.
وسجل سعر الجنيه مقابل الدولار 37 جنيهاً في السوق السوداء، و44.6 جنيهاً بالعقود الآجلة، لمدة 12 شهراً، وتوقع تراجعه رسمياً من 31 جنيهاً إلى ما بين 34 إلى 35 جنيهاً عاجلاً، ليصل إلى 44 جنيهاً، بنهاية العام.
وتوقع محللو وكالة "ستاندرد آند بورز" أن يواصل الجنية تراجعه مع خفض النظرة المستقبلية لمصر إلى سلبية، وأن يصل انخفاض الجنيه إلى نحو 53٪ من قيمته، في يونيو/حزيران المقبل، عما كان سائداً عليه في بداية السنة المالية الحالية 2022-2023، على أن يستمر بالتراجع بمعدلات أقل خلال السنوات المقبلة.
تصنف الوكالة مصر عند مستوى "بي آي" بسبع درجات أعلى من مستوى التخلف عن السداد، رغم ارتفاع احتياطي البلاد من العملة الصعبة إلى 34 مليار دولار.
تتفق "ستاندرد آند بورز" مع خبراء صندوق النقد الدولي، الذين أجلوا حسم منح الحكومة الدفعة الثانية من قرض بقيمة إجمالية قيمته 3 مليارات دولار، في عدم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي التزمتها مصر، نهاية العام الماضي، تشمل طرح شركات حكومية أمام المستثمرين الأجانب وفي البورصة المحلية، وتطبيق سعر الصرف المرن.
إطلاق أول صندوق استثمار في الذهب
التفتت الحكومة المصرية لاتجاه المواطنين نحو شراء الذهب، إذ يستعد سوق المال في مصر لإطلاق أول صندوق استثمار في الذهب، وذلك بعد إصدار هيئة الرقابة المالية الضوابط المنظمة لتعامل صناديق الاستثمار في المعادن كإحدى القيم المالية المنقولة.
ويستهدف الصندوق السماح للمؤسسات والأفراد بالاستثمار في الذهب دون شراء الذهب العيني نفسه، ولكن عبر وثيقة صادرة عن الصندوق تحدد كمية الجرامات التي يمتلكها كل مستثمر.
وسيعلن عن قيمة الحد الأدنى للاستثمار في الصندوق عبر امتلاك كمية جرامات من الذهب داخل الصندوق، ويستثمر الصندوق الذهب لصالح المستثمرين فيه، وعند التخارج يستطيع المستثمر الحصول على ما يمتلكه من ذهب أو ما يعادله من أموال.